بين الكشك والمكدوس والصفيحة.. كيف راجت بعلبك وروّجَت معها لبنان؟
لطالما ارتبطت ثقافة الشّعوب والتراث القيّم بالإبداع في فن الطبخ والمأكولات، وقد أخذ المطبخ اللبناني حصّته من التّميّز عبر السنين بسمعته الطّيّبة وشهرته الواسعة لما يحمله من تنوّع وغنى وإبداع من بداية التحضير إلى جهوزية الطبق والمذاق الفريد. وكان لبعض الطّبخات اللّبنانيّة الّتي اشتهرت بها بعلبك على وجه الخصوص دورًا بارزًا في التّرويج للمطبخ اللّبناني في الخارج، كالكشك والمكدوس والصفيحة والشيش برك والسّفسوف وغيرها.
لا شكّ أنّ للمطابخ العالمية تأثير مباشر على شهرة المناطق ورواجها سياحياً وثقافياً، فكما اشتهرت العديد من دول العالم ومدنها بأطباق ومأكولات عبّرت عن ثقافة تلك الشعوب، اختصّت بعلبك محلياً بالعديد من المأكولات اللبنانية رغم التهميش الرسمي المزمن لغنى هذه المدينة وأهلها. وفي ظلّ غياب أي استثمار وطني في تلك المأكولات، استطاع أهل المنطقة تعبئة مكان هذا الفراغ، فأبدعوا وتميزوا وأتقنوا منفردين بالعديد من المأكولات المعروفة الّتي انتشرت حول العالم.
الكشك البعلبكي
على مرّ السنين كانت المونة البعلبكية الأشهر لبنانياً بطابعها الخاص والمميز، والسبب في ذلك طبيعة بعلبك الجغرافيّة الّتي تضمّ سهولًا واسعة وخصبة، ومياه عذبة لا تنضب. فُرزَت المونة البعلبكيّة لتحضير هذه المأكولات بداية بالمكدوس وصولاً إلى الكشك البعلبكي الذي ورثه أبناء بعلبك عن أجدادهم وحفظوه جيلاً بعد جيل. والكشك البعلبكي هو عبارة عن حليب أو لبن من ماشية بعلبك غير المغشوشة والتي تؤثر بشكل مباشر في طعمها، والبرغل المُستخرَج من سنابل قمح سهل بعلبك ما يميزه بالأصالة.
يبدأ موسم صناعة الكشك في بعلبك من منتصف شهر آب حتى نهاية أيلول، تجتمع النسوة ويبدأن بسلق القمح، ويتعازمن على فرك الكشك كما يتعازمن على الأعراس، بحيث يتمّ تجفيف خليط البرغل واللبن على الأسطح وفركه وطحنه حتى يتحول إلى مسحوق ناعم يتم تخزينه بعيدًا عن الهواء ليصمد أمام شتاء بعلبك القارس.
على مرّ السنين كانت المونة البعلبكية الأشهر لبنانياً بطابعها الخاص والمميز، والسبب في ذلك طبيعة بعلبك الجغرافيّة الّتي تضمّ سهولًا واسعة وخصبة، مع ما تضمه من مياه عذبة لا تنضب
أما عن تاريخ أكلة الكشك البعلبكيّة، يقول الأديب والشاعر المطرزي إن الكشك فارسي (إيراني) الأصل، وبعض المصادر تقول إن أصله عثماني وقد وصل إلى بلاد الشام منذ الحكم العثماني للمنطقة، ولكن كلمة “كَشْك” بفتح الكاف وتسكين الشين في القاموس العربي تعني منقوع الحبوب أو ماء الشعير، وهذا يفسِّر أن الكشك أصوله عربيّة ولربما أخذه سكان وسط آسيا من بلادنا إبان الاحتكاك العثماني بالمنطقة.
في مصادر أخرى يعود تاريخ الكشك للمصريين القدماء في زمن الفرعون “أحمس”. تضاربت الروايات واختلف الكثيرون حول تاريخ صناعة الكشك، ولكن المؤكد أنّ بعلبك وأهلها تميزوا وأبدعوا في صناعته منذ مئات السنين حتى اليوم. فظلّلت هذه الثقافة المطبخ البعلبكي بتراث قيّم، كان ينقصه الإلتفات الحكومي والاستثمار السياحي كتنظيم مهرجانات موسمية تراثية تروّج وتسوّق سياحياً لتراث المونة والمطبخ البعلبكي.
مكدوس الهرمل
من الكشك البعلبكيّ نتّجه شمالًا إلى الهرمل الّتي شاركت بعلبك في كلّ ما روّجته وروّجت به لبنان. والهرمل اشتهرت تاريخيّا بالمكدوس بعدما ورثته من قرى حمص السورية الّتي كانت أول من ابتكر وصنع المكدوس المكوّن من الباذنجان المنشّف والمكدّس فوق بعضه، ثمّ يُحشى بالجوز والفلفل الأحمر، ويُضاف إليه الزيت ويُخزَّن لأيّام، في فصل الشّتاء البارد.
من هنا كان المكدوس الأكلة الشعبية الأولى الّتي صنعتها وصدّرتها منطقة بعلبك-الهرمل إلى كلّ لبنان، إلّا أنّه بالرغم من هذه الأهمية لم تقم الدولة بواجبها الّذي يفرض على وزارتي الثقافة والسياحة تسليط الضوء على أهمية التراث المناطقي، ومنه مأكولات تلك المناطق بما تحمله من إمكانيات للتطوير، كما يعود بالنفع والفائدة إلى لبنان بمناطقه كافّة.
الصفيحة البعلبكيّة
من بيت المونة -المكوّن من وجبات “للترويقة” والعشاء- إلى مائدة الغداء كانت بعلبك ترسم إبداع مطبخها وتزينه بالصفيحة البعلبكية. ومن بين الثقافة والتراث اللبناني بأكمله برزت العديد من المأكولات اللبنانية التي ذاع صيتها وشهرتها كالتبولة والفتوش والصفيحة البعلبكية. كما أنّ الفراكة جنوبية و المفتقّة بيروتية، كانت الصفيحة “البعلبكية” بعلبكيّة أبًا عن جد.
لا يصح قول “صفيحة” بدون إتباعها بكلمة “بعلبكية”، وإلا فقدت رواجها وقيمتها الأصلية. فبين أزقة بعلبك القديمة وجدرانها الناطقة، نصل إلى سوق القصابين البعلبكي الّذي كان بداية بزوغ شمس الصفيحة البعلبكية. منذ مئة عام ونيف، خلال الحكم العثماني اشتهر أحد قصّابي بعلبك -وهو من آل حيدر- بطريقة تحضير الصفيحة، ويكون ذلك عبر طي رقائق أو صفائح العجين على شكل مربع صغير وحشوها باللحمة المفرومة المجهزة بخلطة بعلبك السرية، ثمّ يتمّ وضعها في الفرن إلى أن تصبح جاهزة.
منذ مئة عام ونيف، خلال الحكم العثماني اشتهر أحد قصّابي بعلبك -وهو من آل حيدر- بطريقة تحضير الصفيحة، ويكون ذلك عبر طي رقائق أو صفائح العجين على شكل مربع صغير وحشوها باللحمة المفرومة المجهزة بخلطة بعلبك السرية
من هنا بدأت حكاية الصفيحة الحيدرية البعلبكية وانتشرت في كل لبنان، بحيث تروّج اليوم كلّ المطاعم اللّبنانيّة للصفيحة البعلبكية لتضمن جذب الزوار والزبائن. وبحسب ما يردّد غالبيّة القصابين في سوق بعلبك، مهما حاول الطباخين والقصابين في لبنان وخارجه لن يستطيع أحد أن يأتي بمثل مذاق الصفيحة البعلبكية، بحيث يؤمن القصابون أنّ مياه بعلبك وهواءها يؤثران بشكل مباشر على الماشية في بعلبك، حيث تؤثر هي الأخرى في طعمها عند صناعة الصفيحة من لحوم مواشي المدينة. فأهل بعلبك يعتبرون أنّ الصفيحة البعلبكية مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بهويّة وحضارة المدينة.
سلطة الفتوش
وإذا كان للتبولة حكاية عز حيث فاز لبنان عالميًّا بأكبر صحن منها ودخل “موسوعة غينيس”، فإن للفتوش حكاية لا تقل أهمية من حكاية التبولة. الأكلة يعود أصل تسميتها إلى “آل فتوش” في زحلة البقاعية، حيث كانوا يستضيفون عائلات مسيحية نازحة من جبل لبنان إثر النزاع الدموي الذي حصل في العام 1860 بين الدروز والموارنة.
بحسب الرواية، كان الضيوف المسيحيّين في فترة الصوم لذلك اكتفوا بتناول سلطة الخضار بالخبز، عندها قال أحد الحضور لصاحب البيت وهو من آل فتوش: “فتوش، شوف ضيوفك عمياكلو السلطة بالخبز. هيدي أكلة جديدة!”. ومنذ ذلك الوقت التصقت كلمة “فتوش” بسلطة الخضار مع الخبز المجفف أو الخبز المحمص.
من طريق قرى جوار زحلة وصولاً إلى قرى بعلبك انتقلت سلطة الفتّوش إلى المسلمين، وأصبحت الطبق الرئيسي عندهم في شهر رمضان، لما تحتويه من خضروات مفيدة للصائم، وقد أكد تلك الرواية البطريرك غريغوريوس يوسف رئيس بطريركية أنطاكية والإسكندرية وأورشليم وسائر المشرق للروم الملكيين الكاثوليك.
المأكولات البعلبكية بما فيها من مونة وطعام وفواكه، يبقى لها ميزة خاصة سواء من حيث التحضير، أو من حيث المذاق. وإذا بحثنا في الأسباب، فيعود ذلك للأرض وطبيعتها، وللبيئة وخصوصيتها، وللناس ولمستها. لكن كل ذلك يبقى يندرج ضمن خانة عدم الاستثمار الوطني، ولو تحقق ذلك لكانت بعلبك وإرثها الثقافي بما تضمه من مأكولات، جواز سفر للبنان يعبر به نحو عوالم بعيدة، يطل بواحد من أجمل وجوهه على الإطلاق.