«بنتاعل».. أولى المحميات في لبنان وأكثرها تميُّزاً
/مناطق نت
تشكل المحميات والمواقع الطبيعية في لبنان الرئة النظيفة التي يتنفس منها، وتُعتبر ميزة تفاضلية ينفرد بها عن غيره من الدول في المنطقة. بعض هذه المحميات مُصنّف عالمياً وبعضها الآخر يتمتّع بغنى بيولوجي نادر وجميعها عبارة عن لوحات طبيعية خلّابة خص الله بها لبنان الذي سيبقى معها يتشح بذاك الوشاح الأخضر الذي يلتف فوق تلاله وبين روابيه.
١٥موقعا طبيعيا محميا في لبنان هو عدد المحميات التي صُنّفت وفق قوانين صدرت عن مجلس النواب خلال أكثر من ٢٠ عاما، وهي تشكّل ٢ في المئة من مساحة لبنان، وبالرغم من أن هذه النسبة قليلة إلا أنها نقطة الارتكاز لزيادة عدد المحميات في جميع المحافظات والتي تعمل على تصنيفها العديد من الجمعيات بمساعدة وزارة البيئة الوصية على تلك المحميات.
كثر منا لم يسمعوا ببلدة بنتاعل وكثر أيضاً لم يسمعوا بمحميتها، لكن البلدة الصغيرة التي لا تبعد عن مدينة جبيل مركز القضاء سوى ٦.٥ كلم فقط، أدرجت محميتها الجمعية العالمية المصنفة للطيور في العالم Bird Live nternaItional على أنها موقع مهم للطيور المهاجرة (Important Bird Area (IBA من أوروبا إلى أفريقيا وبالعكس.
بلدة «بنتاعل» المتجذرة في التاريخ وتعود إلى عهد الفينيقيين يعني إسمها «بنت الإله إيل». يتراوح ارتفاعها عن سطح البحر بين٢٥٠ مترا في أدناها و٨٠٠ متر في أقصاها، وهذا الفارق يعطيها ميزة التنوع البيولوجي الكبير. تبلغ مساحة المحمية ١١٠ هكتارات أي حوالى الـ ١١٠٠ دونم.
محمية بنتاعل هي واحدة من أصل ١٥ موقعا طبيعيا محمي في لبنان تم تصنيفها وفق قوانين صدرت عن المجلس النيابي. تتبع المحمية عقارياً بلدة بنتاعل وما يميزها عن المحميات الأخرى أنها أرض مشاع تعود ملكيتها لعموم أهالي بنتاعل كما هو مسجّل على الإفادة العقارية.
هذه المحمية هي أول محمية في لبنان أنشئت خلال فترة الحرب في الثمانينيات بمبادرة من أهالي بنتاعل وقبل إنشاء وزارة البيئة، حيث تمّ افتتاحها بحضور الرئيس الفرنسي جاك شيراك الذي كان عمدة باريس حينها والرئيس ميشال عون الذي كان وقتها قائداً للجيش والرئيس أمين الجميل. شُرِّعت المحمية من خلال قانون حمل الرقم ١١ عام ١٩٩٩ حيث تمّ تأسيس جمعية حملت إسمي البلدة والمحمية.
المهندس ريمون خوري الذي يرأس لجنة المحمية قال لـ «الأمن»: «اللجنة مؤلفة من ١٢ عضواً يمثلون وزارات ومؤسسات رسمية وجمعيات وجامعات ترعى شؤون المحمية من خلال خطة استراتيجية ورؤية تهدفان إلى إيصال رسالة المحمية وهي توعية الناس على أهمية المواقع الطبيعية في لبنان». أضاف خوري: «تحتوي محمية بنتاعل على تنوع بيولوجي مذهل، إذ تضم حوالى ٣٦٥ نوعاً من النباتات ٦٠ منها ذات استعمالات طبية، ونوعين نادرين في العالم، غير موجودين إلا في حوض البحر المتوسط ومنه محمية بنتاعل. تابع: «ما يميز المحمية أيضاً أشجار الصنوبر المثمر والتي تشكل حوالى ٣٠ هكتاراً من مساحة المحمية، وهذه الأشجار زرعها أجدادنا في فترة الخمسينيات بذوراً والآن أصبحت غابات، حيث تحتاج الآن إلى عملية تشحيل نظراً لكثافتها وتأثير ذلك على نموها. هذه الأشجار لها فائدة مزدوجة، فبالإضافة لأهميتها الحرجية هناك أيضاً فوائدها المادية من خلال جني محصولها، والذي لا يقل عن حوالى ٥٠ ألف دولار جراء بيع ذلك المحصول من الصنوبر الأبيض والذي تحتاجه المحمية لمشاريع ملحة. إضافة للصنوبر تضم المحمية العديد من أنواع الأشجار كالعفص والملول وغيرها».
تضم المحمية أيضاً آثاراً قديمة إذ يوجد فيها منسك محفور في الصخر للناسك مار يوحنا مؤلف من ثلاث غرف ويعود للعام ١١٥٠ ميلادي. وتوجد في المكان آثار لكنيسة قديمة يتم فيها إحياء قداس سنوي لأهالي البلدة.
على مستوى الحشرات أشار خوري إلى أن دراسة أجريت مؤخراً في المحمية أظهرت أنّها تضم ٦٣٠ نوعاً من الحشرات وهذا أمر ضروري للتنوع البيولوجي، إذ كلما انخفض عدد تلك الحشرات فهذا يعني أن هناك اختلالاً في التوازن البيئي. أيضاً أظهرت الدراسة أن الثدييات الطائرة تتواجد في المحمية فهناك ٧ أنواع من الوطاويط التي تعتبر من الثدييات الطائرة وتتواجد في الكهوف الموجودة في المحمية، وهذه الأنواع من الوطاويط مهمة جداً فهي تقتات على البرغش والذباب وأهميتها بالغة في الطبيعة ووجودها في المحمية علامة جيدة لها.
في المحمية يتواجد عدد كبير من الثعالب وإبن آوى وبعض الضباع، وفي هذا الإطار قال خوري إن الحفاظ على الضباع هو مسألة بالغة الأهمية ودعا إلى عدم قتلها لأنها عنصر مهم للطبيعة فهي تقتات على الجيف وتعتبر منظّف الغابة من الأوساخ، وبالتالي من الحرام قتلها وعندما نشاهدها يجب تركها وحمايتهن فالضباع لا تهاجم الإنسان. إضافة لتلك الحيوانات هناك الخنازير البرية التي تعيش في المحمية. وأشار خوري إلى أن المحمية غير مسيجة وممنوع أن تُسيّج فهي امتداد للمدى الحيوي المحيط بها من أنهار ووديان.
عن الدخول إلى المحمية قال خوري إن هناك خرائط ومجسمات موجودة على باب المحمية تُشير بوضوح إلى الطرق داخلها وإلى أهم المعالم فيها وأيضاً إلى الوقت الذي سيستغرقه الزائر للمسير فيها، وأيضاً هناك إرشادات للمسموح وغير المسموح داخل المحمية ومنها دخول الكلاب نظراً للضرر الذي تسببه داخلها، وأشار إلى أن وزير البيئة السابق طارق الخطيب أصدر قراراً منع بموجبه الكلاب من دخول المحميات.
الوعي البيئي يزداد يوماً بعد يوم في التعامل مع المحمية ومن خلالها مع الطبيعة. هذا ما يقوله خوري شارحاً: «منذ حوالى العشر سنوات تبدّلت طريقة تعامل الناس مع المحمية بنسبة ٩٠ في المئة وهذا ما لمسناه من خلال ابتعاد الصيادين الذين كانوا يصطادون فيها إلى مسافات بعيدة، لا بل هم من يحمي المحمية، فالآن ويقومون بتنظيف محيطها والمحافظة عليها. وهذا دليل ساطع على التبدّل فلا يمكن حماية مكان إذا لم يقم بذلك الناس المحيطين به وهذا ما نراه في بنتاعل فالناس يخافون على المحمية ويحمونها ويحافظون عليها، ويعملون حراساً لها من دون تكليف بذلك، فإذا استشعروا بخطر ما يهبّون فوراً للتصدي له. وفي هذا الإطار يقول خوري إن هناك «غروب» على تطبيق «الواتس أب» يجمع بين شبيبة المنطقة يتواصلون من خلاله بهدف الحفاظ على المحمية.
خوري الذي يسكن قرب المحمية ويعتبرها غابته الكبيرة يمضي أيام العطل فيها ويذهب إليها يومياً بعد الانتهاء من عمله يقول إن المحمية في تطوّر مستمر إن كان على مستوى النباتات والأشجار، أو على مستوى الحشرات والحيوانات، وهذا ما يلمسه الزائر الذي سيشاهد موقعاً مذهلاً في طبيعته وغناه البيئي والبيولوجي.
زيارة المحمية متاحة طوال أشهر السنة تقريباً نظراً لارتفاعها المتوسط واعتدال مناخها. وعن الإقبال على زيارة المحمية يقول خوري «للإقبال على زيارة المحمية يجب أن يكون هناك مقوّمات وهذه المقوّمات تتمثّل بالبنى التحتية من دروب وخدمات للزائرين”. يضيف: «الخدمات هي مراحيض ومرشدين وخطط، وهذا متوفّر في محمية بنتاعل”. وأشار إلى أن المعايير البيئية في المحمية عالية المستوى إذ أن المراحيض خالية من أي روائح حيث يوجد لها محطة لتكرير المياه المبتذلة التي تُصبح صالحة للري في المحمية، أيضاً الطاقة الكهربائية والإنارة في المحمية هي صديقة للبيئة وخالية من أي تلوث فتعمل على الطاقة الشمسية ومن دون أي كلفة مادية.
عن الحرائق التي تشكّل الخطر الأول على المحميات يقول خوري: «الطرائق الأهم لمواجهة خطر الحرائق يكمن أولاً في الوقاية منها لذلك لدينا خطة متكاملة لحماية المحمية من الحرائق، تبدأ بإبعاد كل ما يسبب ذلك من أعشاب أو زجاج أو منع أي شخص من إشعال النار قرب المحمية وغيره، ومن ثم الإجراءات الأخرى المتمثلة بخزان المياه الموجود في المحمية والموصول إلى شبكة أنابيب تحت الأرض مزوّدة بمخارج كل ١٠٠ متر تحسّباً للحرائق. يضيف خوري: «لدينا برج مراقبة يتواجد فيه فريق من الشباب متأهب لأي طارئ طوال فترة موسم الحرائق».
زيارة «محمية بنتاعل ليست سياحية فقط، فالزائر إليها وخصوصاً طلاب المدارس الذين يصل عددهم إلى ٥٠٠٠ طالب سنوياً، يتعرفون إلى برامج توعوية بيئية تساهم في رفع مستوى الوعي البيئي لديهم».. وفي هذا الإطار يقول خوري: شعارنا «الحماية والتوعية» حيث نقسم الطلاب إلى ثلاثة أقسام، الأول يمشي في المحمية والثاني يخضع لبرنامج توعية من خلال الإطلاع على متحف موجود على مدخل المحمية يشرح ما تضمه من نباتات وأشجار وحشرات وحيوانات، وأيضاً الإطلاع على شبكة الأمان التي تخضع لها المحمية من إجراءات الدفاع المدني وغيرها. يضيف خوري: «أيضاً يستفيد الطلاب من الأنشطة الترفيهية والرياضية المخصصة لهم وهي عبارة عن مشي على الحبال وغيرها من الأنشطة في ظل حماية كاملة لهم من قبل عشرة مرشدين يتابعونهم. وفي نهاية الزيارة يحمل الطلاب معهم إلى بيوتهم بذوراً يزرعونها في أكواب نأمل من خلالها أن يزرعها الطلاب قرب منازلهم من أجل تشجيع المساحات الخضراء.
الأعمال في المحمية تخضع لموافقة مسبقة من وزارة البيئة فهي الوصية على المحميات. هذاما قاله خوري الذي أضاف أن لجنة المحمية تلقت مساعدات من الوكالة الأميركية للتنمية هي عبارة عن ثلاثة مشاريع لم تمنحها الوكالة للمحمية إلا بعدما اطلعت على الخطط والاجراءات التنفيذية لها. وأشار خوري إلى أن جميع أعضاء لجنة المحمية يعملون دون مقابل وعملهم هو تطوعي بحت
وهم يقبلون على هذا العمل بنشاط وحماس، وهذا يعود إلى الإحساس العالي لدى سكان المنطقة بحماية المحمية وهذا عامل أساسي في الموضوع، فإشراك الناس يشكل عامل إيجابي للمحمية، التي تعود بالمنفعة عليهم من النواحي كافة، وبعضها مادي إذ هناك مشاريع تُنفّذ يتم فيها إشراك الشباب في العمل، وفي هذا الإطار يقول خوري: «نفذنا مشروع في القرى المحيطة بالمحمية عبارة عن تنظيف ٢٥ كلم من الطرقات عمل فيه أكثر من ١٠٠ شاب من أبناء المنطقة».
عن مجلة «الأمن»