بيت “الزمن الجميل” حكاية أولى مضافات الشوف الدافئة

في حضن الجبل، تتربّع محميّة أرز الشوف، وبين طيّات أرضٍ عرفت الزراعة والمؤونة وتربية المواشي، ينهض بيتٌ من حجرٍ وتراب، يحتضن ذاكرة الزمن. هناك، في بلدة الخريبة القريبة من المختارة، عاش الناس منذ قرون حياةً بسيطةً تقودها فصول الطبيعة ومواسم الحصاد. اليوم، من بين تلك البيوت التي كاد النسيان يطويها، يسطع بيت سليم الأشقر كأوّل بيت ضيافة في أعالي الشوف، مبنيّ على الطراز اللبنانيّ التقليديّ، ليحفظ الحجر فيه تراث الأجداد.

بيت الزمن الجميل

بدأت حكاية هذا البيت قبل أكثر من 200 عام، حين شيّد الجدّ الأكبر، حامد الأشقر، منزله من الحجر والتبن، وسقفٍ من خشب التوت والحَور. كان ذلك في زمنٍ لم يعرف فيه الجبل اللبنانيّ سوى السواعد والعزيمة. لم تكن هناك آلات، ولا خرائط هندسيّة.

تألّف البيت في حينه من طابقٍ واحد، وسقف من الخشب المندمج بالتراب، اعتادوا ترميمه يدويًّا كلّ شتاء لمنع تسرّب مياه الثلوج. عاش أهله، كمعظم سكّان الجبال، على تربية الماشية وزراعة الأرض وتحضير المؤونة.

منزل سليم الأشقر أولى بيوت الضيافة في الشوف

لم يكن حامد مجرّد بانٍ لهذا البيت، بل كان رجل دين ومختار البلدة ومرجعيّتها. من بعده، تابع أبناؤه المسيرة، فحملوا صوت أهل الخريبة، في زمنٍ كان فيه لقب “الشيخ” أو “المختار” مسؤوليّة لا تشريفًا شكليًا، وموقعًا يُكلَّل بالاحترام والوجاهة.

في العام 1946، أضاف الجدّ قاسم، الطابق الثاني للبيت، ليكون “المضافة”؛ مكانًا يستقبل الزوّار والضيوف، ويتحوّل إلى نقطة لقاء اجتماعيّ لأهل الحيّ. وحتّى اليوم، من يصعد إلى هذا الطابق عبر درجين خارجيين، وكأنّه يرتقي إلى طبقةٍ من التاريخ.

تحوّلٌ لبيت ضيافة

بعد انتهاء الحرب اللبنانيّة، وتأسيس محميّة أرز الشوف رسميًّا، بدأ الزوار والسيّاح يتوافدون إلى المنطقة. ومع النقص في المرافق السياحيّة، لمعت فكرة إنشاء بيوت ضيافة تراثيّة تستقبل الزائرين وتؤمّن لهم تجربة أصيلة.

الأشقر: لم أشأ أن أزيل قناطر الحجر، ولا الباب الخشبيّ، ولا مطبخ جدّتي. أردت أن يأتي الزائر ويشعر وكأنّه يعيش في قلب الزمن الجميل

وكان لا بدّ من أن تكون الريادة لسليم الأشقر، الحفيد الخامس لباني البيت، وابن الجبل العائد إلى تراثه بعينٍ من الحنين. طلبت منه إدارة محميّة أرز الشوف تحويل المنزل إلى بيت ضيافة، فقرّر أن يحافظ على كلّ ما فيه من أثرٍ وتاريخ. يقول الأشقر: “لم أشأ أن أزيل قناطر الحجر، ولا الباب الخشبيّ، ولا مطبخ جدّتي. أردت أن يأتي الزائر ويشعر وكأنّه يعيش في قلب الزمن الجميل.”

بيت ضيافة أصيل للراحة

في أقلّ من عامين، تمكّن سليم من تجهيز البيت لاستقبال الزوّار، مع الحفاظ على طابعه التراثيّ الأصيل، فاكتفى بالترميم والتفعيل. أصبح البيت اليوم مؤهّلًا بالكامل، مزوّدًا بتدفئة على المازوت في فصل الشتاء، سقفه خشبيّ لا يزال كما هو من التوت والحور مع إدخال لمساتٍ جماليّة وهندسيّة عصريّة حيثما يلزم.

يجمع بيت الضيافة في الخريبة بين سجلٍّ حافلٍ بالعراقة وبين تاريخ المرجعيّة الدينيّة والاختياريّة والاجتماعيّة، ويعكس نمط الحياة التقليديّة للأجداد في أعالي جبال الشوف، بل وعلى امتداد لبنان. في الوقت نفسه، يقدّم صورةً عصريّةً تحافظ على التراث، وتستقبل الزوّار في بيئةٍ تجمع بين الأصالة والراحة، وتؤمّن لهم مختلف الخدمات في حضن الطبيعة.

يتابع سليم الأشقر في حديثه إلى “مناطق نت”: “إنّ نزلاء هذا البيت هم من زوّار محميّة أرز الشوف، أو ممّن يقصدون المنطقة في رحلات سياحيّة واستكشافيّة في الجوار”. إضافة إلى أنّ وفود “درب الجبل اللبنانيّ” ينزلون في بيته مرّتين سنويًّا، خلال جولاتهم التي تمتدّ على طول الجبال اللبنانيّة: مرّة في الربيع، وأخرى في الخريف.

كيف يستقبل زوّاره؟

يشير سليم إلى أنّ البيت يتّسع لـ 18 زائرًا، موزّعين على جناحين مخصّصين، ويضمّ غرفة شتويّة كبيرة مشتركة تحتوي على مدفأة “شومينيه”، إلى جانب مطبخ واحد وحمّامين مشتركين لجميع النزلاء.

أمّا الحديقة فهي تراثيّة، تضمّ بركة ماء وجلسة خارجيّة جماعيّة وسط بيئة خضراء وغنيّة، إلى جانب مكان مخصّص للشواء “بربيكيو”، وألعاب للأطفال. والأهمّ، أنّ الطبقة العليا من المنزل، والتي كانت تُعرف بـ”المضافة” سابقًا، أصبحت مخصّصة فقط لأهل البيت، ولا تُفتح للزوار، حفاظًا على الخصوصيّة.

حديقة بيت ضيافة سليم الأشقر
مطبخ بنكهة التاريخ

في بيت ضيافة سليم الأشقر، يحافظ الزوّار على تجربة فريدة من نوعها تتمثّل في “الطاولة الواحدة” المشتركة، حيث يجلس الجميع معًا، يتناولون الطعام وكأنّهم أفراد عائلة واحدة كبيرة.

هذه الروح العائلية تتجسّد أيضًا في المطبخ اللبنانيّ الجبليّ الأصيل الذي يحتضنه البيت، مستحضرًا وصفات الأمّهات والجدّات. يبدأ الفطور بمجموعة من الأطباق التقليديّة الغنيّة مثل: اللبنة، الزعتر، البيض البلديّ، المربّى، العسل وخبز التنّور الساخن. أمّا الغداء والعشاء، فهما قصّة ترويها أطباق المجدّرة، كبّة البطاطا، المحاشي، فريكة الدجاج، ورق العنب وشوربة العدس. جميعها تُطهى على نار هادئة وبحبّ كبير لزيارة لا تُنسى.

سيّارة في سجلّ الذاكرة

بعيدًا من عبق الحجر والذكريات العائليّة، يحمل بيت سليم الأشقر في جعبته قصّة أخرى تمزج بين التاريخ الشخصيّ والذاكرة الوطنيّة. ففي ركن من أركانه، تحفظ العائلة قطعة نادرة تروي حكاية من تاريخ الجبل اللبنانيّ والسياسة الوطنيّة.

سيارة المرسيدس الشبيهة بسيارة الزعيم كمال جنبلاط

يحتفظ سليم الأشقر بسيّارة مرسيدس قديمة تشبه سيّارة زعيم الجبل الراحل كمال جنبلاط، والتي كان يستقلّها يوم اغتياله في الـ 16 من آذار (مارس) 1977. وهي السيّارة التي ظهرت في الفيلم الوثائقيّ الشهير “الشاهد والشهادة”، الذي يوثّق حياة الزعيم الراحل في محيط هذا البيت، لتصبح بذلك شاهدة حيّة على الذاكرة السياسيّة والثقافيّة للجبل.

أكثر من 20 بيت ضيافة

عندما افتُتح بيت ضيافة الأشقر في العام 2001، لم يكن هناك في الشوف أيّ بيت ضيافة مماثل، فكان هو المنطلق، ومنه “كرّت سبحة” بيوت الضيافة في القرى المجاورة مثل معاصر الشوف، عين زحلتا، نيحا، وادي بعنقودين وغيرها.

اليوم، تضمّ منطقة محميّة أرز الشوف أكثر من 20 بيت ضيافة تستوحي تجربتها من تجربة الأشقر الأولى. وعلى امتداد لبنان، أصبحت بيوت الضيافة حجر أساس في السياحة الداخليّة.

اليوم، تضمّ منطقة محميّة أرز الشوف أكثر من 20 بيت ضيافة تستوحي تجربتها من تجربة الأشقر الأولى

يشير الأشقر إلى أنّ هذه البيوت ساهمت في تعزيز الاقتصاد المحلّيّ، وخلق فرص عمل للجيل الجديد، وتنمية الصناعات الغذائيّة، وحماية المؤونة والتراث الزراعيّ، بما يدعم تثبيت الإنسان في أرضه.

عبور نحو لبنان دافئ

ليس بيت سليم الأشقر مجرّد مكان للنوم أو تناول الطعام، بل هو ذاكرة حيّة. كلّ حجر فيه يحمل حكاية: عن شتاءٍ وثلج، عن حامد المختار، عن الجدّ الذي بنى السقف من خشب الحور وعن الأمّ التي وقفت هناك تغلي دبس الرمّان.

وفي زمنٍ تتسارع فيه المدن وتضيع فيه الملامح، تبقى هذه البيوت مرآةً للأصالة. فالسياحة الريفية ليست رفاهيّة وحسب، بل خيارٌ للحياة بتأنٍّ، واكتشاف الذات في مرآة الطبيعة. وحين تزور بيت الضيافة في الخريبة، لا تغادره محمّلًا بالذكريات فقط، وإنّما بإحساس عميق في الانتماء.

تحتسي قهوتك على المصطبة، تتأمّل البركة، وتُصغي إلى همس الأشجار العالية… فتدرك أنّ الجبل ليس مجرّد مكان، بل هويّة متجذّرة.

ومن الطبيعيّ أن يكون اللبنانيّ، المقيم أو المنتشر، هو الركيزة الأساس لهذا النوع من السياحة، إذ يعود كلٌّ منهم ليبحث عن جزءٍ من ذاته في بيتٍ يشبه ذاكرته… تمامًا مثل بيت سليم الأشقر، الذي لا يقدّم إقامة وحسب، بل يمنح الزائرين فرصة للعبور نحو لبنانٍ أكثر دفئًا، وأكثر صدقًا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

زر الذهاب إلى الأعلى