بين رأس بعلبك وسيّدتها العجائبيّة.. رفقة درب وعشرة عمر
“وصّيتي هي: أحبّوا بعضكم بعضًا كما أحببتكم. ليس لأحد حبّ أعظم من أن يبذل نفسه في سبيل أحبابه، فإن عملتم بما أوصيكم كنتم أحبابي”. بهذه الكلمات من الإنجيل المقدّس- إنجيل يوحنا، يدخل الزوّار رحاب دير سيّدة رأس بعلبك العجائبيّة المهاب، منجذبين لرهبة التاريخ بين أيقوناته وحجارته وأجراسه.
في قلب السلسلة الشرقيّة لجبال لبنان على بعد 45 كيلومتراً شرقيّ مدينة بعلبك، يرافق دير السيّدة العجائبيّة المقدّس بلدة رأس بعلبك الهادئة في مشوار أبديّ. حيث تُقام يوميًّا الصلوات والنذور ويشتعل الشمع والبخّور ليعبق المكان بعطر القداسة. أمام الدّير نصب تحمله ثلاثة عواميد حجريّة مزيّنة بالصّلبان، في الوسط تقف السّيدة مريم العذراء حاملة طفلها بيديها، وتنظر إلى المدينة من أعلى وكأنها تحرسها.
رفقة درب طويلة
في رحلة البحث عن تاريخ دير سيّدة رأس بعلبك التقت “مناطق نت” المؤرّخ سمير شعبان، المعروف بين أهل بلدته بلقب “التاريخ”، والذي أشار إلى أنّ “بين بلدة رأس بعلبك ودير السيّدة رفقة درب طويلة، بل عشرة عمر، فلا ذكر لأحدهما من دون الآخر. بينهما تتجلّى قصّة الإيمان وعلاقة الإنسان بالله بأبهى صورها، على الرغم من وجود ستّ كنائس أخرى في البلدة، مثل كنيسة القدّيس اليان وكنيسة القدّيسين بولس وبطرس وكنيسة القّديس مار توما وغيرها.. إلّا أنّ ما يزيد على نســبة 90 % من الزيجات والجنائز والعمادات تتمّ في كنيسة دير السيّدة العجائبيّة”.
يُعتبر دير السيّدة أحد أقدم أديرة لبنان المرتبط بالوجود المسيحيّ المشرقيّ، الذي يعود إلى القرن الرابع الميلاديّ تقريبًا، حيث تمّ بناؤه على أنقاض معبد رومانيّ كما تُظهر تلك الحجارة الضخمة التي بني بها سُور الدير. كما أنّه في خلال الحفر لبناء كنيسة الدير الجديدة في العام 1943 تمّ العثور على مسكوكات برونزيّة يعود تاريخ بعضها إلى القرن الميلاديّ الثاني، في عهد الأباطرة الرومان بين عامي 96 و 192 ميلاديّ، كما يشير شعبان.
يتابع شعبان: “في العام 1923 زار الكاهن اليسوعيّ الأب غودا”رأس بعلبك، وقال في حينه كلمته الشهيرة باللغة الفرنسية “رأس بعلبك أرض الأسُود”. وذلك لارتباطها تاريخيًّا بمدينة بعلبك وهيكلها، ولأنّها كانت تُعدّ رأس الحربة في مواجهة الخطر القادم على سهل البقاع من جهة الشمال. هذا الترابط لا يزال مستمرًّا حتّى اليوم، حيث الدير بيد الرهبانيّة الباسيليّة الحلبيّة ويتبع مطرانيّة بعلبك- الهرمل للروم الملكيّين الكاثوليك برئاسة سيادة المطران إدوار جاورجيوس ضاهر”.
يُعتر دير السيّدة أحد أقدم أديرة لبنان المرتبط بالوجود المسيحيّ المشرقيّ، الذي يعود إلى القرن الرابع الميلاديّ تقريبًا، حيث تمّ بناؤه على أنقاض معبد رومانيّ كما تُظهر تلك الحجارة الضخمة التي بني بها سُور الدير
يمتلك الدّير مساحات كبيرة من أراضي البلدة التي تبلغ مساحتها 170 كيلومتراً مربّعاً، ويعود ذلك إلى عهد السلطنة العثمانيّة كما يشير شعبان، “حيث لم يكن أبناء البلدة يشاركون في الجيش العثمانيّ، بل يدفعون الضريبة بدل الخدمة العسكريّة، ومن لا يدفع يصادرون أرضه. فلجأ الكثيرون منهم لوهب أراضيهم للدير لحمايتها من المصادرة، مقابل إرسال أبنائهم للتعلّم في حلب وسواها من المدن. ومنهم من درس اللاهوت وأصبحوا رهبانًا وقسّيسين، أمثال يعقوب اليان 1730-1785 وموسى عربش 1735-1786 ووهبة حموي 1762-1819 وغيرهم”.
ويختم شعبان: “قداسة دير السيّدة مريم العذراء ليست حكرًا على المسيحيّين فحسب، بل على جيراننا المسلمين أيضًا الذين يقول قرآنهم “وإذ قالت الملائكة يا مريم إنّ الله اصطفاك وطهّرك واصطفاك على نساء العالمين”، ولا زلت أذكر الكثير من حالات قسم اليمين لفضّ نزاعات بينهم على أراضٍ أو ماشية، كانت تجري في كنيسة الدير أمام تمثال السيّدة مريم”.
الشبيبة والسيّدة
في حديث لـ”مناطق نت” يقول الخوري ابراهيم نعمو، وهو كاهن رعية رأس بعلبك: “إنّنا في رحاب كنيسة السيّدة نتعلّم المحبة كفعل إنساني يوميّ في التعامل”. ويتابع: “المحبّة هي ثمرة ونتيجة حتميّة للعلاقة التي تربطنا بالله، وغيابها يعني غياب الإيمان المسيحيّ وغياب الله من حياتنا. على الدرب ذاتها نسير مع الأبناء والأحفاد ليكبروا على ثقافة المحبّة والتواصل الإيجابيّ وتقبّل الآخر المختلف، ولذلك تمّ تأسيس فوج شبيبة “فرسان العدرا” التابع للدير”.
يظهر الدور الشبابيّ الرياديّ لشبيبة “فرسان العدرا” في المناسبات الدينيّة والوطنيّة والكشفيّة والرياضيّة التي تجري في البلدة. يسعى فوج شبيبة دير السيّدة إلى توجيه الجهود نحو تحقيق أهداف إنسانيّة، كالعمل بجدّ لجعل الكنيسة أكثر تفاعلاً ومشاركة من خلال تنظيم الفعاليّات والأنشطة التي تعزّز الروحانيّة والوحدة بين أعضائها. كما يركّزون على هدف تعزيز الإيمان والعلاقة مع الله والمجتمع ودعم المحتاجين.
وعند سؤالنا القائدة في فوج الشبيبة ماري بيل دروبي عن أهداف الشبيبة، وسبب انتسابها إلى الفوج تقول: “انضممت إلى شبيبة دير سيّدة رأس بعلبك العجائبيّة بسبب إيماني القويّ ورغبتي في تقديم الخدمة للكنيسة والمجتمع، فكما قال البابا فرنسيس “الشّبيبة هي روح الكنيسة”. هذه الفرصة أتاحت لي المشاركة في تعزيز القيم والتواصل مع الشّباب الذين يشاركونني الروح الخدمية نفسها”.
من خلال الشبيبة تعمل الدروبي على تطوير مهاراتها الشخصيّة والإجتماعيّة، كما تسعى إلى بناء علاقات إيجابيّة في داخل الجماعة، لتحقيق أهداف الشبيبة ودعم مبادراتها المستقبليّة. تختم الدروبي: “نسعى أيضًا إلى تطوير مهارات الشباب وإمكاناتهم كنسيًّا وحثّهم على المشاركة في الأنشطة الروحيّة والإجتماعيّة، وخلق روح القيادة والمسؤوليّة عندهم”.
يحتلّ دير السّيدة العجائبية مكانة راسخة في نفوس أهل البلدة صغارًا وكبارًا. فهي بالنسبة لهم العين التي تنظر إلى المنطقة وتحرسها وبالتالي ترافقهم في شتّى مراحل حياتهم لتتبعهم بالأمن والأمان والسّكينة. في هذا الصدد تشير إبنة راس بعلبك ومديرة المدرسة الرسمية في البلدة السيدة نزيهة مراد أنّها مثل كل أبناء البلدة والمؤمنين في الجوار، تؤمن بقداسة وقدرة السيدة مريم العجائبية، وتحس بالأمن والأمان في رحاب كنيستها. وتختم: “لقد اعندنا منذ الصغر أنها هي الملجأ لنا في الأفراح والأحزان، وعند الخطر نستغيث بها ولا نملّ الصلاة في ديرها. ودائما ما يخبرنا الكبار والعجائز ويؤكدون لنا قدرتها العجائبية في الشفاء والحماية”.