بين باريس والهرمل..كيف صاغ سعدون حمادة سرديّة موازية للبنان؟

في مطلع أيلول/سبتمبر من العام 2025 غادر الباحث والمؤرخ اللبناني سعدون تنال حمادة عالمنا عن عمر ناهز 82 عاماً بعد صراعٍ مع عدوّين قاهرين تحالفا ليضعا نقطةً في نهاية الفصل الأخير من حياته الحافلة، هما مرض القلب واللوكيميا.

82 عاماً قضاها ابن مدينة الهرمل بين مسقط رأسه جارة العاصي وبيروت العاصمة وباريس، هناك حصل على شهادة الدكتوراه في التاريخ من جامعة السوربون، قبلها كان قد حصل على إجازة في الحقوق من الجامعة اللبنانية وانتقل إلى فرنسا ليكمل اختصاصه، أحدُ أساتذته في السوربون كان المستشرق الفرنسي كلود كاهين (1909-1991) من أبرز منتقدي الخطاب الاستشراقي الكلاسيكي.

قدّم حمادة لأستاذه الفرنسيّ أطروحة (thèse) حول تاريخ الشيعة في لبنان، ومن هنا بدأت القصّة، حيث اكتشف بعد فترة قصيرة أنه “أجرم بحق لبنان” حسب تعبيره، لاعتماده على المراجع التقليدية في أطروحته، حيث إن هذه المراجع لم تكن دقيقةً بما يكفي، كانت ناقصةً ومشتملةً على كثير من المغالطات والانحيازات والتحوير العارض أو المتعمّد للتاريخ.

طروحاتٌ أحدثت هزّةً

مدفوعاً بشعوره بمسؤوليّة ثقافيّة وجارياً وراء رغبته بتصحيح الخطأ، بدأ حمادة رحلةً طويلةً من البحث والتنقيب في ثلاثة مصادر أساسية هي أرشيف الدولة العثمانية من دفاتر نفوس و”طابو” وفرمانات رسمية، أرشيف الكنائس والأديرة في لبنان وتقارير القناصل والمبعوثين الأوروبيين الذين عملوا في المنطقة.

تمكّن سليل الأسرة الحمّاديّة من جمع 845 وثيقة اعتمد عليها بشكلٍ أساسيٍّ لإنجاز عمله الأهم والأضخم “تاريخ الشيعة في لبنان”

على مدى ما يزيد عن 10 سنوات قضاها متنقّلاً بين السّجلّات في لبنان وسوريا وتركيا وأوروبا، تمكّن سليل الأسرة الحمّاديّة من جمع 845 وثيقة اعتمد عليها بشكلٍ أساسيٍّ لإنجاز عمله الأهم والأضخم “تاريخ الشيعة في لبنان”، الصادر عن دار الخيال عام 2008 في مجلّدين: “الحكم الشيعي في لبنان” و “تهجير الشيعة من جبل لبنان”، ثمَّ ألحقه بكتابٍ ثانٍ هو “الثورة الشيعيّة في لبنان ( 1685-1710)” الصادر عن دار النهار عام 2012.

أحدثت طروحات حمادة هزّةً في أوساطِ المهتمين بتاريخ المنطقة، كانت تقول ببساطة إن ما نحسبه تاريخ لبنان في الفترة العثمانية كذبة، أو “حقيقةٌ مجتزأة” في أحسن الأحوال، فهو -حسب حمادة- تاريخ جبل الشّوف الذي يشكّل 8 بالمئة من مساحة لبنان الفعليّة، وسكّانه كانوا أقل من 15 بالمئة من الكتلة السكّانيّة الموزّعة على مساحة لبنان في ذلك الوقت.

سرديّة موازية لتاريخ لبنان

بالمقابل تتبّع حمادة تاريخ الشيعة كطائفةٍ فاعلة في تاريخ المنطقة، منذ أواخر العصر المملوكي وعلى امتداد العصر العثماني، فرصد أماكن انتشارها وموقعها في التركيبة السكّانيّة وعلاقتها الملتبسة بالسّلطة وتفاعلها مع الملل الأخرى، سيّما الموارنة والدروز، مثبتاً أنَّ إماراتٍ شيعيّة شبه مستقلّة (كالحرافشة والحمّاديّين) حكمت لفتراتٍ طويلة مناطق جبل عامل وجبل لبنان وبلاد بعلبك والبقاع، فيما اقتصر حكم المعنيين والشهابيين على جبل الشوف، هذا قبل حملات التهجير المنظّمة التي أفقدت الطائفة مكتسباتها ومسحت تاريخها.

المؤرّخ سعدون حمادة

بالطبع لم تكن طروحات حمادة مجرّد ادعاءات مثيرة للجدل، فقد اعتمد منهجاً أكاديميّاً رصيناً في بحثه، مثبتاً مراجعه ومصادره في نهاية الكتاب، كاشفاً من خلال تعاونه مع البطريركيّة المارونيّة أيام البطريرك مار نصرالله بطرس صفير عن وثائق ظلّت مخفيّةً لمئات السنين، ما منح كتابه قيمةً معرفيّةً معتبرة، وجعله مرجعاً معتمداً في دراسات غربيّة من جامعات كأكسفورد وكامبريدج، نذكر منها دراسة المستشرق الكندي-الألماني ستيفان وينتر بعنوان “the Shiites of Lebanon under Ottoman rule 1516-1788” التي اعتمد فيها كتاب سعدون حمادة كواحد من مصادره.

لذا يمكن القول إن جهد المؤرخ اللبناني وإن كان لم يؤثّر بشكل مباشر على السّرديّة الرسميّة لتاريخ لبنان، فقد أنشأ ما يمكن اعتباره سرديّة موازية معاكسة أحياناً وأكثر جديّة، تضرب الملفَّق وتكمل الصورة الناقصة من باب إبراز دور الطائفة الشيعيّة كمكوّن فاعلٍ سياسيّاً واقتصاديّاً وديموغرافيّاً.

أوسمة وتكريمات وحضور دبلوماسي

وإن كان بعض منتقديه يرون إنه استخدم لغةً جدليّة/تصحيحيّة وركّز على البعد المذهبيّ ما أضعف الحياد الأكاديميّ المفترض -حسب قولهم- لصالح خطابٍ هويّاتيّ موجّه، فقد كان حمادة دائماً ما يؤكّد إنّه نقل ما وجد بأمانة ودون تحيّزات، وما كانت طروحاته لتختلف من حيث المبدأ لو كان التهميش التاريخيّ طال طائفةً أخرى غير الطائفة الشيعيّة.

عموماً فإن هذا الجهد الحثيث المفضي لتأثير ثقافي، أهّل سعدون حمادة للتكريم بمنحه وسام جوقة الشرف الفرنسيّ (L’egion d’honneur) برتبة فارس، وهي الرتبة الأولى من الرتب الخمس لأعلى وسامٍ وطنيٍّ في فرنسا، وقد قلّده إياه في كانون الأول/ديسمبر من عام 2013 السفير الفرنسي الأسبق لدى لبنان باتريس باولي باسم رئيس الجمهورية الفرنسية آنذاك فرنسوا هولاند في حفلٍ أقيم في قصر الصنوبر ببيروت، كما قلّده الرئيس الإيراني الأسبق حسن روحاني وسام الجائزة العالمية للكتاب عن كتابه “تاريخ الشيعة في لبنان” في حفل رسميّ أقيم في قصر المؤتمرات بطهران عام 2015.

السفير الفرنسي باتريس باولي يمنح المؤرّخ سعدون حمادة وسام (L’egion d’honneur) برتبة فارس

بعيداً عن التأريخ شغل حمادة منصب أمين عام مجلس النوّاب لفترة طويلة، وعُرف بعلاقاته الدبلوماسيّة في الداخل والخارج، يذكر مقرّبون من العائلة أن صداقة متينة كانت تربطه بالسفير الفرنسي باتريس باولي وإنَّهُ -أي باولي- زارهُ في الهرمل، كما كان على اتصال بالرئيس الفرنسي الراحل جاك شيراك منذ كان عمدةً لباريس. تجدر الإشارة هنا إلى أن حمادة المتحدّث اللَّبق سليلُ بيتٍ سياسيّ عريق، فوالده “تنال” هو شقيق رئيس مجلس النواب اللبناني الراحل صبري حمادة.

العودة الأخيرة إلى الهرمل

أقام سعدون حمادة في بيروت مع زوجته وابنه وابنتيه، ولكنه بقي يتردد على العواصم الأوروبيّة، وأشار عارفوه إلى توقّد ذهنه وحضور ذاكرته واتّساع ثقافته، ونزعته العلمانيّة التي استبطنت نقداً قاسياً للأيديولوجيا الدينيّة والتعصّب المذهبيّ.

في حواره الأخير -وحواراته نادرة- بدا المؤرّخ الوسيم محتفظاً بحضوره ونظرته وأسلوبه الاستطراديّ وتعليقاته الساخرة ولهجته المحبّبة، أعاد طرح إشكالياته بصورةٍ أهدأ، بدا واثقاً ومتسامحاً، كأنّه أدّى ما عليه وأصبح جاهزاً للرّحيل، حين سألته المحاوِرة حياة الرَّهاوي عن إمكانيّة دخول كتابه في “الرواية الرسميّة” أجاب بخفّة: يصطفل!

عاكس سعدون حمادة خط الطيور المهاجرة كما عاكس الرواية الرّسميّة، عاد مع أيلول إلى مثواه الأخير في حديقة منزله بالهرمل، هناك حيث البداية والنهاية، بينهما يجري العاصي حاجباً بهديره صخب أرضٍ مزدحمةٍ بالهويّات، سائرةٍ دوماً على حافّة الهاوية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

زر الذهاب إلى الأعلى