بلديّة الفاكهة معلّقة على حبال الانقسام فما الحلّ؟

في بلدة الفاكهة– جديدة، يقف المبنى البلديّ وحيدًا كظلٍّ لذاكرة جماعيّة ذبُلت. تشهد جدرانه على صمتٍ ثقيل، أروقته مقفرة، وقاعات اجتماعاته خالية من النقاشات والقرارات منذ سنين. لا رئيس، لا أعضاء، سوى زيارات متقطّعة له من أمين السرّ وأمين الصندوق تُذكّر بأنّ العمل البلديّ مرّ من هنا ذات يوم.

منذ آخر مجلس بلديّ مكتمل الولاية في العام 1998، برئاسة دياب محي الدين وبدعم واضح من المخابرات السوريّة آنذاك، غابت الحياة المؤسّساتيّة عن البلدة. فازت في حينه لائحة واحدة ضمّت 15 عضوًا، ثمانية مسيحيّين وسبعة مسلمين، وكان ذلك آخر عهد البلدة بمجالس بلديّة مستقرّة.

ومنذ ذلك الحين، بدا أنّ البلديّات في الفاكهة تُولد مبتورة. انتخابات 2004، 2010 و2016، كلّها حملت في طيّاتها استقالات متكرّرة، وخلافات مزمنة أنهكت أيّ محاولة للعمل البلديّ. حتّى المجلس المنتخب في العام 2010، بدأ بـ 15 عضوًا ولم يُكمل طريقه سوى بثمانية، وانسحبت البقيّة بصمت.

بلدة الفاكهة
بلديّة على حبال الانقسام

نُظّمت الانتخابات البلديّة والاختياريّة في العام 2016، ووفقًا للعرف كان يجب أن يتشكّل المجلس البلديّ الذي يضمّ 18 عضوًا مناصفة بين المسلمين والمسيحيّين، لكلّ طرف منهما تسعة أعضاء، لكن لم تجرِ رياح النتائج وفق “عرف التعايش”، إذ فاز 13 عضوًا مسلمًا مقابل خمسة فقط من المسيحيّين. ومنذ الأشهر الخمسة الأولى، بدأت علامات التصدّع بالظهور، من انسحابات متتالية، إلى خلافات داخليّة وانعدام الانسجام.

يروي أحمد مسعود خليل، أحد فعاليّات حيّ الزيتون في الفاكهة، في حديث إلى “مناطق نت” أنّ “التنافر داخل المجلس بدأ باكرًا، لأنّ اللائحة الفائزة لم تكن متجانسة، بل كانت خليطًا من مختلف اللوائح المتنافسة، جمعها الفوز لا الرؤية المشتركة”.

البلديّة كانت عمليًّا مشلولة ولا قرارات تُتّخذ، ولا قدرة على التصرّف بالأموال. وبعد استقالة الأعضاء المسيحيّين الخمسة وثلاثة من الأعضاء المسلمين، بقي المجلس بعشرة أعضاء فقط. عندها، تقدّم المسيحيّون بطعن أمام مجلس شورى الدولة، معتبرين أنّ غياب التمثيل المسيحيّ يطعن بميثاقيّة المجلس، وربحوا الدعوى، فصدر القرار بحلّ البلديّة في العام 2019.

في هذا الصدد يشير خليل إلى أنّ “ضمان التوازن والتمثيل الحقيقيّ للطرفين، المسيحيّ والمسلم، هو السبيل الوحيد لحماية صيغة العيش المشترك واستمراريّة العمل البلديّ في الفاكهة”.

خليل: طالما لا يوجد توافق حقيقيّ بين المسلمين والمسيحيّين، فسنشهد السيناريو ذاته، انسحابات، طعون، وحلّ محتوم

مشهد انتخابي مشظّى

بعد مرور ستّ سنوات على حلّ المجلس البلديّ في الفاكهة، وما تبعه من فراغ إداريّ وشلل في العمل الإنمائيّ، تعود الانتخابات البلديّة والاختياريّة في أيّار (مايو) 2025 لتفتح نافذة أمل ولو كانت خجولة، أمام البلدة. التحضيرات للاستحقاق بدأت، الصور تملأ شوارع البلدة وتنبئ بمعركة انتخابيّة شرسة، ولكن بالنسبة إلى خليل “على الرغم من عودة الحراك الانتخابيّ في الفاكهة إلى الواجهة، لا شيء يُبشّر بتغيير فعليّ في قواعد اللعبة”.

في الشقّ الإسلاميّ من البلدة، تلوح في الأفق خمس لوائح انتخابيّة، كلّها تمثّل العائلات الكبرى المتنافسة: اثنتان لآل سكّريّة، اثنتان لآل محي الدين، ولائحة واحدة لآل عبد الواحد، فالأحزاب السياسيّة خارج المعادلة، والتنافس هنا عائليّ بامتياز.

أمّا في الشقّ المسيحيّ من البلدة، فيُتوقّع تشكيل ثلاث لوائح إلى أربع كحدّ أقصى، بحسب ما أشار خليل، مضيفًا أنّ “حجم التمثيل المسيحيّ المحدود سيدفع حكمًا نحو تحالفات مع لوائح إسلاميّة، ما سيؤدّي إلى تشكيل لوائح مختلطة مجدّدًا، كما حصل في دورة 2016”.

لكنّ خليل لا يبدو متفائلًا؛ إذ إنّه يستبق النتائج مؤكدًا أنّ “أيّ لائحة موحّدة لن تفوز بكامل المقاعد، وأنّ المجلس البلديّ المقبل سيكون، مرّة أخرى خليطًا من جميع اللوائح، ما يعني تكرار الأزمة نفسها”. ويطلق تحذيرًا واضحًا “طالما لا يوجد توافق حقيقيّ بين المسلمين والمسيحيّين، فسنشهد السيناريو ذاته: انسحابات، طعون، وحلّ محتوم”.

الانتخابات البلدية في بلدة الفاكهة عالقة على خيوط الانقسام السياسي والطائفي
100 ألف دولار للعبور إلى رئاسة البلديّة

في حديثه عن الترشّح لرئاسة بلديّة الفاكهة، يشير أحمد خليل إلى واحدة من أبرز العقبات التي تعوّق الإصلاح الحقيقيّ وهي المال. وبحسبه، “بات الترشّح يتطلّب ما لا يقلّ عن 100 ألف دولار أميركيّ كمصاريف لوجستيّة، من دعاية وتنقّلات وخدمات انتخابيّة، ما يجعل هذا الموقع حكرًا على أصحاب الأموال، لا أصحاب الكفاءات”.

ويعبّر خليل عن قلقه من أنّ هذا الواقع يفتح الباب أمام مرشّحين لا يملكون الخبرة الإداريّة ولا المعرفة الفعليّة بمشاكل البلدة، خصوصًا أنّ غالبيّتهم يقيمون خارجها، في العاصمة بيروت، ولا تربطهم بالفاكهة إلّا روابط عائليّة موسميّة “كيف يمكن لمن لا يعيش هموم البلدة أن يدير شؤونها؟”، يسأل خليل، متخوّفًا من أن تستمرّ الهيمنة على العمل البلديّ بيد فئة محدّدة، فيما تبقى الفاكهة من دون رؤية ولا حلول.

بين الحنين للمؤسّسة وحرمان الإنماء

سنوات طويلة من الفراغ البلديّ تركت الفاكهة من دون أدنى مقوّمات الإنماء. فلا مشاريع تنمويّة، ولا إنارة، ولا تعبيد للطرقات. وحتّى النفايات، كان يتمّ جمع كلفة إزالتها من الأهالي بعد أن أصبحت صلاحيّات البلديّة بيد المحافظ إثر حلّ المجلس. في هذا الصدد يقول خليل: “نحن بحاجة إلى كلّ شيء، من حديقة عامّة، إلى نادٍ ومستوصف وملعب، حتّى فرق رياضيّة… الفاكهة لا ينقصها سوى مؤسّسة تفكّر وتخطّط وتنفّذ”.

وعلى رغم غياب البلديّة والمشاريع الإنمائيّة عن بلدة الفاكهة لسنوات عدّة، إلّا أنّ نسب الاقتراع في الانتخابات السابقة تعكس رغبة قويّة لدى الأهالي في استعادة العمل البلديّ والمؤسّساتيّ. فعلى لوائح الشطب، يبلغ عدد الناخبين من المسلمين حوالي 4800 ناخب، اقترع منهم نحو 3500، أيّ ما يقارب 73 في المئة. أمّا عند المسيحيّين، فعدد الناخبين يصل إلى 2550، اقترع منهم 1300 فقط، أي بنسبة تقارب الـ 51 في المئة.

عدد المرشّحين في الفاكهة حتّى الآن بلغ عشرة من المسلمين، بينهم ثلاثة من المختارين الحاليّين يسعون إلى تجديد ولايتهم، إلى جانب سبعة وجوه جديدة

هذه الأرقام، بحسب خليل، “دليل واضح على أنّ الناس لا تعارض فكرة البلديّة، بل تتوق إلى وجود مجلس بلديّ فاعل يضطلع بدوره الإنمائيّ والخدماتيّ”. لكنّه في المقابل، يحمّل الطرفين– المسيحي والمسلم– “مسؤوليّة ما آلت إليه الأمور من تفكّك وفشل مؤسّساتي”.

طوني أبو حنا الخوري

من جهته يتحدّث الرئيس الأسبق لبلديّة الفاكهة- جديدة طوني أبو حنّا الخوري، فيؤكّد، ألّا “دورًا للأحزاب في الانتخابات البلديّة في بلدة الفاكهة، وما يتحكّم بها هي التحالفات العائليّة في البلدة”. ويتابع لـ “مناطق نت”: “لم يكن للسياسة أو الأحزاب دور في البلديّات السابقة ولا في الانتخابات الحاليّة اليوم”، لافتًا إلى “أنّ تيّار المستقبل كانوا يتدخّلون بنفسٍ توافقيّ، ولكن لم يكن لهم أيّ دور كما باقي الأحزاب، إذ إنّ هذا الدور يتلاشى في الدوائر المصغّرة، فمعظم التحالفات في الانتخابات قائمة على أساس عائليّ”.

فاز أبو حنّا الخوري في الانتخابات التي أجريت في العام 2010 حيث تمّ التوافق بين الفائزين على المداورة في رئاسة البلديّة كلّ ثلاث سنوات، وتسلّم الرئاسة بين أعوام 2012- 2014.

المختارون وجوه قديمة وجديدة

إلى جانب الانتخابات البلديّة يستعدّ حيّ الزيتون- الفاكهة للانتخابات الاختياريّة، حيث يحقّ للفاكهة انتخاب ثلاثة مختارين من المسلمين (عرف) في “حي الجامع”، ومختار واحد من المسيحيّين (عرف) في “حيّ مار جرجس”. أمّا في جديدة، فيُخصَّص لها مختاران، من دون تحديد الطائفة (مسلم أو مسيحيّ).

الخوري: منذ العام 2016 لا بلديّة في الفاكهة. فكرة الفصل والتقسيم ليست سيّئة، الجو سيكون مريحًا أكثر، لمسيحيّي جديدة ومسلميها، ولمسلمي الفاكهة ومسيحيّيها، نؤيّد الفكرة ولكن بالتوافق

ويشير خليل إلى أنّ عدد المرشّحين في الفاكهة حتّى الآن بلغ عشرة من المسلمين، بينهم ثلاثة من المختارين الحاليّين يسعون إلى تجديد ولايتهم، إلى جانب سبعة وجوه جديدة تخوض التجربة للمرّة الأولى. في المقابل، لا تزال الصورة ضبابيّة في جديدة الفاكهة، حيث لم تتّضح بعد أسماء المرشّحين أو عددهم.

من بلديّة واحدة لاثنتين؟

تشترك كلّ المجالس البلديّة السابقة في بلدة الفاكهة بقاسم مشترك: استقالة الأعضاء وحلّ المجلس قبل إتمام ولايته، نتيجة الخلافات المتكرّرة بين أفراد اللائحة الواحدة وغياب التوافق. ومن هنا، يرى خليل أنّ الوقت حان لإيجاد حلّ جذريّ ينقذ العمل البلديّ من هذه الدوّامة.

يطرح خليل اقتراحًا مفصليًّا يتمثّل في فصل بلدة الفاكهة عن جديدة، لتُصبح لكلٍّ منهما بلديّة مستقلّة، واحدة للمسلمين وأخرى للمسيحيّين، خصوصًا أنّ عدد الناخبين كبير وبات يسمح بهذا الفصل. فبلديّة الفاكهة– جديدة الحاليّة تضمّ أربعة أحياء: الفاكهة، جديدة، الزيتون، والمعلّقة. ووفق خليل، من شأن هذا الفصل أن يخفّف من حدّة التنافر الطائفيّ الذي يُطيح بالمجالس دورةً بعد أخرى.

لا يبتعد طرح خليل عن رأي الخوري حول تقسيم بلديّة الفاكهة- جديدة إلى بلديّتين، إحداهما الفاكهة والأخرى الـ “جديدة”. وفي هذا الإطار يقول الخوري: “للأسف إنّ تجربة البلديّات في الفاكهة لم تنجح، فالخلافات دائمًا كانت تؤدّي إلى حلّ البلديّات”، ويضيف: “منذ العام 2016 لا بلديّة في الفاكهة، وكمبدأ عام فكرة الفصل والتقسيم ليست سيّئة، الجو سيكون مريحًا أكثر، لمسيحيّي جديدة ومسلميها، ولمسلمي الفاكهة ومسيحيّيها، نؤيّد الفكرة ولكن بالتوافق، لا أحبّذ أن يكون فرزًا طائفيًّا، ولا يمكن إلباسه هذا الدور، لأنّ الواقع في الفاكهة مسلم-مسيحيّ، أحياء وعائلات، كلّها تناقضات تخلق خلافات يمكن تلافيها بهذه الطريقة”.

إضافة إلى ذلك، يشير خليل إلى ضرورة فصل “حيّ بيت الراضي” عن الفاكهة انتخابيًّا، وهو حيّ يقع في مشاريع القاع ويضمّ ما بين 300 و400 ناخب من البدو، لا يسكنون في البلدة لكنّ أصواتهم تُرجّح كفّة معيّنة في كلّ استحقاق انتخابيّ، ما يخلق خللًا في التمثيل الحقيقيّ.

وبحسب خليل، فإنّ هذه التعديلات وحدها قد تُشكّل مدخلًا وحيدًا لتجاوز الأزمة البلديّة المتواصلة، وفتح الباب أمام مجلس بلديّ قادر على الاستمرار وإنجاز ما هو مطلوب منه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

زر الذهاب إلى الأعلى