بلديّات جديدة وصناديق خاوية فكيف السبيل إلى الإنماء؟

على رغم الإشادة المحلّيّة والدوليّة بإنجاز الاستحقاق البلديّ والاختياريّ الذي أجري بنجاح قبل أكثر من شهر، إلّا أنّه ينطبق عليه المثل الشعبيّ “راحت السكرة وإجت الفكرة”، إذ تواجه البلديّات الجديدة المنتخبة في منطقة بعلبك- الهرمل تحدّيات جمّة تهدّد قدرتها على القيام بأبسط واجباتها تجاه السكّان. وهذا الأمر يطرح تساؤلات حقيقيّة حول قدرة هذه البلديّات على تنفيذ المهام الإنمائيّة والإداريّة في ظلّ غياب التمويل، وعجز الصندوق البلديّ المستقلّ، وغياب أيّ دعم من مؤسّسات الدولة المركزيّة.
واقع وجدت هذه البلديّات نفسها فيه يعكس عجزًا هيكليًّا في آليّات العمل البلديّ، والمترافق مع تفاقم المديونيّة، واهتراء البنية التحتيّة الإداريّة والخدماتيّة، وتراجع الإيرادات البلديّة إلى مستويات خطيرة. في بعلبك المدينة مثلًا، والتي تُعتبر من أكبر بلديّات المنطقة، يواجه المجلس البلديّ الجديد واقعًا ماليًّا صعبًا أدّى إلى عجزٍ كبير، في ظلّ مطالب خدماتيّة تفوق الإمكانات المتوافرة.
لكن وفي وسط هذا المشهد القاتم، تبرز مبادرات محلّيّة وخيارات بديلة تسعى إلى تعويض الشلل الماليّ، من تعاونيّات ومؤسّسات أهليّة إلى محاولات تنظيم الجباية وتحسين الاستثمار البلديّ. كذلك يُطرح النقاش حول مدى استقلاليّة القرار المحلّيّ، ودور الشراكات مع المجتمع المدنيّ والمنظّمات الدوليّة في دعم المجالس الجديدة.
صندوق بلديّة بعلبك مفلس
في مكتبه بمبنى البلديّة، يتحدّث أحمد الطفيلي، رئيس بلديّة بعلبك المنتخب حديثًا إلى “مناطق نت”، حول الواقع الماليّ الكارثيّ الذي تواجهه البلديّة، منذ اللحظة الأولى لتسلّمه المسؤوليّة. يقول الطفيلي: “بدءًا من اللحظة الأولى لاستلام مهامنا، اكتشفنا أنّنا أمام تركة ماليّة ثقيلة. الصندوق البلديّ مفلس فعليًّا، ومديونيّة البلديّة تتخطّى عشرات المليارات من الليرات، غالبيّتها ناجمة من فروقات رواتب وأجور موظفين وعمّال مضى على توظيفهم سنوات”.
الطفيلي: لدينا موظّفون يتقاضون رواتب كانت تُقدَّر بنحو 300 دولار شهريًّا قبل الأزمة، اليوم لا يمكن للبلديّة أن تدفع للواحد منهم سوى 100 دولار
يتابع الطفيلي: “لدينا موظّفون يتقاضون رواتب كانت تُقدَّر بنحو 300 دولار شهريًّا قبل الأزمة، اليوم لا يمكن للبلديّة أن تدفع للواحد منهم سوى 100 دولار، وهذا بحسب القدرة الفعليّة للصندوق، وهذا يعني أنّ الفرق المتبقّي يتحوّل تلقائيًّا إلى دين إضافيّ علينا. هذا النظام بحدّ ذاته يراكم عجزًا تلقائيًّا كلّ شهر”.
ويشير إلى أنّ “عدد الآليات الصالحة للعمل حاليًّا لا يتجاوز الـ 12 آليّة، وهذا يُمثّل تقريبًا ثلث القدرة التشغيليّة اللازمة لتغطية المدينة بأكملها”. أمّا السبب في ذلك فيوضح الطفيلي “كلفة الصيانة صارت خياليّة، وحتّى تبديل إطار سيّارة أو شراء زيت للمحرّك صار عبئًا. أحيانًا نضطرّ إلى سحب آليات من الخدمة لأنّ لا قدرة لدينا على إصلاحها”.
وعن موارد البلديّة، يشرح الطفيلي أنّ هناك ثلاثة مصادر رئيسة للموارد، منها الجباية المحلّيّة، مستحقّات الصندوق البلديّ المستقلّ، مشاريع من جهات مانحة أو منظّمات غير حكوميّة”. لكنّ الطفيلي يعلّق ساخرًا: “كلّ مصدر من هذه المصادر مكسور على طريقته”.
أزمة جباية
حول أزمة الجباية في بعلبك يقول الطفيلي: “تضمّ بعلبك نحو 40 ألف وحدة سكنيّة، لكن عندما دقّقنا في جداول المسح البلديّ، تبيّن لنا أنّ 10 آلاف وحدة فقط مسجّلة رسميًّا. ومن هذا العدد، هناك فقط 10 في المئة من سكّانها ملتزمون بدفع رسوم البلديّة. ما يعني عمليًّا، أنّ بلديّة بعلبك تعيش على فتات الجباية، والسبب الأساسيّ غياب التنظيم والرقابة خلال السنوات الماضية”.

ويردف الطفيلي “هناك حال تساهل قديمة، وخوف من ردّات فعل اجتماعيّة، خصوصًا أنّ الجميع يعرف الجميع في المدينة. لكن نحن نعمل الآن على حملة تنظيم شاملة تتمثّل بـ: إعادة مسح، تصحيح بيانات، إطلاق حملات توعية، وتفعيل الرقابة على المكلفين”.
إيرادات “القلعة” لا تكفي
حول الجباية من آثار بعلبك يشير الطفيلي إلى أنّ “بلديّة بعلبك تشارك وزارة الماليّة في جباية إيرادات هياكل بعلبك الأثريّة، وهي إحدى أبرز المعالم السياحيّة في لبنان. لكن ما تحصل عليه البلديّة لا يكاد يكفي تغطية أجور الشرطة البلديّة، وعددهم لا يتجاوز الـ 20 عنصرًا، وهو رقم هزيل مقارنة مع حجم المدينة ومساحتها”.
يشرح الطفيلي أنّ مستحقّات البلديّة من الصندوق البلديّ المستقلّ يتمّ دفعها من أموال جباية الدولة لقطاعيّ الكهرباء والاتّصالات، وغالبًا ما تأتي “بعد تأخير طويل، وأحيانًا تُدفع على سعر الصرف الرسمي القديم، أي 1500 ليرة لبنانيّة للدولار الواحد، على رغم أنّ كلّ الكلف البلديّة تُحسب على سعر السوق، ما يجعل هذه التحويلات غير واقعيّة وغير مجدية فعليًّا”.
ماذا عن “الأصول”؟
عن التعاون مع المنظّمات الدوليّة، يؤكّد الطفيلي أنّ “البلديّة لا تحصل على تمويل نقديّ مباشر، بل تستفيد من تنفيذ مشاريع تنمويّة مموّلة من جهات مانحة، مثل تعبيد طرقات، أو تجهيز إنارة، أو تأهيل حدائق. هذه المشاريع جيّدة للمدينة، لكنّها لا تسدّ العجز في البلديّة ولا تحلّ أزمتها الماليّة”.
الطفيلي: عندنا سوق تجاريّة كبيرة، نحو 40 في المئة من المحال التجاريّة فيها تتبع البلديّة، لكنّها مؤجّرة بعقود إيجارات قديمة، وبأسعار رمزيّة
ويوضح الطفيلي أنّ البلديّة تملك أصولًا كان يمكن أن تكوّن مصدر دخل كبير، لكنّها لا تستفيد منها كما يجب “عندنا سوق تجاريّة كبيرة، نحو 40 في المئة من المحال التجاريّة فيها تتبع البلديّة، لكنّها مؤجّرة بعقود إيجارات قديمة، وبأسعار رمزيّ. بعض التجّار يدفعون 50 ألف ليرة في الشهر، بينما قيمة بدل الإيجار السوقيّة للمتجر لا تقلّ عن 500 دولار، هذا ظلم للبلديّة”.
ويضيف “لو قُدّر لنا تطبيق قانون الإيجارات الجديد، لكان جزء كبير من أزمتنا تمّ حلّه، لكن للأسف، هناك نوّاب قدّموا طعنًا دستوريًّا بالقانون، وبالتاليّ نحن عالقون تحت قوانين قديمة لم تعد تنفع”.
ويختم الطفيلي حديثه برسالة إلى أهالي بعلبك فيقول: “نحن جادّون في العمل. بدأنا بخطّة لتنظيم المدينة، إزالة التعدّيات، تسطير محاضر ضبط بالمخالفات، إعادة هيكلة الجباية وتفعيل الشفافيّة. وهذا يتطلّب تعاون الناس معنا، فالبلديّة لا يمكنها فعل شيء إذا لم تكن الناس إلى جانبها”.
وأطلال حرب لم تُرمَّم
في بعلبك، المدينة التاريخيّة التي تختزن إرثًا حضاريًّا هائلًا، يتساءل السكّان عن مصير مدينتهم، ليس من زاوية الماضي المجيد، بل من واقع الحاضر المثقل بالحرمان. فالهمّ المعيشيّ في الأحياء الشعبيّة، كحيّ الشراونة، لا يُقاس فقط بلقمة العيش، بل بمشقّة الحياة اليوميّة في ظلّ غياب أبسط مقوّمات الاستقرار. العائلات التي صمدت تحت القصف، عادت لتصمد اليوم أمام الإهمال.

بين حديث الناس ومطالبهم، تظهر صورة واضحة: المجلس البلديّ الجديد ورث أزمة قديمة ومركّبة، وأضيفت إليها كلفة الدمار الذي لم يُعالج حتّى اليوم. والناس لا تطلب المعجزات، بل بداية حلول. من داخل زقاق ضيّق في حيّ الشراونة، تتحدّث “أمّ علي” نجم، لـ “مناطق نت”، وهي أمّ لثلاثة أطفال وزوجها يعمل مياومًا، عن نمط حياة بات أقرب إلى “الصمود الإجباريّ” في وجه الإهمال. تجلس أمام باب بيتها الصغير، وتشير إلى مولّد كهرباء صغير بالكاد يعمل، قائلة: “نعيش في العتمة، لا إنارة في الشارع، وليس لدينا كهرباء، والمولّد ليس دائمًا. حتّى المياه، لا تأتي إلّا بعد منتصف الليل، ونضطرّ أن نغسل ونطبخ على ضوء الشمعة”.
تقول أم علي إنّ البلدة لا تطلب مشاريع إنمائيّة ضخمة، بل خدمات يوميّة بسيطة تليق بحياة الناس. بالنسبة إليها، لا فرق بين الليل والنهار إذا كانت بعلبك بلا ضوء ولا ماء ولا صوت مسؤول يسمعهم.
“فاز مجلس بلديّ جديد، لكن لا نعرف إذا كان يستطيع أن يغيّر شيئًا، إنّما الذي نعرفه أنّ الناس لم يعد لديها وقت للانتظار وتعقّب الأسعار وأقساط المدارس، في ظلّ ما نعيشه من غياب!” والكلام لأمّ علي.
وتختم “البلديّات لا يجب أن تُترَك وحيدة. الدعم المركزيّ مفقود، ودعم المنظّمات لا يكفي، والمواطن، ككلّ مرّة، هو المتروك ليواجه كلّ شيء وحده”.
يعبّر حسن صلح، وهو أب لخمسة أولاد ويعيش في المنطقة منذ أكثر من 20 عامًا، عن خيبة أمل متراكمة في نفوس الناس. يقول بنبرة يغلُب عليها الإحباط: “لا نطالب بشيء كثير، جلّ ما نريده بلديّة تقف إلى جانبنا. نريد شارعًا تستطيع سيّاراتنا السير عليه دون أن تتكسّر، نريد طرقات مضاءة لا معتمة حتى نعرف كيف نعود إلى بيوتنا بلا خوف. سئمنا من سماع الوعود، ومن ثمّ العودة كي نعيش المشاكل نفسها كلّ سنة”.
البلديّات تُحاسب على فشل الدولة
يشير الدكتور خالد نصرالله، الخبير في الشؤون الماليّة واللامركزيّة، إلى أنّ ما تعانيه بلديّة بعلبك هو صورة مصغّرة عن معاناة بلديّات كلّ لبنان، وبخاصّة في المناطق الطرفّية التي تعاني من الإهمال المزمن. يقول نصرالله لـ “مناطق نت”: “من الظلم محاسبة المجالس البلديّة على ضعف الخدمات، في حين أنّ الدولة المركزيّة لا تمنحها أيّ صلاحيّات فعليّة، ولا تموّلها بما يتناسب مع مسؤوليّاتها. كيف نريد من بلديّة أن تدفع رواتب موظّفيها وأن تخلق فرص عمل أو تخطّط لمشاريع؟”.
يتابع نصرالله: “نظام الصندوق البلديّ المستقلّ غير عادل، أوّلًا لأنّه يخضع للتسييس، وثانيًا لأنّ الأموال تُصرف بأسعار صرف غير حقيقيّة، وثالثًا لأنّه لا توجد شفافيّة كافية في كيفيّة احتساب الحصص. في بلديّات لا تعرف حتّى ما هي مستحقّاتها، ولا على أيّ أساس تمّ تقديرها”.
ويرى نصرالله أنّ “الوقت حان لإعادة النظر بكامل النظام الماليّ للبلديّات. نحتاج إلى تمكين البلديّات قانونيًّا من إدارة مواردها، جباية ضرائبها، الاستثمار في أصولها العقاريّة، والتحرّر من المركزيّة الخانقة التي تجعل حتّى تغيير لمبة في شارع يحتاج إلى موافقة”.
“أُنتج هذا التقرير بالتعاون مع المنظمة الدولية للتقرير عن الديمقراطية DRI، ضمن مشروع أصوات من الميدان: دعم الصحافة المستقلة في لبنان”.