بين الشائعات والسطوة الذكوريّة: من يختطف النساء؟

أُشيع في المدّة الأخيرة، كثير من الأخبار التي انتشرت في مناطق مختلفة من لبنان، وتضمّنت الحديث عن اختطاف عدد من النساء من أعمار وجنسيّات مختلفة، غالبيتهنّ من القاصرات.
سبّب شيوع الأخبار حول ذلك خوفًا واسعًا أثقل على كثير من النساء وعائلاتهنّ، إذ أحجمن كثيرات عن الخروج من المنزل، ولا يزال هذا الخوف يلاحقهنّ على الرغم من تطمينات قوى الأمن الداخلي، بأنّ ليس هناك عصابات خطف منظّمة في لبنان.
إلّا أنّ هذه التطمينات لم تُبدّد القلق، لأنّ الثقة بالقوى الأمنيّة، وبخاصّة في ما يتعلّق بقضايا النساء شبه غائبة. فالمشكلة قديمة وبنيويّة، إذ إنّ تعاطي الأجهزة الأمنيّة مع جرائم قتل النساء أو قضايا العنف ضدهنّ لا يزال بطيئًا، ويخضع لبيروقراطيّة شديدة المقت.
بيروقراطيّة التبليغ
قبل عدّة أشهر، وبينما كنت نائمة تلقيتُ اتصالًا. فتاة لا أعرفها استدلّت بطريقة ما على رقمي، لتخبرني بأنّها هربت مع أخواتها القاصرات إلى منطقة بعيدة، لأنّ والدها هدّدها بالقتل.
ببساطة، تتحوّل حياة النساء إلى رهينة بيروقراطيّة ذكوريّة باردة، تساوم على سلامتهنّ
أن يستيقظ المرء على خبر من هذا النوع، من صبيّة تلجأ إليكِ طلبًا للحماية، بمثابة مواجهة فجّة مع حقيقة أنّ حياة النساء في هذا البلد تُترَك لمصادفات التضامن الفرديّ بدلًا من أن تكون محميّة بالقانون. وعلى رغم أنّني لست خبيرة في الحماية أو العمل الاجتماعيّ، وجدت نفسي منساقَة بشكل غريزي إلى التجاوب. يكفي الاستشعار بنبرة خوف في صوت أحداهنّ كي ينتابك شعور بخطر محدق بك، ومعه آلام المعدة التي تلحّ بضرورة القيام بخطوة ما.
قضيت اليوم التالي موزّعة بين الاطمئنان عليها، واتّصالات لا تنتهي مع جمعيّات محلّيّة. غالبيّتها اعتذرت بحجّة عطلة الأعياد، أو رمت المسؤوليّة على غيرها لأنّ القضيّة تخصّ قاصرات “وتحتاج وقتًا”. كأنّ العنف يُعلَّق حتّى انتهاء العطلات. كأنّ حياة النساء تنتظر الدوام الرسميّ كي تُحتَسب.
الحماية بإذن مسبق
أمّا قوى الأمن، فكانت أكثر وضوحًا: “على الفتاة أن تعود إلى منطقة سكنها لتقدّم شكوى ضدّ والدها المعنِّف”. أيّ أنّ القانون يشترط أن تعود الضحيّة إلى مسرح العنف كي تصبح لها “أهليّة الحماية”.
وبعد جهد طويل، عادت الفتاة وقدّمت شكوى. لكن ما جرى لاحقًا كان عنفًا مضاعفًا: تتّصل بي لتقول إنّ والدها في المنزل، وتطلب تدخّل الدرك للقبض عليه. الردّ كان ثابتًا: “لا نستطيع التحرّك من دون إذن من النيابة العامّة”.
هكذا ببساطة، تتحوّل حياة النساء إلى رهينة بيروقراطيّة ذكوريّة باردة، تساوم على سلامتهنّ، وتثبت مرّة جديدة أنّ المؤسّسة التي يفترض بها حمايتنا، تتباطأ في الاستجابة.
في خانة الحوادث الفرديّة
تزامنت أخبار اختطاف النساء في لبنان مع ما يجري في سوريا، حيث جرى تداول روايات عن خطف نساء من الطائفتين العلويّة والدرزيّة، ثم ظهورهنّ فجأة محجّبات على الشاشات يصرّحنَ بأنّهنّ هربنَ بإرادتهنّ للزواج. هذه الصورة الإعلاميّة بحدّ ذاتها تثير الريبة: منذ متى تخرج النساء اللواتي يُقال إنّهنّ هربنَ إلى العلن بهذا الشكل المسرحيّ؟ أيّ امرأة تدرك أنّ خطوة كهذه لا تُقرأ إلّا في سياق السيطرة على أجساد النساء وتحويلهنّ إلى مادّة صراع.
يبدو أنّ النساء مثل حجر الـ “دومينو” المتحرّك، يُستخدم شرفهنّ ووجودهنّ في الحروب الطائفيّة والقبليّة في المنطقة
بالعودة إلى لبنان، فقد كان الردّ الرسميّ على انتشار أخبار خطف الفتيات من قبل قوى الأمن الداخلي، عبر ڤيديو نشرته المؤسّسة يختزل القضيّة بالقول: إنّ معظم النساء اللواتي انتشرت صورهنَّ، عُدنَ إلى منازلهنّ بعد 24 ساعة، وإنّ أسبابهنّ “عائليّة أو اقتصاديّة”. بهذه البساطة، يُختزل العنف الجندري البنيويّ إلى “حوادث فرديّة”، وكأنّ المسألة لا تتعدّى التفاصيل اليوميّة، لا بنية اجتماعيّة تدفع النساء دائمًا أمام خيار الهروب من بيت العائلة أو مواجهة تهديد الحياة.
فانتازمات ذكوريّة بدائيّة
المفارقة في الموضوع أنّ أخبار انتشار خطف الفتيات ليست يتيمة، فمن يجرِ بحثًا بسيطًا على الإنترنت سيجدْ أنّ هذه الأخبار عرفت انتشارًا سابقًا، وأنّ الأرقام التي يتكرّر في الإعلام (50 حالة أو أكثر) التداول بها بائتة من فترات زمنيّة متقطّعة على مرّ السنوات الماضية، وتحديدًا في العام 2021. فأين يكمن الحدّ الفاصل بين الأخبار الكاذبة والحقائق في هذه القضيّة تحديدًا؟
يبدو أنّ النساء مثل حجر الـ “دومينو” المتحرّك، يُستخدم شرفهنّ ووجودهنّ في الحروب الطائفيّة والقبليّة في المنطقة، فتعيدنا هذه الأخبار، التي سرت كالنار في الهشيم، إلى مرحلة الخطر المحدق من “داعش”. فالخطر يحيط بنا، ومن سيحمي النساء من خطر التعرّض للاغتصاب؟ فهل هذا الخوف والتخويف حقيقة أم محض خيال وفانتازمات ذكورية؟
المسألة أبعد من شائعة أو خبر: هي إعادة إنتاج دائمة لفانتازمات ذكوريّة بدائيّة، تستحضر النساء كغنائم حرب.
الواقع يظهر القصص التي تعرّضت لها النساء الإيزيديّات في سوريا من قبل، وانتشار زواج المتعة، وجهاد النكاح وغيرها. وامتداد هذا الخوف إلى لبنان باعتبار أنّنا ننتمي إلى بقعة جغرافيّة واحدة. فهل الجغرافيا هي قدر النساء في حروب هذه المنطقة؟
نساء يختفين بإرادتهنّ
ماذا عن النساء اللواتي يختفين بإرادتهن؟ كمّ مرّة رغبت أمّهاتنا بأن “يِهجّوا” من البيت، من ثِقَل الأعمال المنزليّة فوق أكتافهنّ؟ ومن تعبٍ لا ينتهي؟ كم مرّة تمنّين غرفة صغيرة بعيدة يعشن فيها بسلام وسكينة، بلا مطالب يوميّة ولا انتقادات حول “الطبخة”، ولا صراخ بسبب قميص لم يُكْوَ جيّدًا؟
وماذا عن النساء اللواتي “يهشِلن” بفعل ضغوط كثيرة تتحوّل إلى اضطرابات نفسيّة، وتجعل من البيوت وسكّانها أشباحًا يطاردنهنّ ويخنقون أنفاسهنّ؟ أو فتيات صغيرات يهربن بحثًا عن الأمان، عن حضن يعوّض احتياجاتهنّ العاطفيّة؟
وماذا عن اللواتي يهربن مع أطفالهنّ قبل أن تُطاردهنّ المحاكم الدينيّة في لبنان وتجرّدهنذ من أمومتهنّ؟ أو اللواتي يخرجن “شَلف أو خطيفة” مع رجال يحببنهنّ، لأنّ لا يحق لهنّ اختيار الزوج الذي يرغبن به من دون وصاية أبوية؟
وماذا عن خوف النساء اليوم، والأخبار التي تُقيَّد حركتهنّ أكثر فأكثر؟
من يخطف النساء فعلًا؟