“بلا ولا شي” أودّع خلفك خيباتي وأكتشفك أكثر

أتساءل إن كان لي حقّ في الكتابة عن زياد. زياد الذي غادرنا “على غفلة”، غفلة عمّن هم من جيلي، ممّن لم يشهدوا الحرب الأهليّة لكنّهم يعيشون ما أفرزته اليوم، غفلة عمّن لا يملكون في جعبهم سوى قليل من المعرفة العميقة في السياسة. غادرنا زياد تاركًا الحزن والشوق والأماني بحضور حفلة واحدة له كي نقول للأجيال القادمة ولبناتنا وأبنائنا إنّا شهدنا حفلة لزياد الرحباني.

سأكتب لزياد كواحدة من عامّة الشعب بما أنّني أعيش حالة “الخراء” التي تحيط بالكوكب كلّه لأقول شكرًا زياد، من معجبة بسيطة متخلّفة عمّن ألهمهم زياد وعرفوا وحفظوا جميع أغانيه ومسرحيّاته، عمّن تكوّن وعيهم السياسيّ من بذرة إبداعه وصدقه. أنا يا زياد لا أعرف كثيرًا عنك، لا أحفظ سوى قليل من أغانيك، لكنّني لن أخجل من هذا، حان الوقت. ها هو برحيله يعطينا أيضًا فرصة كي نعرفه.

أقرب أغاني زياد إلى قلبي “بلا ولا شي” و”معلومات مش أكيدة”. وممتنّة أنّي شاهدت “بالنسبة لبكرا شو؟”. سأكتب عن زياد بعيدًا من الإرث الساخر من السلطة الذي تركه، بعيدًا من السياسة، فهذا ليس “كاري”، بل عن فيروز وزياد والحبّ وانتمائي إلى هذا الوطن بالخيبات، بالحقد على الاحتلال، وبالحبّ للجنوب. وربّما يبدو هذا للبعض “سطحيّة” في معرفة زياد. ولكن، زياد في رحلته هذه منذ أيّام أنبت فيّ إحساسًا غريبًا بالحبّ، جديدًا، طفوليًّا، ناضجًا ربّما. لأنّ زياد في مشواره الأخير شرّدني بين طرفيّ الحبّ، وكأنّ جميع أغانيه عن الحبّ، وقصصه مع الحبّ، تشظّت فيَّ وأنا أراقب الحبيب الأوّل يصفّق لزياد من بعيد، وأنا أصفّق لبداية مشواري في معرفة زياد وتوديع الحبيب الأولّيّ. تأخرّت؟ خسارة!

من مراسم توديع زياد الرحباني في الحمرا
اللقاء الأخير

هكذا، وقفت في اللقاء الأخير معه بين جموع محبّيه أراقب الباكين والباكيات بحرقة على “رفيقهم” ونوتات “أبو علي” في رأسي. شاعرة بشيء من حرقة قلوب أصدقائه عليه لأنّني تذوّقت معنى الفقد، الفقد بوجوه مختلفة، و”الفقيد” اليوم زياد موطنهم وابن فيروز الوطن.

في التجمهر الأخير حول هودج زياد وهو خارج من المستشفى، لمحت الحبيب الأوليّ من بعيد، فأعادت إليّ الصورة صوته وهو يدندن “تعي نقعد بالفيّ، مش لحدا هالفيّ” يا الله يا زياد… لن أقول أنّه يا ليتني فهمت ما تقصد في هذه الكلمات منذ أوّل مرّة وقعت فيها هذه الكلمات على مسمع قلبي. لا بأس، سأخفّف عن نفسي وأقول ها قد فهمت اليوم، ولكن في الحقيقة أشعر بأسف على أنّها لمستني بشكل وزمن آخرين، لمستني في الوداع لا بجنون البدايات الجميلة، ولأنّ هذا حصل في مشوارك الأخير. لكنّني، خفّفت عن نفسي وحدة الاعتراف بالحبّ للحبّ الذي “خلصنا أنا ويّاه والمفروض ينساني وأنا أنساه والأوراق صفر وكبرنا بالعمر وما عاد في شي اسمه أنا ويّاه، لأنّي أنا حبّ وهو حبّ وانتهى”.

منذ فترة ليست ببعيدة عرفت بقصّتك مع الحبّ يا زياد، وسمعت الحبيبة تخبرنا من دون خجل عن الحبّ، فقلت في نفسي “طزّ بالإيغو، بحبّو ما يجاوبني بسّ يسمعها، أنا حبّ وهو حبّ وانتهى”. واليوم، علّمتني هي أيضًا في وقوفها أمام نعشك (حاولت كثيرًا تجنّب كلمة نعش لأنّك لم ترحل) عن الحبّ الصادق المولود من وجع القلب والخيبات والخالق للحبّ القاهر للموت والفراق.

“مش قصّة هاي”، ولكن أنت يا زياد قصّة كبيرة أختبرها اليوم “وملّا قصّة هاي”

خلف النعش

سرنا في الحمرا خلفك، على الرغم من أنّي لست من المخضرمين في عالمك وآرائك السياسيّة “يا عيب الشّوم علييّ” ستقول نخبة المثقّفين، لكنّني سرت خلفك بخيبتي من هذا البلد، بحنيني إلى شارع الحمرا قبل سنوات، بيأسي من هذا الخراب، بفرحتي الموجعة في توديع الحبّ، في رحيلك الأخير، بالشيء البسيط الباقي من أملي في هذه البلاد، وبكلّ حبّي لهذه البلاد.

سرت خلفك وأنا أخفي دموعي خلف نظّارتي، ربّما لأنّه لا يحّق لي الانهيار على نحو من حفظوا أعمالك عن ظهر قلب، مثل من رافقوك. سرت وأنا أعطي الحقّ لنفسي بالاعتذار فقط من نفسي، كوني تأخرّت كثيرًا عن الجمع.

لم أعرف “بّارومتر” كما يراها من هم من “الرفاق”، إنّما التقيت فيه بالحبّ للمرّة الأولى. هناك شعرت بالغيرة، وهناك غضبت من مشاعري بالحبّ للمرّة الأولى، كان “الإيغو ضاربًا” في حينه، ومن هناك هربت كي أقمع خيبتي وأعود بعدها إلى وحدتي وأسمع “عايشة وحدا بلاك” لأكذّب على نفسي وأدعمها بالسلوان بـ “بلا حبّه للولد”.

طعمًا مختلفًا للحب

في أغنياتك زياد اليوم، أتذوّق طعمًا مختلفًا للحبّ، يشبه أولى زيارة لي إلى شارع الحمرا قادمة من الجنوب، أوّل سكن لي في بيت الطالبات، أوّل خيباتي من بيروت في انفجار مرفئها، وأوّل طعم البدايات بالكتابة عن الحبّ بـ “بلا ولا شي” ولـ “ولا شي”. أوّل كأس، أوّل قبلة، وأوّل سيجارة في عمر خبرنا فيه الهموم، وأوّل جرأة في التوديع والاعتراف، وأوّل وآخر لقاء في حضورك.

أعتذر يا زياد إذ إنّي أكتب عن نفسي في حضرة سفرك الأخير وثقله على قلوب محبّيك، لكنّ هذا ما صنعته فيّ، ولّدتَ فيّ إحساسًا جديدًا بالحبّ، حبّ هذه البلاد وأنا ألعنها كلّ يوم، حبّ الحبّ بذاته وأنا أودّعه والحبّ لك في حضرة إلى اللقاء.

“مش قصّة هاي”، ولكن أنت يا زياد قصّة كبيرة أختبرها اليوم “وملّا قصّة هاي”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

زر الذهاب إلى الأعلى