بلديّتا الغبيري والشيّاح جمعتهما المتصرّفيّة وفرّقتهما الطائفيّة
في زمن المتصرّفية كانت بلديّات ضاحية بيروت الجنوبيّة تندرج تحت اسم “بلديّة الشيّاح”، إذ اجتمعت تحت هذا العنوان مناطق: عين الرمّانة، الشيّاح، الغبيري، حارة حريك، وبرج البراجنة، واستمرّ هذا حتّى العام 1922، حيث انفصلت برج البراجنة عن المجموعة، وتلتها حارة حريك.
لم تكن توأمة الشيّاح والغبيري، فعلًا مثاليًّا، فتلك الرابطة مصانة باتّفاق بين طرفين على الطريقة اللبنانيّة، بحيث يكون رئيس البلديّة مسيحيًّا، وللمسلمين ثلاثة أعضاء مجلس بلدي من أصل سبعة، واستمرّ الأمر إلى سنوات، حتّى برز صوت معترض في العام 1955، بعد اجتماع شهير في منزل الدكتور علي الخليل، الذي ارتأى أن تكون الرئاسة مداورة بين الطرفين، المسلم والمسيحي.
و”لفرض هذه المعادلة تمّ انتخاب محمود الحاج رئيسًا لبلديّة الشيّاح في العام نفسه، ممّا أدّى سريعًا إلى مطالبة المسيحيّين بتقسيم البلدة والبلديّة إداريًّا، وعقاريًّا” كما يروي إبراهيم وزنه، في الصفحات الأولى من كتابه “الغبيري عوائل وأوائل”، الذي يتبحّر في متنه بين التاريخين البعيد والقريب للمنطقة، مستندًا إلى مؤلّفات سبقت، ولقاءات مع كبار السنّ وعمداء العائلات، وما تمتلكه بلديّة الغبيري من أرشيف، إضافة إلى بعض الوثائق المذكورة في الصحف.
ويثبت وزنه أنّ واقع الانقسام أصبح حقيقة، بقرار من رئيس الجمهوريّة (آنذاك) كميل شمعون، في التاسع من كانون الثاني (يناير) من العام 1956. هكذا صار للغبيري بلديّتها الخاصّة المنتخبَة برئاسة محمود الحاج، الذي سرعان ما استقال، بعد تعيينه قاضيًا، فخلفه يوسف سليم الخليل.
الهبوط نحو الساحل
بتشجيع من الأمير فخر الدين، وبتحريض سياسيّ وبيئيّ واقتصاديّ، قصد كثيرون من سكّان القرى الجبليّة السواحل اللبنانيّة، حيث سهولة العيش، وإمكانيّة تحقيق فرص عيش، والنهوض بأنواع أخرى من المزروعات حال أشجار التوت التي أسّست نقلة نوعيّة لصالح الاقطاعيّين والأجراء ممّن يعملون في أراضيهم.
انطلق التجمّع البشري الأوّل في ساحل المتن الجنوبي من برج البراجنة، كما يشير وزنة (ص19)، مضيفًا أن البيوت كانت متباعدة، ممّا ربط وسائل التنقل بالجمال والبغال والحمير إضافة إلى الطنابر.
مع كثافة الإنتاج في الغبيري، وبقيّة المناطق المحيطة، صار هناك معمل لتجميع محاصيل الحرير في منطقة فرن الشبّاك منذ منتصف القرن التاسع عشر، بعدها اشترته إدارة حصر التبغ والتنباك “الريجي” إثر انهيار صناعة الحرير بعد شيوع الحرير الصناعيّ. كان هذا أحد أسباب هجرة كثير من العائلات التي كانت تتّخذ من ساحل المتن الجنوبيّ مركز سكن وعمل وانتماء.
لم تكن توأمة الشيّاح والغبيري، فعلًا مثاليًّا، فتلك الرابطة مصانة باتّفاق بين طرفين على الطريقة اللبنانيّة، بحيث يكون رئيس البلديّة مسيحيًّا، وللمسلمين ثلاثة أعضاء مجلس بلدي من أصل سبعة
نشأة الغبيري
سرديّتان أوردهما وزنه عن أصل تسمية الغبيري، فنسب الأولى إلى نبتة ورديّة اللون تعيش في هذا الجزء من ضاحية بيروت الجنوبيّة. أمّا الثانية فأعادها إلى مجرى الرياح في المنطقة، والتي تأخذ شكلًا دائريًّا لأسباب جغرافيّة، فتحدث غبارًا هائلًا، قبل أن يخيّم في المكان الجيش المصريّ بقيادة إبراهيم باشا، في الثلث الأوّل من القرن الثامن عشر، ويكون القرار بعد مكوثه مدّة طويلة، بتشجير مساحات هذه الرقعة بالصنوبر بغية صدّ الرياح الباعثة للغبار وتعطيلها.
تزيد مساحة الغبيري على سبعة كيلومترات مربّعة، من ضمنها كيلومتر مربّع جرى استرداده من بلديّة برج البراجنة، في العقار رقم 3908. تحدّ شمال الغبيري بيروت العاصمة، بينما تحدّها الشيّاح من ناحية الشرق، ويؤلّف البحر حدودها الغربيّة، وحارة حريك حدودها الجنوبيّة.
عن تعداد السكّان، يذكر ابراهيم وزنه أنّ الرقم التقريبيّ في مطلع القرن التاسع عشر، لم يتجاوز الألفيّ نسمة، غالبيّتهم من المسيحيّين، بينما أشار إحصاء العام 1932 إلى أنّ عدد السكّان الأساسيّين هو سبعة آلاف نسمة، وكان الرقم التقريبيّ في سنة 2015، 220 ألف نسمة، من بينهم فلسطينيّون مقيمون في مخيّمي صبرا وشاتيلا. بطبيعة الحال كانت هناك عديد من الدوافع التي سمحت لسكّان الأرياف بالانتقال إلى السواحل، ومجاورة العاصمة، لتكون الذروة في فترة الحرب اللبنانيّة بين 1975و1990.
قصور الحكّام
قبل الاكتظاظ السكّانيّ الذي يسود حاليًّا، اختار بعض التجّار والمتموّلين والسياسيّين، الغبيري مقرًّا لهم، لهدوئها وقربها من العاصمة بيروت. ولذلك يُلاحَظ بناء عديد من القصور التي غالبًا ما يعرفها الناس بأسماء أصحابها، مثل قصر رياض الصلح (رئيس أوّل حكومة للبنان)، قصر صبري حمادة (أوّل رئيس لمجلس النوّاب)، قصر أحمد بك الاسعد (رئيس مجلس النواب)، الحاج حسين العويني (رئيس الحكومة)، وكان هناك قصر لسفير الجزائر في لبنان، وغيرها من القصور التي أزيلت لأسباب عديدة، جلّها مرتبط بالورَثة.
في كتابه، خصّص وزنه قسمًا للشوارع والأحياء، فعدّدها على الشكل الآتي: حيّ الجامع، حيّ الجوار، حيّ المصبغة، حيّ فرحات، حيّ آل الخنسا، حيّ المجادل، حرش (حرج) القتيل، سهل بئر حسن، الجناح، الطيّونة، دوّار شاتيلا، شارع عبد الكريم الخليل، شارع البرجاوي، شارع حسن كنج (لكن الناس أسموه أسعد الأسعد)، شارع الحسينيّة، شارع عبدالله الحاج، شارع الحجّاج، شارع الموسويّ، شارع حسن رعد، شارع القاضي راغب علامة، شارع العريس، شارع الطيّارة وطريق المطار.
بعدها كانت تحوّلات سياسية وثقافية انعكست على أسماء الشوارع والجادّات، فكانت جادّة الإمام الخمينيّ، جادة الإمام موسى الصدر، جادة عماد مغنيّة و”أوتوستراد” هادي نصرالله. يذكر أنّ الواجهة البحريّة للغبيري عرفَت مكانين شهيرين، هما: السان سيمون والسان ميشال.
مدينة بلا سلطة
يشير إبراهيم وزنه في كتابه إلى مدينة “كميل شمعون الرياضية”، التي أصبحت مدينة رفيق الحريري، وهي تابعة لبلديّة الغبيري (بنسبة 80 في المئة)، وتقوم البلديّة بكثير من الأدوار المناطة بها، من صيانة وتنظيف، بينما يدها مكفوفة عن الاختيارات الاداريّة، ولذلك عنون هذا القسم بـ”المدينة الرياضية تابعة للغبيري بالاسم فقط!”.
لا شك أنّ أمتع فصول كتاب “الغبيري أوائل وعوائل”، هو فصل “أوائل من الغبيري”، الذي يشير فيه إلى أوّل نائب في البرلمان اللبنانيّ من أبناء الغبيري هو عبد الله محمّد الحاج، وأوّل ضابط من بلدة الغبيري هو علي محمّد الحاج، أوّل طيار هو أحمد علامة، أوّل سفير علي محمّد الحاج، أوّل حائز على الحقوق الشهيد عبد الكريم الخليل، أوّل قاض هو مصطفى علامة، أوّل مفتش ماليّ أحمد علي كنج، أوّل كاتب عدل توفيق مصطفى علامة، أوّل دكتور في الجامعة الأميركيّة صبّاح عبدالله الحاج، أوّل طبيب أسنان كنج علي كنج، أوّل مهندس محمد عبد الكريم كنج.
وكذلك أوّل مختار أحمد فرحات، أوّل شرطيّين بلديّين (مرحلة الوحدة بين الشيّاح والغبيري) هما عبد الكريم كزما وملحم بعقليني، أوّل رئيس لاتّحاد رياضي سامي يوسف كنج، أوّل حائز على رخصة سوق فضل إبراهيم الخليل (رقم دفتره 7)، أوّل خيّال (جوكي) أحمد قاسم نعمة، أوّل مسحّر محمّد علي الخليل، أوّل ساعي بريد أسعد الساحلي، أوّل مصوّر فوتوغرافيّ درويش حسن شاهين، أوّل خطّاط علي الخليل، أوّل من امتهن تصليح بوابير الكاز علي حسين شمص، أوّل مدرسة، مدرسة الحرش (1928)، أوّل سينما “سينما لبنان” لآل حامد سنة 1951، ثمّ كانت سينما “الأهرام” وتلتها “مترو”، وتبعتها “فينيسيا” و”دنيا”.