“بيت صْلَيْبي”.. القرية التي لم تغادر مكانها وجمالها
هناك حيث الأفق يتمدّد بانبساط، والشمس تغور في الأصيل، تتّكئ بلدة متواضعة، تدعى “مزرعة بيت صْلَيْبي” عند سفح جبل صنّين من سلسلة جبال لبنان الغربيّة، تحتضنها أشجار السنديان والملّول. بلدة يسكنها عددٌ قليلٌ من العائلات، ترتفع 1300 مترٍ عن سطح البحر، ما يجعلها مصيفاً للهاربين من حرّ الصيف، حيث طبيعتها خلاّبة وهواؤها منعش عليل، ورائحة طيب أهلها وحسن أخلاقهم وكرم ضيافتهم تلفّ المكان وتجعله مقصداً لمحبّي الطبيعة والجوّ الجبليّ.
تعود تسمية البلدة بِـ”بيت صليبي” إلى العام 1870 حيث كان أوّل من قدِم إليها شخص يُدعى محمد علي صليبي وبنى فيها بيتاً وسكنه ليأتي إليها في مرحلةٍ لاحقةٍ، أناس آخرون من عائلاتٍ أخرى كـ”ملاّح” و”شحادة” ويسكنوا فيها، ومن يومها أُطلق عليها اسمها الحالي وفق ما يقول مختار البلدة علي الملاّح لـ”مناطق نت.” ويضيف الملاّح: “إنّ عدد سكان بلدتنا حوالى 2500 نسمةٍ، بينهم 750 ناخباً بحسب إحصاء الانتخابات النيابيّة الأخيرة العام 2022. وفيها ما يزيد على 150 وحدةٍ سكنيّةٍ”.
70 بالمئة متعلّمون
يعتمد أهالي البلدة في حياتهم المعيشيّة على الزراعة والقطاع الوظيفيّ، “واستطاعوا أن يحقّقوا قفزةً نوعيّةً في سنواتٍ قليلةٍ بسعيهم وراء التعلّم، حيث تخطّت نسبة المتعلّمين في البلدة 70 بالمئة، هاجر معظمهم إلى إفريقيا ودول الخليج للعمل هناك محقّقين بذلك أهدافهم العلميّة والماليّة”، بحسب الملاّح الذي يلفت إلى “أنّ أصغر مدير لمصرف في الشرق الأوسط هو من بلدتنا ولا يزال في العشرينيّات من عمره، بالإضافة إلى مهندسيْن من أوائل المهندسين في لبنان أيضاً”.
ويقول: “إنّ بلدتنا الجبليّة التاريخيّة تتمتّع بجوٍّ طبيعيّ عذبٍ وهواءٍ صخريٍّ منعشٍ، وقد بدأ منذ سنواتٍ يقصدها بعض أبناء المدن اللبنانيّة للتخييم والتنزّه بين غابات السنديان والملّول فيها، حيث الحياة الريفيّة الفريدة من نوعها في المنطقة”.
إنّ أبرز ما تتميّز وتتفرّد به بلدة بيت صليبي بحسب مختارها “هو نبتة السّمّاق البرّيّة الموجودة قبل وجود البلدة، وهي نبتةٌ طبيعيّةٌ متوافرةٌ بكثافةٍ في بلدتنا وتتمتّع بجودةٍ عاليّةٍ، وفيها عديد من الفوائد الصحّيّة التي يجهلها كثيرون”. ويختم مختار بيت صليبي بدعوة أبناء المناطق التي تضجّ بالتلوّث لزيارة بلدته والتعرّف على طبيعتها عن كثب.
حكايات بيت صليبي
لعجائز مزرعة بيت صليبي حكاياتٌ جميلةٌ لا ينسَوْها، ومحطّاتٌ مطبوعةٌ في ذاكرتهم مع تاريخ بلدتهم الزاخر بقصصهم المتناقلَة عبر الأجيال، فيقول الحاج توفيق شحادة (80 سنةً) لِـ”مناطق نت”: “إنّ البلدة التي ترتفع عن سطح البحر نحو 1400 مترٍ هي بلدة نائية وبعيدة عن المناطق السكنيّة المأهولة بعددٍ قليلٍ من السكّان في بداية القرن الماضي، ما جعل منها منطقةً مقطوعةً عن تأمين احتياجاتها المعيشيّة اليوميّة ومعزولةً عن القرى والبلدات الأكثر قرباً من الطرقات العامّة. وهذا ما دفعنا إلى الاستعانة بالقرى المجاورة مثل شمسطار وطاريّا لجلب الماء والمواد التموينيّة حيث كنّا نستخدم الحمير والبغال في التّنقلات على رغم ما في ذلك من شقاءٍ وتعبٍ ومخاطرةٍ ليليّةٍ بسبب الذئاب والضباع التي كانت منتشرة في المنطقة.”
علي الملّاح: بلدتنا الجبليّة التاريخيّة تتمتّع بجوٍّ طبيعيّ عذبٍ وهواءٍ صخريٍّ منعشٍ، وقد بدأ منذ سنواتٍ يقصدها بعض أبناء المدن اللبنانيّة للتخييم والتنزّه بين غابات السنديان والملّول فيها
صعوبة تأمين الماء
يضيف شحادة: “أيام كثيرة، بنهاراتها ولياليها، قضيناها في الكدّ والتعب متنقّلين بين عدد من البلدات في سبيل تأمين ما تحتاجه عيالنا، وكان تأمين الماء هو الأصعب في حياتنا اليوميّة حيث كنّا نقصد “عين أمّ دُبّين” وهي عين تبعد عن قريتنا خمسة كيلومتراتٍ صعوداً بين أشجار السنديان، نمتطي الحمير والبغال، وكنّا نتعرّض لحوادث صحّيّة خلال رحلتنا الشّاقّة ونعالجها بما تيسّر، إذ لا مال ولا طرقات ولا سيّارات ولا مشاف، وكلّ واحد منّا كان طبيبًا وممرّضًا ومداو لأيّ إصابةٍ أو مرضٍ.”
يفتخر شحادة بالأشجار البرّيّة المثمرة المتنوّعة من إجّاص وخوخ ولوز وزعرور التي تمتاز بها بيت صليبي “حيث إنّ الله وهبنا هذه الفاكهة طبيعيًّا وجعلنا نتمتّع بها على مدار السّنة. فضلاً عن تربية المواشي كالغنم والماعز والدّجاج البلديّ، وما تنتجه من حليبٍ وبيضٍ طازج نشربه ونأكله يوميًّا، فهو زادنا وطعامنا القديم- الحديث لأنّه يعطينا الصّحة والعافية وطول العمر”. مستشهداً بجدّه “الذي عاش 127 عاماً لم يغادر خلالها البلدة وطبيعتها…”. ويختم حديثه معنا بتنهيدةٍ قائلاً: “رزق الله عالحياة الماضية”.
“المراحات” للأهالي والمواشي
ويروي الحاج يوسف صليبي (85 عاماً) لِـ”مناطق نت” كيف كان يسير مع والده الذي عاش 110 سنوات حافيَيْ الأقدام إلى القرى المجاورة لمبادلة الحليب بالقمح “لتأمين الخبز للعيال الذين كانوا ينتظرون على أحرّ من الجمر خبز الحطب كي يأكلوا”. ويضيف: “ذات مرّة وبينما كنت سارحًا بقطيع الماعز، الذي كان والدي يقتنيه، في أحراج البلدة حلّ الليل وأنا في المرعى فغفَوْت تحت شجرة سنديان، وما أن استيقظت بعد منتصف الليل حتّى عددتُ رؤوس الماعز فوجدتها ناقصةً جديًا واحدًا فخفت من عقاب والدي الذي سينفّذه عليّ لإهمالي الانتباه إلى القطيع. وهذا ما حصل وتقبّلت منه عقابه لي”.
ويقول صليبي: “إنّ بيوت البلدة في بداياتها كانت عبارةً عن “مْراحٍ” وهو بيت مبنيّ من الأحجار والتّراب حيث كنّا نسكن المراحات ومعنا مواشينا من أبقار وماعز وأغنام ودجاج. وفي أوقات الشّتاء والبرد كنّا ننام بالقرب من المواشي طلبّا للحرارة والدفء حيث كان هذا هو مصدر التدفئة. ووجود المراحات في البلدة دلالة على تاريخيّتها وما بقي منها حتّى يومنا هذا يؤكّد ذلك”.
هويّةٌ من العهد العثماني
ويؤكّد صليبي أنّ تاريخ بلدته يعود إلى العهد العثماني “أيّ إلى أيّام كان لبنان تحت الحكم التركيّ. ولا نزال نحتفظ بوثيقة تعود إلى العهد التركيّ تُثبت تاريخ ميلاد جدّي علي صليبي، وتاريخ حصوله على التسجيل في الدوائر الرسميّة، يومها، موقّعةً من الحاكم التركيّ. وهي طبعًا ترجع إلى القرن الثامن عشر.”
الحاج يوسف صليبي الذي يعشق بلدته وطبيعتها وهواءها أبى إلّا أن يُنهي حديثه معنا ببيتٍ من العتابا القرويّة:
أهلًا وسهلًا بقدمكن،
شرّفتوا المنازل بقدمكن،
يا أرض اليابسة لدعست قدمكن
اخضرّت والعشب فيها إنتشا.