بين البلوكات الإسمنتيّة والتشريعية.. يقع البرلمان
لا أخال أنّ ثمّة مواطنًا لبنانيًّا لا يقف موقف المتعجّب إزاء تلك البلوكّات الإسمنتيّة التي تحوط مبنى مجلس النوّاب من كلّ الجهات. فإذا كانت الحياة السياسيّة في أيّ مجتمع من المجتمعات في العالم هي نزوع نحو الممكنات فإنّ مجلس النوّاب اللبنانيّ عبر هذا الإسمنت المتراكم من حوله، هو نزوع نحو البلوكّات كما ينبئنا تاريخ هذا المجلس الكريم أقلّه منذ التسعينيّات.
يخال المرء عبر التمعّن في هذه البلوكّات المتراصّة أنّ التشريع في هذه الناحية من العالم هو مجرّد صياغات إسمنتيّة لا تستوفي إلّا شرط الجمود، فترتيب فضاء المدينة غالبًا ما يتوسّل الانفتاح والآفاق اللامحدودة ويتوسّل أكثر ما يتوسّل كسر الحدود الصلبة وبالتالي وضعها محلّ تناثر وشتات. أمّا بيروت – أقله عبر بلوكّات البرلمان – فتراها مدينة محدودة الآفاق وصولًا إلى الظنّ أنّ البلوكّات هي فرصتنا الوحيدة في هذا البلد لكي يكون لنا برلمان… ويا لها من مفارقة غريبة أن يكون البلوك الإسمنتيّ هو عنوان البرلمان وأبرز معالمه.
كلّما مررت قرب برلماننا الختيار أكثر ما تتناهشني فكرة أنّني بصدد المناظرة مع محض الركود، بصدد مناقشة الجماد وبصدد انكماش الألسن واللفتات.
ثمّة هويّة بخسة مائعة مهلهلة وفائقة الهشاشة تتولّى المرء لدى معاينته الاصطفاف الفظّ لبلوكّات البرلمان اللبنانيّ، ذلك أنّ الهويّة المتولّدة عن التكرار بشكل عام وتكرار البلوكّات بشكل خاص لا يمكن أن تتجاوز محض الميوعة والهلهلة وتلك الهشاشة التي تشي بملل لا حدود له ولا قاع.
بصرف النظر عن الأسباب التي بمعظهما خشبيّة والتي استدعتْ حصر “جسدنا التشريعيّ” داخل هذا الكمّ الضخم من البلوكّات الإسمنتيّة، فإنّ هذا الجسد عبر جملة بلوكّاته يبعثر حكمًا إمكان الإنتماء الوجدانيّ للمواطن اللبنانيّ إلى هذا الجسد (الجسد التشريعيّ) الذي بسبب بلوكّات الباطون بالذات لا يمكن أن يوصف إلّا بالجسد الهزيل. بل ترى البرلمان كلّه معطوفًا على هذا الإسمنت المتراصّ هو بمثابة حاضر الأشياء المنصرمة منذ سنوات وسنوات.
نعم، مشهد بلوكّات البرلمان اللبنانيّ ما هو إلا ترميم لذاكرة خنادق الحروب الأهليّة التي عصفت بهذا البلد كإعصار. لذلك يبدو مجلسنا النيابيّ عبر الجزء الأكبر من بلوكّاته، عبارة عن استحضار دائم للخنادق والمتاريس وأكياس رمال دشم حروب بعض أهل هذا البرلمان ممّن يتولّون منذ بداية التسعينيّات تشريع شؤون حياتنا، للأسف الشديد.
لست أدري، ربّما سادة هذا البرلمان يريدون – رمزيًّا- عبر جيش البلوكّات الإسمنتيّة ذاك أن يفوزوا بصمت كلّ من يخالفهم الرأي… فللرموز وجاهتها، كما يعلم الجميع، في عالم السياسة والحروب وصولًا إلى المحاصصات و”البزنس” والأعمال.
كان المشرّعون الرومان يتباهون بزخم الكلمات التي تداخل ميادين اجتماعاتهم وساحات هذه الاجتماعات؛ أمّا في الحالة اللبنانيّة فإنّ تباهي المشرّعين يقوم على زخم البلوكّات!
ربّما على “برلمانيّينا الأشاوس” أن يعوا أنّ الحكي المنبريّ تحت قبّة البرلمان لا يستمدّ وجاهته من محض الكلمات، إنّما هذا الوهج يُستمدّ أكثر ما يُستمدّ من إزالة كلّ الحواجز بين الناس والكلمات.
مشهد بلوكّات البرلمان اللبنانيّ ما هو إلا ترميم لذاكرة خنادق الحروب الأهليّة التي عصفت بهذا البلد كإعصار. لذلك يبدو مجلسنا النيابيّ عبر الجزء الأكبر من بلوكّاته، عبارة عن استحضار دائم للخنادق والمتاريس
ثمّة أمل يحدونا وهو أن تتجاوز برلماناتنا المقبلة الأشكال المنقبضة من النوّاب الذين يعكسون بعموم سلوكهم تلك البلوكّات التي تزنّر جنّة قاعتهم… ثمّة حاجة ملحّة للأجيال المقبلة للتخلّص من كلّ البلوكّات.
قد تلقي الشكوك بظلالها حيال علاقة المواطن العاديّ (متل كاتب هذه المادّة) ببرلمان بلاده عندما يكون هذا البرلمان محاطًا بهذا العدد من السواتر الإسمنتيّة الخالية الوفاض. فمن نافل الأمور أن يكون البرلمان صدى هذا المواطن وانعكاسًا مباشرًا لرغباته في كيفيّة العيش، وهو ما يخالف أن يكون البلوك الإسمنتيّ المكتفي برصيده من الجمود هو محطّ النظرة الأولى بصدد العلاقة مع البرلمان.
تتوزّع تلك البلوكّات الكثيرة بانضباط قلّ نظيره حول مجلسنا التشريعيّ، وهي تعكس بشدّة التباس ملامح هذا المجلس وازدحام هيئاته بمحض التحجّر والجمود وصمّ الآذان.
ربّما في بعض دلالاتها، تلك البلوكّات هي توق بعض ناس البرلمان اللبنانيّ إلى أن يكونوا مجرّد أصنام أو هياكل منعزلة، لكنّ العزلة بين البرلمان وعموم المواطنين هي محلّ توهّم كبير مهما طال أمد هذا التوهّم وتشعّباته.
يقال إنّ كلّ بداية جديدة تستبطن بالضرورة شروط تفتيت كلّ مرجعيّات البدايات السابقة. بالتالي، وفي غمرة البدايات الجديدة التي تزخر بها البلاد يبقى الأمل أن تعمد هذه البدايات الجديدة إلى تفتيت سائر المرجعيّات البلوكيّة الطابع للبدايات السابقة، سواء أكانت هذه البلوكّات تسوّر البرلمان من الخارج أو تلك التي تسوّر أرواح اللبنانيّين وتطلّعاتهم منذ اتّفاق الطائف وبداية عقد التسعينات.