بين قصر بعبدا و”بيت الشعب”.. حكاية بيت الجمهورية الأوّل

لم يكن يعلم السيّد حنّا حنينة أنّ القصر الذي سيشيّده في العام 1870 على مساحة 3200 متر مربّع في منطقة القنطاري في بيروت، سيتحوّل في يوم من الأيّام إلى قصر رئاسيّ وبيت الجمهوريّة الأوّل. لكنّ قدر ذلك القصر سيكون كذلك، إذ في العام 1929 آلت ملكيّته إلى درويش يوسف الحدّاد، ثم انتقل البيت بالوراثة إلى ابنته الوحيدة رينيه زوجة الشيخ فؤاد خليل الخوري شقيق الرئيس الشيخ بشارة الخوري الذي استأجر الطبقة الأولى منه لسكن عائلته العام 1936.

بعد الاستقلال، لم تكن الجمهوريّة الوليدة تملك ترف الوقت لبناء مقرّ رئاسيّ خاص بها، فبادرت إلى استئجار كامل المنزل وأصبح مقرًّا لرئاسة الجمهوريّة طوال ولايتي الرئيسين بشارة الخوري وكميل شمعون إذ انتهت ولاية الأخير في العام 1958. لكن في عهده اشترت الدولة ما يقارب الـ 50 ألف متر مربّع من الأرض على تلّة في منطقة بعبدا لتكون مكانًا لبناء القصر الجمهوريّ، وهذا ما حصل، إذ قامت الشركة السويسريّة “Edor et Juliar” بتشييده بعدما فازت بالمناقصة في أيّام الرئيس الراحل كميل شمعون الذي وضع حجر الأساس لبنائه في العام 1956، غير أنّ عمليّة البناء لم تنتهِ إلّا مع بداية السنة الأخيرة للرئيس الراحل شارل حلو (1964- 1970)، بعد أن توقّف تشييده في عهد الرئيس الراحل فؤاد شهاب (1958- 1964).

القصر الرئاسي اللبناني في محلّة القنطاري سنة 1958
الهراوي وترميم القصر

توالت الأحداث والتطوّرات السياسيّة والأمنيّة على لبنان، ليُنتخب الرئيس الياس الهراوي، في 25 تشرين الثاني (نوفمبر) 1989، رئيسًا للجمهوريّة، لكنّه لم يتمكّن من الإقامة في قصر بعبدا بسبب الدمار الذي لحق به على أثر العمليّة العسكريّة التي أطاحت بالعماد ميشال عون في 13 تشرين الأوّل (أكتوبر) 1990، فقرّر الإقامة أوّلًا في ثكنة عسكريّة في أبلح في البقاع، ثمّ في مقرّ رئاسيّ موقّت في محلّة الرملة البيضاء في بيروت.

استمرّت إقامة الهراوي في المقرّ الموقّت هذا نحو ثلاث سنوات ريثما تتمّ إعادة ترميم قصر بعبدا وإضافة بعض الأقسام عليه، وأوكل إلى المهندس ايلي غرزوزي مهمّة الإشراف على الهندسة الداخليّة للقصر مع لمسات للسيّدة الأولى منى الهراوي التي أشرفت على الأعمال، أمّا من الخارج فقد أضيفت مساحات خضراء واستُعين بـ “إكزوتيكا” في عمليّة التشجير.

لحّود لم يسكن القصر

انتهى عهد الهراوي، ليصل الرئيس العماد إميل لحّود إلى القصر الذي شغله مدّة تسع سنوات، ولم يطرأ كثيرًا من التغييرات الهندسيّة عليه، فلحّود الذي انتقل من المؤسّسة العسكريّة إلى سدّة الرئاسة لم يكن مهتمًّا بالقصر من الناحية الهندسيّة بقدر اهتمامه بالترتيبات الإداريّة.

انتهى عهد الهراوي، ليصل الرئيس العماد إميل لحّود إلى القصر الذي شغله مدّة تسع سنوات، ولم يطرأ كثيرًا من التغييرات الهندسيّة عليه، فلحّود الذي انتقل من المؤسّسة العسكريّة إلى سدّة الرئاسة لم يكن مهتمًّا بالقصر من الناحية الهندسيّة

ومن المعلوم أن القصر ينقسم إلى قسمين، القسم السفليّ الخاص بالشؤون الرئاسيّة والإداريّة، والقسم العلويّ حيث يقع المنزل الرئاسيّ، إلّا أنّ الرئيس لحّود نادرًا ما كان يستخدم القسم العلويّ، إذ كان يواظب على الانتقال يوميًّا ما بين القصر ومنزله الخاص في الأشرفيّة أو في النادي العسكريّ في المنارة.

سليمان والتغييرات الكبيرة

بعد انتهاء ولاية لحّود المُمدّدة، دخل القصر في حال من الشغور استمرت نحو ستّة أشهر، ليُصار بعدها إلى انتخاب الرئيس ميشال سليمان الذي قرّر إطلاق ورشة من التغييرات والتعديلات على القصر بإدارة ابن بلدته عمشيت المهندس أنطوان لحّود .

يشرح لحّود، في حديث مع “مناطق نت”، أبرز التغييرات التي طرأت على القصر في تلك المرحلة، ويُشير إلى أنّ “الصالات الكبيرة مثل صالة تشرين وصالة السفراء لم يطرأ عليهما تغيير كبير واقتصرت التعديلات على الأثاث، في حين أنّ التعديلات الكبيرة شملت مكاتب الإدارة، واستُحدثت قاعة للصحافيّين”.

ويلفت لحود إلى أنّه “جرى استحداث بوّابة القصر الرئيسة بعدما كانت أشبه بحاجز للجيش، وأمام البوّابة كان هناك ممرّ طويل يصل إلى الحديقة وتحوطه أشجار “الفيكس” التي لا تحمل أيّ قيمة وطنيّة كأشجار الأرز والزيتون، فقمنا بإزالة هذه الأشجار عن الجهة اليُسرى ممّا سمح بإظهار حدائق القصر ذات المساحة الكبيرة”. وأضاف “أحضر الرئيس سليمان أشجار زيتون مُعمّرة عبر علاقاته الخاصّة، غالبيّتها من بلدات جنوبيّة حدوديّة، لزراعتها في الحديقة، كذلك نقل إحدى منحوتات النحّات ميشال بصبوص من الفناء الخلفيّ إلى المدخل الخارجّي للقصر”.

حدائق وكنيسة

لم تقف التعديلات عند هذا الحدّ، فقد كان سليمان وزوجته وفاء يحبّان المساحات الخضراء، لذا تمّ تحويل مساحة مُعينة في الطابق العلويّ إلى حديقة مُطلّة على المنزل الرئاسيّ، وكثيرًا ما تظهر هذه الحديقة في الصور الجوّيّة للقصر الجمهوريّ. ويُشير لحّود إلى أنّ “زيارة البابا بنديكتوس كان لها طابع خاصّ، إذ تمّ بناء كنيسة صغيرة، حملت اسم كنيسة مار شربل، من الزجاج الشفّاف في الحديقة، وزرعنا حولها أشجار الأرز، ووضعنا فيها صور جميع قدّيسي لبنان، كذلك جهّزنا للبابا كرسيًّا خاصًّا لا يزال موجودًا لغاية اليوم في القصر”.

ويوجد في القصر الجمهوري غرفة لاجتماعات مجلس الوزراء تشبه بتفاصيلها الهندسيّة غرف السرايا الحكوميّة، إلّا أنّ مدخلها البالغ طوله نحو 50 مترًا “لم يكن على المستوى المطلوب، فتمّت إضافة تفاصيل هندسيّة كي تليق بهذه الغرفة”، وفقًا للحود.

لم تقف التغييرات والإصلاحات عند حدود القصر بل طالت كذلك “المركز التابع لرئاسة الجمهوريّة والمُخصّص لاستقبال زوّار الرئيس من ملوك ورؤساء دول ووزاء أجانب”، ويلفت لحّود إلى أنّ “سبب هذه التغييرات الزيارة التاريخية للملك السعوديّ عبدالله بن عبدالعزيز والتي اصطحب فيها بشّار الأسد إلى القصر الجمهوريّ. وكانا أوّل ملك ورئيس يزوران هذا القصر بشكله الجديد”.

لم تقف التعديلات عند هذا الحدّ، فقد كان سليمان وزوجته وفاء يحبّان المساحات الخضراء، لذا تمّ تحويل مساحة مُعينة في الطابق العلويّ إلى حديقة مُطلّة على المنزل الرئاسيّ

وشهد عهد سليمان خطوة فريدة تمثّلت بوضع “كود” على كلّ قطعة في القصر من دون استثناء، ويُظهر هذا  “الكود” نوعيّة القطعة وقيمتها ومختلف التفاصيل عنها، من أجل تكوين أرشيف بممتلكات القصر.

عون و”بيت الشعب”

بعد انتهاء ولاية سليمان، افتقد القصر مجدّدًا لرئيسه ودخلت البلاد في حال شغور وفراغ أكثر من سنتين ونصف السنة، وصل بعدها الرئيس ميشال عون الذي سارع إلى تغيير اسم القصر حتّى قبل وصوله،  بحيث رُفعت عند مدخله لافتة كبيرة كُتب عليها “بيت الشعب”.

وفي فترة أعياد الميلاد ورأس السنة في السنة الأولى من عهده شهد القصر احتراق بهو الطبقة الأولى بسبب صاعقة ضربت شجرة الميلاد، وقد استدعى الضرر الذي أحدثه الحريق تغيير كلّ البلاط. واستبدل عون مكتبه في القصر الذي كان يطغى عليه الديكور الخشبيّ النبيذيّ والبنّيّ بمكتب ذي لون رماديّ مع “ستانليس ستيل” ليصبح عصريًّا أكثر.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى