بيروت خيمتنا المفتوحة
“بيروت خيمتنا” قالها الشاعر الفلسطينيّ الراحل محمود درويش ذات يوم، ولعلّها هي الآن كما وصفها خيمة نزوح كبيرة، تفتح ذراعيها للّاجئين من أتون القصف والغارات الإسرائيليّة الوحشيّة، التي لم تترك مكانًا إلّا وزرعت الموت فيه.
أجول في بيروت، أعاين مشاهد وصورًا بدأت ترسخ عميقًا في ذاكرتي، وأفكّر أنّني قد أصير تلك الناجية من الحرب التي تسرد لأصدقائها ذكريات النزوح وتصف لهم رائحة القصف ووجوه شغلتها المآسي. أجول في بيروت، بين البيوت والناس حيث الحزن سمة الشوارع والطرقات والأبنية والأماكن.
لكلّ نازح وعائلة ومركز إيواء حكاية، هذا ما فكّرت به. لا يختلف المشهد هنا في متوسّطة فرن الشبّاك الرسميّة عن غيره من مشاهد النزوح في مراكز الإيواء التي غصّت بها العاصمة. الوجوم هو الغالب على معظم الوجوه التي رأيتها، والتعب يحاكي كلّ لحظةٍ من هذه المرحلة، منذ إخلاء منازلهم في القرى البعيدة وصولًا إلى حطّ الرحال في مراكز الإيواء.
نزوح فوق درّاجة
يحكي لي الشاب الثلاثينيّ من بلدة البازوريّة الجنوبيّة، كيف وصل إلى المدرسة هنا في فرن الشبّاك قبل نحو 10 أيّام، يقطن لوحده في المدرسة، بعد رحيل أبويه عن الدنيا، وبعد أن نزح إخوته إلى مناطق أخرى متفرّقة.
نزح وحده من الضيعة، يقول: “في إحدى الليالي بعد أن اشتدّ القصف وانقطع التيّار الكهربائيّ عن البلدة، سرت بدراجتي الناريّة على طول الطريق، رفقة الرعب والخوف. قبل نزوحي من الجنوب كنت أعمل حدّادًا “افرنجيًّا”. شهد تراجع عمله وانهياره، وكان قد اشترى بضاعة جديدة بالدّين من أحد الأقارب، إلى أن اشتدت الحرب وفرّ الناس تاركين بيوتهم ومصادر رزقهم.
بحسرةٍ يحدّثني عن المساعدات التي يعيشون من خلالها، أحيانًا يقدّمون لهم طعام الغداء الجاهز، وأحيانًا تلجأ النسوة إلى إعداد الطعام في الغرف. وفي معظم الأحيان يعيش النازحون في المدرسة خوفًا شديدًا من الهواتف المحمولة خصوصًا بعد عملية “البايجر”، يرتابون من التحدّث إلى أيّ شخص غريب خارج دائرة معارفهم، ومن هم خارج المدرسة.
يحدّثني عن أشخاص داخل المدرسة يعتبرون أنفسهم أصحاب الكلمة في تنظيم الأمور وتوزيع المساعدات، وبأنّه يوجد مشاكل عديدة بين هؤلاء. ويحكي عن أمله القديم في تأسيس أسرة وبأنّ الأمل بات شبه مقطوع، لأنّ الواقع بعيد كلّ البعد عن ذلك “حتّى لو خلصت الحرب ولقيت بيتي صامد. من قبل كنّا تعبانين ومنركض ورا اللقمة كيف هلّأ؟”.
صرنا مثل الرحّالة
في طريقي المليء بهمومهم، التقيت برجل ستّيني من بنت جبيل، ها إنّه يصف رحلة نزوحه الشاقّة بين البيوت والمناطق. يقول: “صرت مثل الرحّالة، لكن ذلك لا يحزنني الآن طالما أنّ كلّ من أحبّهم بخير، وعلى رغم أنّ زوجتي التي هربت تحت القصف لم تعد تستطيع العيش إلّا تحت رحمة مهدئات الأعصاب”.
الوجوم هو الغالب على معظم الوجوه التي رأيتها، والتعب يحاكي كلّ لحظةٍ من هذه المرحلة، منذ إخلاء منازلهم في القرى البعيدة وصولًا إلى حطّ الرحال في مراكز الإيواء
وبدمعة مخنوقة يتحدث عن عمله كمزارع حينما “كنت أهتم بقصور الأثرياء في الجنوب، والآن كلّ شيء ذهب وزال، القصور والبشر والحجر”.
تعدّد سيدة جنوبيّة لجأت وسكنت في المدرسة منذ 15 يومًا، عن الأضرار التي لحقت بمنزلها في الجنوب، وتعتكف عن الحديث “بأيّ شيء آخر” لأنّها لا تودّ أن تتذكّر أيّ شيء يربطها بالقرية التي أتت منها، فذلك “مؤلم جدًّا بالنسبة لي. أعيش في وسط الخوف من المجهول والقلق الدائم على أولادي”.
عن حال المدرسة تخبر سيّدة من بلدة نحلة البقاعيّة، اختارها النازحون مسؤولة عن شؤونهم، “عن العلاقة الطيّبة بين النازحين، إنّ المركز يضمّ نازحين من الجنوب والبقاع والضاحية، تُقدَّم لهم مساعدات عينيّة من الجمعيّات ومن بعض أصحاب الأيادي الخيِّرة في المنطقة”. على رغم ذلك، تشكو لـ “مناطق نت” من انقطاع المياه والكهرباء باستمرار، “في حين يتولّى أحدهم مسؤوليّة تعبئة المياه، ولكن يبقى كلّ ذلك غير كافٍ للنظافة والاحتياجات الأُخرى. الطعام لا يكفي في معظم الأحيان بحيث يبتاعونه من خارج المدرسة”.
بيروت “وجعنا”؟
تحدّثني أيضًا عن خمسة نازحين من كبار السن وعن ثلاثة أطفال من ذوي الاحتياجات الخاصّة وقد اهتمّت لأمرهم الجمعيّات، وامرأة حامل تتابع والدتها وضعها الصحّيّ.
“بيروت خيمتنا” يقول محمود درويش، وهنا حيث صار هذا الوطن كلّه أكبر خيمة تؤي النازح والخائف والمصاب والشهيد والمتخلّي عن الأمل والمتلحّف الصمود، لا يبدو إلّا أنّ “بيروت غصّتنا”، وقد حان الوقت لبيروت أن تستريح من تغيير جلدها، من ساعة تكون فيها خيمة، ومن أخرى تغدو غصّة، مرة تكون “خيبتنا” و”وجعنا”، وأحيانًا بيروت لم تكن ولم تعد وعليها السلام.