بوداي بلدة المئة شهيد والـ 130 غارة
لم يكن الـ 23 من أيلول (سبتمبر) الماضي يومًا عاديًّا على عائلة ذوالفقار شمص، إذ لم يشفع للعائلة انتقالها من منزلها في بلدة بوداي البقاعيّة، إلى مبنى قيد الإنشاء في البلدة نفسها اعتبرته أكثر أمانًا واحتماءً من غارات الموت الإسرائيليّة التي زرعت البقاع الشمالي دمارًا وخرابًا؛ ففي ذاك اليوم، وقعت واحدة من أقسى المجازر الاسرائيليّة، وذهب ضحيّتها 22 شهيدًا من العائلة، بعد أن استهدفت غارة اسرائيليّة المبنى الذي تتواجد فيه، فأحالته دمارًا وخرابًا وموتًا.
أصعب اللحظات وأقساها
يستذكر ذوالفقار في حديث لـ”مناطق نت”، أصعب لحظات حياته، فيقول: “خسرت أغلى ما أملك، فقدت زوجتي وأولادي الثلاثة وأخت زوجتي وأولادها، وزوجة ابن عمي وأولادها، وصهري وأمّه وزوجة أخيه وابنه، في حين كان الناجي الوحيد من المجزرة أحد أصهاري”. عندما يُعدّد ذوالفقار الشهداء، تشعر وكأنّ الزمن توقف به، فهي لحظات أقسى وأصعب من أن يتخيلها إنسان، لحظات جعلت ذوالفقار يتّخذ قرارًا سريعًا برفع أشلاء الضحايا من بين الركام، في ظلّ غياب الدفاع المدنيّ والهيئة الصحيّة “كنت مجبرًا ولم يكن هناك حل آخر أمامي”، متسائلًا “هل أترك اشلاءهم للكلاب؟ لقد اسوّد القلب ويئست، ومن حينه بتّ أساعد أهل القرية في رفع انقاض أيّ مجزرة”.
تمكّن ذوالفقار ومن ساعده من أبناء البلدة من جمع ثمانية أكياس من الأشلاء، وفي وقت لاحق عُثر على أشلاء إضافيّة ما زالت حتّى اليوم في المستشفى بسبب عدم فصل الأعضاء وعدم انجاز فحص الحمض النووي (DNA).
يُكرّر ذوالفقار باستمرار مأساة عائلته، ثم ينفعل ويعلو صوته مؤكّدًا أن أفراد عائلته “لا علاقة لها بالأحزاب، ولا ذنب لهم”، ثمّ يزدري بعضاً من ريقه ويضيف “إنّها مشيئة ربّ العالمين وهذا نصيبهم، فقد انتقلوا من منزل إلى آخر ولم يتمكّنوا من الهرب من قدرهم”.
قصّة ذوالفقار شمص المخضّبة بالدم، ليست الوحيدة في بوداي، فهناك عشرات القصص تتشابه معها، وتروي مشاهد الإجرام الإسرائيليّ الذي تعرّضت له البلدة، من بينها قصّة حسن ناصيف الذي فقد أخوته وعائلاتهم وصهره بعد أن استُهدف منزل العائلة الذي كان يأوي 12 فردًا في الـ 28 من تشرين الأول (أكتوبر) الماضي في منطقة الحفير التحتا في بوداي.
يلفت ناصيف، في حديث لـ”مناطق نت”، إلى أنّ “العائلة فقدت 10 من أبنائها، من بينهم ثلاثة رجال وأربع4 نساء وثلاثة أطفال، جرى انتشال أشلائهم”. ويوضح أنّ “طفلتين نجيتا بعد أن أُصيبتا بجروح، لتمكثا 18 يومًا في المستشفى، وما زالتا تُعانيان من بعض الكسور”. ويختم ناصيف مشيرًا إلى أنّ “إسرائيل جزّارة، تقتل المدنيّين في كلّ مكان ولا نقول إلّا إنّ لله وإنّ إليه راجعون”.
مجازر متنقّلة ووحشيّة
توالت المجازر والاعتداءات الإسرائيليّة على بوداي، والتي طالت المدنيّين، لا سيّما النساء والأطفال. يروي أحد أبناء البلدة، حسن شمص لـ “مناطق نت”، ما تعرّضت له بوداي فيقول: “إن المسيّرات لم تفارق أجواء البلدة طوال فترة الحرب، وكذلك الطائرات الحربيّة التي تقوم بشكل شبه يوميّ باستهداف البلدة”. ويلفت شمص إلى أنّه “بعد المجزرة الكبرى (بحقّ عائلة ذوالفقار شمص)، كانت مجزرة آل مراد وذهب ضحيّتها أربعة أفراد، بالإضافة إلى مجزرة سقطت فيها امرأة وابنها من آل عسّاف، وبعدها مجزرة أخرى طالت عائلة من آل شمص ذهب ضحيّتها سبعة أفراد، ومن ثمّ مجزرة بيت شودب التي وقع ضحيّتها عائلة من أربعة أفراد بينهم طفلان وامرأة”.
لم تقف جرائم العدوّ الإسرائيليّ بحقّ أهالي البلدة عند هذا الحدّ، بل استمرّت، فكانت مجزرة العلاق في سهل بوداي والتي أسفرت عن 24 شهيدًا بينهم ستّة أطفال وخمس نساء. وعاد العدوّ وقصف العلاق مرّة ثانية ليرتكب مجزرة جديدة لعائلة مؤلّفة من أربعة أفراد، بالإضافة إلى مجزرة آل ناصرالدين وهي أيضًا عائلة مؤلّفة من أربعة أفراد بينهم طفلان وامرأة.
لم تقف جرائم العدوّ الإسرائيليّ بحقّ أهالي البلدة عند هذا الحدّ، بل استمرّت، فكانت مجزرة العلاق في سهل بوداي والتي أسفرت عن 24 شهيدًا بينهم ستّة أطفال وخمس نساء
أمّا المجزرة التي وقعت بين بلدتي بوداي وفلاوى فسقط ضحيّتها رجل وزوجته في العقد الثامن من العمر، وطفل في الـ 14 من عمره، فضلًا عن مجزرة أخرى أسفرت عن استشهاد طفل من آل حسن ووالدته من آل سليم.
إضافة لذلك، عادت الطائرات الاسرائيليّة في الـ 23 من تشرين الثاني (نوفمبر) الجاري وأغارت على البلدة مرتكبة مجزرتين جديدتين بحقّ أفراد من آل شمص والسبلاني بينهم امرأتان. بالإضافة إلى عدد من الغارات التي طالت جرود البلدة ومنطقة الكروم، وعدد من الغارات على أطراف البلدة، كما لم يسلم محيط البلدة من الاعتداءات بما فيها فلاوى، عدوس، كفردان، بيت مشيك.
بلدة الـ 100 شهيد
أكثر من 130 غارة تعرّضت لها بوداي منذ توسّع رقعة الحرب، قبل أكثر من شهرين، أيّ بمعدّل غارتين إلى ثلاث غارات يوميًّا. وهو ما أسفر عن وقوع نحو 100 شهيد، إذ لا تكاد تخلو عائلة من شهيد أو جريح، لتصبح بذلك “بوداي” بلدة المئة شهيد، أكثر من نصفهم من النساء والأطفال.
تقع بوداي غرب مدينة بعلبك ويبلغ عدد سكّانها نحو 12 ألف نسمة، كانت من أولى البلدات البقاعيّة التي تعرّضت للقصف وفق المعادلة التي حاول العدوّ الإسرائيليّ فرضها في أنّ البقاع مقابل الجولان.
على الرغم من تحوّلها إلى “مأتم كبير”، بعدد شهداء ناهز المئة، لم يشفع كلّ ذلك لبوداي، ويخوّلها لأن تخرج من دائرة العتمة إلى حيّز الضوء، ومن التهميش والإهمال، إلى دائرة الاهتمام والالتفات، فبقيت منسيّة مثل كثير من بلدات البقاع الشماليّ، معلّقة على حبل الانتظار.