بين نار الحرب وعبء الغربة رحلة اللبنانيّين إلى بلدانهم الثانية

الترقّب هي الكلمة التي تعبّر عن حال المئات من اللبنانيّين الذين يملكون جواز سفر ثان وغادروا وطنهم بشكل اضطراريّ بسبب ظروف فرضتها الحرب، حملوا ذكرياتهم وأحلامهم وبعض الأمتعة الضروريّة، وتوجّهوا نحو دول يحملون جنسيّتها، لكن ما يبدو كحلٍّ موقّت أصبح رحلة شاقّة، مليئة بالتحدّيات الإنسانيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة.

“كلّ شيء حدث بسرعة” تشرح سامية من بلدة يحمر الشقيف التي انتقلت إلى تركيّا بعد تعرّض بيتها إلى قصف مدفعيّ في شهر أيلول (سبتمبر) الماضي. تقول لـ “مناطق نت”: “خفت أن يقصفوا المطار، بعد التهديدات المستمرّة، سافرت مع أولادي إلى اسطنبول حيث استأجرنا بيتًا ريثما نعرف ماذا سيجري مستقبلّا”.

لا تستطيع سامية تّخاذ الخطوة الأصعب وهي العودة إلى استراليا التي انقطعت عنها منذ سنوات طويلة، تتابع: “لا نعرف إذا انتهت الحرب فعليًّا، نحن الآن في هدنة، العودة إلى لبنان مكلفة مادّيًّا، ولذلك سننتظر حتّى تنجلي الأمور، لا أريد أن أعود إلى أستراليا وأبدأ من جديد، حياتي في لبنان كانت تسير على ما يرام”.

أمل بالعودة

تحمل رشا شرارة الجنسيّة الأميركيّة، كانت تعيش حياة مستقرّة في ضاحية بيروت الجنوبيّة، تُعلِّم اللغة الإنجليزيّة في مدرسة خاصّة. لكنّ الحرب قلبت حياتها رأسًا على عقب، لتجد نفسها مضطرّة إلى حزم أمتعتها مع عائلتها والانتقال إلى برلين (ألمانيا)، حيث فتح لهم خالها بيته.

اللبنانيون في بلاد العالم.. الجسد في الغربة والقلب في لبنان

تتحسّر رشا على ما يحصل في لبنان، تقول لـ “مناطق نت”: “غادرنا على أمل العودة خلال أسابيع، لكنّ الأوضاع تزداد تعقيدًا كلّ يوم. الخيارات أمامنا محدودة؛ الانتقال إلى الولايات المتّحدة معقّد بسبب الإجراءات القانونيّة، أمّا البقاء هنا في برلين فليس سهلًا، مع حاجز اللغة وكلف العيش المرتفعة”. تتابع “وعلى الرغم من أنّني أواصل عملي في التعليم عن بُعد، إلّا أنّ الراتب بالكاد يغطّي احتياجاتنا، خصوصًا مع توقّف أعمال اخوتي الذين تأثّرت مصادر رزقهم في الحرب”.

تتمنّى رشا العودة سريعًا إلى بيروت، إلاّ أنّ الضغط على تذاكر السفر والأسعار المرتفعة جدًا، تدفعها إلى الانتظار إلى ما بعد السنة الجديدة.

إرباك وترقّب

من بين الذي دفعتهم الحرب إلى المغادرة ماريّا، وهي طبيبة نسائيّة عادت إلى لبنان منذ خمس سنوات، وقرّرت أن تضع أطفالها في مدرسة إسلاميّة، هي اليوم تقطن في إحدى ضواحي اسطنبول على أمل أن تعود قريبًا إلى لبنان، خصوصًا أنّ المدرسة ستعود للتدريس الحضوريّ، تقول لـ “مناطق نت”: “نحن أمام معضلة كبيرة، هل يجب أن نعود إلى ألمانيا لأنّ الوضع غير مستقر في لبنان؟ أم نبقى في تركيّا ريثما تنتهي مهلة الستّين يومًا من وقف اطلاق النار؟”.

تعبّر ماريا عن حيرتها وقلقها “قد أعود إلى ألمانيا ولكن من الصعب الحصول على منزل واستئناف العمل في أحد المستشفيات”، تضيف “عاصفة من الأفكار تسيطر على دماغي ولا يريحني من عبئها إلاّ بعض المسكّنات”. كلمات تحمل بين طيّاتها ألم التهجير وثقل الغربة، لكنّها تعكس أيضًا صمودًا ورغبةً في تجاوز هذه المحنة، مهما كانت التحدّيات.

رشا: غادرنا على أمل العودة خلال أسابيع، لكنّ الأوضاع تزداد تعقيدًا كلّ يوم. الخيارات أمامنا محدودة؛ الانتقال إلى الولايات المتّحدة معقّد بسبب الإجراءات القانونيّة

الغربة.. رحلة جديدة

مع تصاعد وتيرة القصف ووصوله إلى بيروت بدأت بعض السفارات الأجنبيّة بإجلاء رعاياها، الذين وجدوا أنفسهم أمام مفترق طرق. إمّا البقاء في وطنهم وسط أعباء النزوح وكلفه المرتفعة، أو الرحيل إلى بلدان يحملون جنسيّتها، ولكنّهم غابوا عنها طويلًا ولم تعد تشبههم.

بالنسبة إلى علي حمدان، الذي أجلته السفارة الهولنديّة مع عائلته بعد 15 عامًا من الاستقرار في لبنان، فإن تأمين السكن هو التحدّي الأوّل بالنسبة له. يقول لـ “مناطق نت”: “نعيش الآن في شقّة موقّتة وفّرتها لنا الحكومة مجّانًا، مع كثير من الدعم الماليّ والخدمات الأساسيّة. لكن على رغم ذلك، لا أشعر بالراحة. في لبنان، كنت أعيش حياة غنيّة بالعلاقات الاجتماعيّة مع الأهل والأصدقاء، وهي السبب الأساس الذي أبقاني كلّ هذه السنوات على رغم كلّ الصعوبات التي واجهناها. اليوم وعلى الرغم من الهدنة لا نستطيع العودة إلى لبنان على مسؤوليتنا.”

الشعور بالغربة لدى علي، يتضاعف عند لين، الطالبة في السنة الثالثة إدارة الأعمال والتي عادت إلى سويسرا مع أسرتها بعد عشر سنوات من العيش في لبنان. على رغم أنّ والدها يملك منزلًا صغيرًا هناك، تقول لـ “مناطق نت”: “أعيش حياة مستقرّة هنا لكنّ العلاقات الاجتماعيّة مفقودة، عندما أعلن عن قرار وقف إطلاق النار، قرّرت العودة إلى لبنان، اشتريت تذكرة سفر لكنّني مضطرّة إلى التوقّف في أكثر من محطّة وسأحتاج إلى يوم ونصف يوم كي أصل إلى بلدي، لكنّ هذا التعب هيّن أمام رؤية أقاربي وأصحابي”.

الأطفال الأكثر تضرّرًا

في خضمّ هذه الحرب، يبقى الأطفال الفئة الأكثر تأثّرًا، بالنسبة إلى عديد منهم يشكّل هذا الانتقال المفاجئ صدمة نفسيّة. فاتن لجأت إلى أستراليا مع أطفالها تقول لـ “مناطق نت”: “أخي الذي يمتلك مطعمًا شرقيًّا في سيدني، يقدّم لنا كلّ الدعم الممكن. لكنّ عبء تدريس الأطفال عن بُعد، والأسئلة التي لا تنتهي عن أصدقائهم وعن بيتهم الذي أصبح مجرّد ذكرى، وعن والدهم الذي اختار البقاء في لبنان لرعاية أهله، يجعل الوضع مرهقًا جدًّا.”

الأطفال المغتربين هم الفئة الأكثر تأثّرًا نتيجة الانتقال المفاجئ والصدمات النفسية

تعكس كلمات فاتن مأساة العائلات التي تجد نفسها أمام واقع لا يرحم، حيث يصبح الحفاظ على استقرار الأطفال النفسيّ معركة يوميّة تُخاض بحبّ وقلق، في ظلّ غياب أيّ يقين حول المستقبل.

من العوائق الكبرى التي تواجه اللبنانيّين العائدين إلى دول المهجر، صعوبة الإجراءات القانونيّة لإعادة تفعيل السجلّات في دوائر النفوس لدى البلديّة. خالد فحص، غادر إلى البرازيل مع عائلته، لا يبذل جهدًا لمتابعة الإجراءات القانونيّة يقول لـ “مناطق نت”: “على رغم كلّ شيء، لم أستطع استيعاب ما حصل حتّى الآن، وليس لديّ طاقة لفعل أيّ شيء، لا أفهم كيف وصلنا إلى البرازيل، أنا أنتظر العودة القريبة”.

سجينة نشرات الأخبار

أمّا مهى، التي لجأت إلى إيطاليا مع أطفالها، فتعبّر لـ “مناطق نت” بمرارة عن معاناتها تقول: “أشعر أنّني خرساء. لا أتكلمّ اللغة الإيطاليّة، وأعتمد على زوجي في كلّ شيء. لا أحبّ مغادرة البيت لأنّني لا أستطيع تدبير أموري، حتّى يعود زوجي من العمل، أنا سجينة نشرات الأخبار.”

تختصر كلمات مهى مشاعر الاغتراب والعجز الذي يواجه عديد من اللبنانيّين المزدوجي الجنسيّة، الذين أجبرتهم الأزمات على مغادرة وطنهم في ظروف قاسية. في رحلتهم بين الغربة والعودة، يصارع هؤلاء عبء الاندماج في مجتمعات جديدة، بينما يحاولون التشبّث بأوطانهم التي تركوها في أصعب الظروف، إنّها حكاية البحث عن ملاذ آمن.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى