بيت شباب تودّع الفخار والنسيج وتواصل قرع الأجراس

قال فوزي فاخوري في العام 2018: “بيت شباب كانت مشهورة بوجود أربعين معملًا لصناعة الفخّاريّات، ورويدًا رويدًا أصبحتُ وحيدًا في صناعة الفخّار في البلدة، مع ذلك، أصرّ على الاستمرار في ممارسة هذه الحرفة حتّى النفس الأخير”، وفعلًا أوفى الرجل ما وعد به، فاستمرّ بعمله حتّى رحيله عن الدنيا منذ ثلاث سنوات ونيّف، واليوم محبّوه فقدوه مجدّدًا بعد هدم محترفه.

بيت شباب
15 دقيقة تمحو الذاكرة

خلال 15 دقيقة جُرف التاريخ في بيت شباب. الأسبوع الماضي هُدم معمل الفخّار الذي كان يعمل فيه فاخوري ومن سبقوه في حرفته. يقول هشام منصور وهو أحد الذين عرفوا فاخوري تعليقًا على هدم “البردوشة” لـ”مناطق نت”: “من لا تاريخ له لا مستقبل له، ومن لا ثقافة له لا قيمة لحياته، فهي الجسر الذي يصل بين الماضي والمستقبل وهي ما يجعل الإنسان راق وحضاريًّا، أمّا الصناعات التقليديّة فليست ذكريات من الماضي بل هي جذورنا نحن، ومن يفقد جذوره يفقد هويّته ويذبل”.

لم يقدّم رئيس بلديّة بيت شباب الياس الأشقر، الموجود في مركزه منذ 26 عامًا، والذي لطالما كان يتغنّى بكلّ إطلالاته الإعلاميّة بتراث بلدته وتاريخها وتاريخ البلديّة فيها التي يبلغ عمرها 137 عامًا، وهي من أقدم البلديّات في لبنان، إجابات واضحة عمّا حصل، وأحالنا للتحدث باتصال هاتفي على السيّدة ألين مظلوم، التي اكتفت بالطلب إلينا انتظار بيان البلديّة حول هذه الحادثة.

الراحل فوزي فاخوري في معمله للفخار في بيت شباب سنة 2015

ولكن بغضّ النظر عن الأسباب فإنّ النتيجة تبقى واضحة وواحدة، وهي أنّ مشغل الفخّار الذي كان شاهدًا على مئات الأعوام من التاريخ والماضي والثقافة، وفيه بصمات الأجداد والآباء والأبناء قد سقط، على رغم أن المديريّة العامّة لحماية الآثار قد تحرّكت بحسب معلومات “مناطق نت” إلّا أنّ المحاسبة، إن حصلت، لن تُعيد التاريخ الذي تبخّر بربع ساعة.

بحسب مصادر خاصّة لـ”مناطق نت” فإنّ المشغل المذكور “لم يكن ملكًا لفاخوري، إنّما لشخص يدعى نصّار فاخوري، والرجل كان قد اتّفق سابقًا مع فوزي فاخوري على أن يبقى في مشغله طالما كان قادرًا على العمل، وبعد وفاة الأخير، حاول صاحب المشغل والمنزل والأرض مرارًا أن يطلب من البلدية إيجاد حلّ إمّا بشراء الأرض أو بنقل المشغل وما يحتويه، دون أيّ فائدة، فاضطرّ أخيرًا إلى إزالته من أجل ترميم منزله”.

وتُضيف المصادر: “بعد إزالة المشغل علت الصرخة، واليوم هناك فرنان اثنان لصناعة الفخّار، تمّ هجرهما، ومن الممكن أن يلحقهما المصير عينه ويندثرا ما لم يتدخّل المعنيّون”.

لعلّ التذكير ينفع

يسيطر الحزن والغضب على أبناء بيت شباب بعد الفشل بحماية المعالم التراثيّة التي تشكّل جزءًا من التاريخ الذي لا يعوّض، فالشاهد الأبرز على حرفة صناعة الفخّار رحل، واليوم ضاعت ذكرياته، كما يمكن أن تضيع ذكريات حرفة النسيج إذ يوجد في البلدة كذلك عدّة مصانع مهجورة، وهو ما يقودنا إلى الحديث عن حرفة أخرى تميّزت بها بيت شباب ولا تزال، وهي صناعة الأجراس، فنذكّر إن نفعت الذكرى.

مشغل الفخّار الذي كان شاهدًا على مئات الأعوام من التاريخ والماضي والثقافة، وفيه بصمات الأجداد والآباء والأبناء قد سقط، على رغم أن المديريّة العامّة لحماية الآثار قد تحرّكت

منذ 300 عام ونيّف “نفع يوسف” أبناء قريته بيت شباب بأنّ أصبح أوّل من يصنع جرس كنيسة في لبنان والمنطقة، وهو ما جعل القرية تشتهر به على مدار عقود من الزمن، إلى جانب شهرتها الواسعة في عقول الشعراء وأقلامهم، فكانت “ضيعة الضيعات” بنظر الأديب الكبير الراحل أمين الريحاني، و”حبوب رمانّة مفتّحة” بعين الشاعر الفرنسي”ألفونس دو لامارتين”.

روايات الأجراس

وفي رحلة التاريخ والماضي، يعود اسم بلدة بيت شباب إلى السريانيّة التي تعني بيت الجار، وقد اشتهرت القرية بصناعة الأجراس، وهناك عدّة روايات لتاريخ هذه الصناعة، فمنهم من يقول إنّها تعود إلى العهد الصليبيّ العام 1120، وروايات أخرى ترجّح أنّ الروس هم من أدخلوا هذه الصناعة إلى بيت شباب في العام 1700، يوم وصل إلى لبنان شخص روسيّ من أجل صناعة جرس لكنيسة مار عبدا في بكفيّا، فعاونه عامل الحدادة يوسف غبريل من بيت شباب، فأعجب الشاب اللبناني بهذه الصناعة وسافر إلى روسيا من أجل تعلّمها، فعاد وبنى أوّل جرس لكنيسة بلدته بيت شباب، فتحوّل من يوسف غبريل إلى يوسف نفّاع، بعد أن نفع يوسف أبناء البلدة.

آخر صانع أجراس في بيت شباب نفاع نفاع في مصنعه في البلدة (الصورة تعود للعام 2015)

كذلك هناك رواية مختلفة حول تاريخ بدء صناعة الأجراس في بيت شباب، وهذه الرواية يتبنّاها نفّاع نفّاع الذي يعمل في هذه الصنعة، وتقول إنّه في إبان الحكم العثمانيّ للمنطقة العام 1700، أقفل العثمانيّون البحر ومنعوا الاستيراد من الخارج، وعندما اضطرّ البطريرك يوسف الحويّك التحرك للحصول على جرس لكنيسة، طلب من يوسف نفّاع أحد أهمّ الصناعيّين في بيت شباب أن يصنع جرسًا مشابهًا لجرس روسيّ الصنع، وهذا ما قام به الرجل للمرّة الأولى، وللتدليل أكثر على هذه الرواية يكشف نفّاع نفّاع أنّه في العام 1980 توجّه مع والده يوسف حبيب نفّاع لتركيب جرس في إحدى الكنائس في حيّ علّيّة صهيون في فلسطين المحتلّة، ليرى بأمّ عينه جرسًا مدوّن عليه “شغل طنّوس وملحم غبريل سنة 1730” وهما من بيت شباب.

الأجراس نجمات لن تأفل؟

اليوم تستمرّ هذه الحرفة التراثيّة المتميّزة في الشرق الأوسط والعالم مع نفّاع نفّاع، وريث آل نفّاع والذي يواصل العمل في مشغله بعد إقفال تسعة معامل أخرى على مرّ التاريخ، حيث كانت هذه الصناعة بمثابة امبراطوريّة بيت شباب.

يؤكّد نفّاع نفّاع في حديث لـ”مناطق نت” أنّه لا يزال شابًّا ولن يترك هذا العمل، بل سينقله إلى أولاده. ويقول: “اثنان من أولادي يتعلّمان الحرفة ويعملان بها، وستستمر هذه الحرفة في المستقبل من خلال نقلها من أبنائي إلى أبنائهم”، كاشفًا أنّه يعمل اليوم على صناعة ثلاثة أجراس لأجل حفل تطويب البطريرك الدويهيّ مطلع شهر آب المقبل في بكركي.

تُحافظ صناعة الأجراس في بيت شباب على بريقها مع آل نفّاع، أمّا صناعة الفخّار والنسيج فقد شهدتا إقفالًا لكتاب كان مليئًا بالإنجازات، فإلى متى يستمرّ الاستهتار بتاريخنا على هذا النحو؟

فاخورة فوزي فاخوري بعد هدمها في بيت شباب
داخل آخر معمل نسيج في بيت شباب

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى