“بنت جبيل – ميشيغان”.. عالَما أحمد بيضون بين المهجر والحنين إلى الأصل
هؤلاء الّذين يولدون في بلاد نزل على أهلها غضبُ حتميّة الهجرة، يعيشون صراعًا مستمرًّا بين جذور الهويّة والمكان الّذي وُلدوا فيه، وبين أمكنة المهجر. يبقى شيء من الماضي معهم- أشبه بحالات الصّراع الداخلي- وكذلك يتمظهر في وجوههم وتصرّفاتهم وارتباكهم المتجدّد، في محاولة لتثبيت هويّة جديدة وطمس الماضي. ولكنّ “أكثرهم متأهّبون لهذه العودة، مهما تكن مؤقّتة، لفرط ما يشدّهم الأصل ويستغرق من وجودهم”، هكذا يختتم أحمد بيضون الكاتب والمؤرّخ الّذي وُلد في بنت جبيل سنة 1943، كتابه “بنت جبيل- ميشيغان” الصّادر بطبعته الأولى عن دار العربيّة سنة 1989، وبطبعته الثّانية عن دار النّهار سنة 2006.
“للّهو آونةٌ تمرّ كأنّها قُبلٌ يزوّدها حبيبٌ راحلُ
جمحَ الزّمان فلا لذيذٌ خالصٌ ممّا يشوبُ ولا سرورٌ كاملُ”
بهذين البيتين لأبي الطّيب المتنبّي يستهلّ أحمد بيضون كتابه “بنت جبيل- ميشيغان” وكأنّه يلخّص شعوره بالحسرة الّذي كان مرافقه في رحلته تلك، لرؤية الأقارب وبعض المعارف والأصدقاء ممّن وُلدوا معه يومًا في بنت جبيل، وصار لهم أولاد لا يعرفون شيئًا عن تلك المدينة الواقعة في منطقة “الشريط الحدودي” المحاذية لفلسطين.
من خلال تلك الأبيات يشير بيضون إلى انقضاء “عهد الصّبا الغالي” في بنت جبيل ويمهّد لظهور عالمٍ جديد “منشقّ” عن هذه المدينة ولكنّه يلازمها، ألا وهو عالم ميشيغان_ديربورن. ديربورن المدينة الّتي حوت الجالية التي “قد تكون خُمس المدينة الّتي يُقال إنّ عدد سكّانها مائة وخمسة وعشرون ألفًا” كما ورد في الكتاب الصادر قبل أربعة وثلاثين عامًا، وبالتالي فإنّ عدد سكان ديربورن ومن ضمنه عدد أبناء بنت جبيل هناك، قد تغيّر كثيراً اليوم، ومن الممكن أنّه تضاعف.
يعود تاريخ الإغتراب في بنت جبيل إلى نحو 120 عامًا كما يشير العديد من المؤرّخين، وقد تأثّرت مراحل الهجرة في البلدة بعوامل وحقبات مختلفة، يبقى أبرزها حقبة الإحتلال الإسرائيلي وما سبقها من اعتداءات، تعرّضت لها بنت جبيل بدءاً من الستينيّات وصولاً إلى سنة 1978، حيث خضعت البلدة بشكل كامل للإحتلال المباشر، شأنها شأن جميع قرى ما أُطلق عليه “الشريط الحدودي المحتلّ”، والذي أدّى إلى تهجير أبناء تلك المنطقة ومنهم أهالي بنت جبيل، إلى مناطق وبلدان متعدّدة.
من المؤكّد أنّ بنت جبيل في ميشغان (بعد 34 عاماً على صدور الكتاب) تنمو اليوم بشكل مضطرد، نتيجة تعاظم الهجرة، ذلك النزيف المستمرّ، بينما بنت جبيل الأصليّة تذوي وتضمحلّ بالرغم من أنّها أصبحت كتلة اسمنتيّة ضخمة، لكنّها تبقى خاوية، إلّا من ذلك الصدى الذي يدوّي هناك في أقاصي الغربة، ينادي أبناء بنت جبيل المتناثرين في أقاصي المعمورة.
قربان الجماعة
يظلّ كاتب سيناريو “بيروت اللّقاء” لمخرجه الراحل برهان علويّة، حائرًا طوال رحلته الّتي سرد لنا من خلالها معظم محطّاتها في “بنت جبيل- ميشيغان”، بدءًا من هبوطه في مطار “ديترويت” متعجّبًا وساخرًا من كلّ ما حوله، وصولًا إلى نزوله في المطار نفسه من أجل العودة، ولكن بدموع تكاد تنزل من عينيه، لم يكن يعرف بأنّها صاحبته منذ بداية الرّحلة، والّتي تشكّل عنصرًا مفاجئًا في النهاية. فكيف للرّجل الّذي بدا صلبًا وتائقًا للعودة إلى الوطن أن يبكي؟ ربّما هي أبيات المتنبّي عادت لتبثّ فيه الحسرة على الماضي الّذي لم يكن فيه بنت جبيل- ميشيغان، بل بنت جبيل- لبنان.
تبدأ رحلة أحمد بيضون الّتي جعل لها 18 عنوانًا في الكتاب، ويصلح كلّ عنوان منها لأن يكون قصّة قصيرة مكتملة العناصر، حين يدرك فور وصوله إلى مطار “ديترويت” أنّه “قربان الجماعة”، وقربان العادات الّتي حملوها معهم من بنت جبيل. لم يتخلّ أهل بنت جبيل عن كلّ ما حملوه معهم من الوطن، فوقفوا لاستقباله بأعدادهم الغفيرة في المطار- نساءً ورجالًا- وألقوا عليه السلام والزّغردة والقُبل الثلاث، إلّا النّسوة اللّواتي وضعنَ أيديهنّ على صدورهنّ عوضاً عن السلام باليد.
تبدأ رحلة أحمد بيضون الّتي جعل لها 18 عنوانًا في الكتاب، ويصلح كلّ عنوان منها لأن يكون قصّة قصيرة مكتملة العناصر، حين يدرك فور وصوله إلى مطار “ديترويت” أنّه “قربان الجماعة”، وقربان العادات الّتي حملوها معهم من بنت جبيل
الكتاب أيضاً هو بمثابة مقاربة أنتروبّولجيّة، يرصد فيها بيضون غربة المكان وناسه من خلال الهجرة “البنت جبيلية” التي تعتبر علامة فارقة في هجرة القرى والبلدات. ونقول “غربة المكان” لأنّ الناس عندما يهاجرون يحملون أمكنتهم معهم، بما تضمّ من عادات وتقاليد تبقى راسخة لغةً ولهجة وسِيَراً ومرويّات. لكنّها لا تبقى على ثباتها، بل تتمازج مع المكان الآخر مع كلّ ما فيه، لتولد تحوّلات لها دلالاتها ورمزيّاتها المأخوذة من تمازج المكانين.
بحسب بيضون، انقسمت جالية ميشيغان (في حينه) إلى قسمين، والسبب تضارب في وجهات النّظر بين جيلين، ما يجمعهما أقلّ ممّا يفرّقهما. الأوّل هو الجالية “الأميركيّة” ويضم معظمها جيل الشباب الّذين وُلدوا في ميشيغان من رحم الجالية نفسها، وهؤلاء يقودهم الإندفاع إلى المزيد من العمل لصالح الجالية بهدف الحفاظ على مكانتها وكلمتها، “وهم لو اتّحدوا وتشكّل منهم ما يُسمّى هنا بالـ “لوبي” لفرضوا على حاكم المدينة ومجلسها ما يشاؤون أو بعضه على الأقلّ”.
لكنّ هؤلاء أنفسهم عالقون في ثوب الجالية الّتي تمثّل الجيل الأكبر- وهو القسم الثّاني- الّذي وُلد وعاش جزءًا من عمره في بنت جبيل. هذا الجيل لم يستطع حتّى اليوم، الخروج من الأثر القديم للوطن، ويريد أن تبقى الجالية “هي هي، إذا حصرت أميركيّتها في مجال المعاش، واستبقت سائر وجوه حياتها وبينها الوجه السياسي، للموروث”.
هذه الجالية اللّبنانيّة نفسها والّتي ترفض الدخول في معترك “الزعامة” برأي بيضون (آنذاك) كانت قد قدّمت الكثير لأهالي بنت جبيل وللجالية أيضاً. ويذكر بيضون في هذا السياق مشروع الدولارات الخمسة. المشترك فيه يدفع خمسة دولارات كلّ شهر ويجبي مالاً آخر من الأعراس والمآتم ويرسل هذا كلّه إلى المحتاجين من المقيمين في بنت جبيل”. وبذلك لم يكن خلاف الجالية الأميركيّة والجالية اللبنانيّة متعلّقاً بما تقدّمه الجالية جمعاء لنفسها، ولأبناء بنت جبيل المقيمين، بل كان دائمًا خلافاً على الزعامة فـ”قلّما يستعمل أحدهم لفظ القيادة، فهم يفضّلون مصطلح بلدتهم الأليف”، وربما يقصد بذلك مصطلح “الآغا” الّذي أفرد له بيضون قسمًا في الكتاب بالعنوان نفسه.
بين الوطن والمهجر
بنت جبيل- ميشيغان، هو ذاك الصّراع المستعر أبداً بين “الوطن والمهجر”، وهذا ما عنون به أحمد بيضون القسم الثّاني من كتابه، بعد القسم الأوّل الّذي يمثّل مرحلة “المطار”. هو الصّراع بين بيوت بنت جبيل الرحبة وأحيائها الواسعة الّتي تبدو ضيّقة جدًّا لأهلها وللجيران الّذين لا يفصلهم عن بعضهم إلّا طَرْقة باب واحدة، حتّى لو كان بينهم شوارع وزواريب. بينما في ميشيغان كان أحمد بيضون مضطرًّا إلى السّؤال “أربع أو خمس مرات” عن بعض البيوت الّتي أراد زيارتها على الرّغم من أنّ “المدينة صغيرة وأنا أعرف بيوت الجالية. نمشّطها شارعًا شارعًا” كما أشارت أخته.
لا شيء في المهجر يشبه ما في الوطن، حتّى لو كانت الجالية هي نفسها، هنا المسألة متعلّقة بالمكان. فـ”حريّة التجوّل بين الجارات في بنت جبيل لا تُقدّر بثمن، ولا يستطيع الإحتلال الإسرائيليّ حيالها شيئًا”، على عكس بيوت ونساء ميشيغان الّلواتي لا يخرجنَ “إلّا إذا سمح وقت الإبن”. “والطّوابق السفليّة في ديربورن أشدّ قسوةً من السّكن البيروتيّ نفسه، على اشتداد قسوته في الحرب. ففي بيروت شقق على الأقلّ والبناية والشارع الواحد عالم صغير وكلّ الجيران ناطقون بالضّاد”، يقول بيضون.
بالنسبة لبيضون كانت ميشيغان امتداداً لمرحلة عاشها أهالي بنت جبيل والوطن، هناك حيث تلتقي الصّبا وكلّ من عرفتهم وعاشرتهم في يوم من الأيّام، ولكنّهم كبروا الآن في أراضي ميشيغان، حتّى ذاك “الّذي صار صديقك في يومين هنا، رأيته آخر مرّة حين كنت تصوّر خراب بيروت في أواخر سنة 1976 وكان يومئذ صديقًا لأخيك الأصغر”. ولكن هؤلاء بالنّسبة لبيضون، أيّ كلّ من هو محسوب على الجالية، محاصر في ميشيغان. “محاصرون في الحياة وفي الموت. تحاصرهم الغربة، وتحاصرهم الهويّة”.
أعراس بنت جبيلية في ميشيغان
بحسب أحمد بيضون يقيم أهالي بنت جبيل في كلّ شهر حوالي ثلاثة إلى أربعة أعراس في ميشيغان. أعراس الجالية لا تختلف كثيرًا عن الأعراس الّتي نعرفها، على الرّغم أنّها تتماشى مع الأعراس العصريّة، والّتي عادةً ما تكون مستوحاة من طقوس العرس الغربي، كالمنصات العالية المجهّزة للعروسين، وساحة الرقص الواسعة، وطقوس التقاط الصّور قبل العرس وفي خلاله. ولكن بالرغم من ذلك، لا تغيب بنت جبيل وذكرها وعاداتها عن أعراس الجالية، فهم لا يستغنون عن الموسيقى الشرقيّة، وضيافة الحلوى والملبّس والقهوة، وتفقّد “المعازيم” والترحيب بهم فردًا فردًا بعد العشاء.
يتابع بيضون وصف ما شهده في ذلك العرس فيقول: “إنّ الأغنية الأولى الّتي يشغلونها لبدء الرّقص هي أغنية خاصة تقول: جينالك ع ظهور الخيل والبيارق بتلالي
اشتقنالك يا بنت جبيل يا جبين العزّ العالي”.
فيخرج الناس للرقص، كلّ زوج مع زوجته، وكلّ شقيقٍ مع شقيقته، إلى أن يتقدّم إثنان من أقارب العرسان “ويأخذون يرشّون فوق رأسيهما أوراقًا من فئة الدولار الواحد”، والمبلغ الّذي يتجمّع مع انتهاء الرّقصة يذهب لصالح العروسين. إلى أن يحضر الجنوب فجأة في العرس، بأغنية “منرفض نحنا نموت” ويحضر حاج وحاجّة إلى وسط ساحة الرّقص، ليبدأ بعض المدعوين برشّ المال على الحاج والحاجّة”. “أمّا المال الّذي يُرشّ في هذه الدقائق فيذهب إلى المحتاجين والأيتام في بنت جبيل. هذا الحماس يمهّد للدبكة الّتي تضيق بها الحلبة على رحبها”.
بنت جبيل أحمد بيضون، هي تلك المحافظة العامليّة المصغّرة، والّتي تلخّص حال وواقع البلد بأكمله. البلد المتهاوي والّذي فيه شقّ عميق يفصل العالم إلى عالمين، وهذا الشّق هو ليس إلا الهجرة والغربة وتراكم الجاليات. هكذا وُلدَ وجود بنت جبيل- ميشيغان، ولم يكن قد اخترع بيضون هذا العنوان الّذي يجمع كلمتين مختلفتين بالموقع والحال، ولكنهما معًا تبدوان- لأهل بنت جبيل ولجالية ميشيغان- مجرّد كلمة واحدة: بنت جبيل- ميشيغان، عالم واحد، ولكنّه منقسم بين من يختارون البقاء والأصل، وبين أولئك الّذين هاجروا و”تأمركوا” على طريقة “البنت جبيليّين”، ولكن ذاك الأصل ظلّ يلاحقهم إلى الأزل، وظلّت ترنّ في آذانهم بنت جبيل- لبنان، لا بنت جبيل- ميشيغان.