بيوتنا هي العراء..مشاهدات من بعلبك
السؤال الذي يتطرّق إلى ذهنك، في هذه الأوقات غير العادية: هل أخرج من المنزل هذا اليوم أو أبقى ضمن جدرانه؟ عيناي شاخصتان إلى جهاز التلفزة، تتابعان ما يحدث على طول البلد وعرضه، وفي البلدان المجاورة.
هذا السؤال كان أجاب عليه الكاتب الفرنسي فيليب جينادا، ولو في مقلب آخر يختلف عن الذي نحن في صدده، حين كتب: “أن تكون محبوساً؟ هذا الأمر لن يغيّر شيئاً كثيرًا! في الأوقات العادية، لا أغادر المنزل، باستثناء ساعة واحدة يوميًا، أذهب خلالها إلى الحانة الصغيرة في الطابق السفلي من البناء الذي أسكن فيه”. وهو يضيف: “لطالما أخافني السفر. سيكون الوضع المثالي هو عدم الخروج أبدًا، والبقاء محبوسًا في المنزل، وربما سأقوم برحلات استكشافية حذرة إلى الحانة الصغيرة الموجودة على زاوية الشارع”.
اعتصم الكاتب في بيته لأسباب نفسية ومزاجية، كما يبدو. لم يكن واقعاً تحت تهديد مباشر يشبه الذي نحن واقعون تحت وطأته. الخروج من المنزل، والتنقل في مدينة بعلبك في ظروف الحرب، يعني أنك صرت مكشوفاً، وما من شيء يمكنه حمايتك. تأتي أصوات القصف من كل الجهات، ما عدا الناحية الشرقية. نالت الجهات الأخرى نصيبها، وما زالت غارقة في لهيب الحرب للأسف.
تخطر في البال كلمات مظفّر النوّاب: “أخرج للشارع / من يعرفني / من تشتريني بقليل من زوايا عينها”. هذه أيضاً كلمات كُتبت في موقع مختلف. أما عندنا، فمغادرة المنزل، ولو لفترة محدودة في الزمان والمكان صارت في حاجة إلى تفكر في العواقب. قلة من الخليقة تجوب الشوارع، وقلة من السيارات كذلك. لا يمكن مقارنة حال الناس والشارع بما كانت عليه في سابقات الأيام. بعض المتجولين القلائل على معرفة بك، فيلقون عليك التحية، أما من لا معرفة لك به أو العكس، فهو يراقبك بتمعّن وكأنك يسعى لاستكشاف أحاسيسك، وربما كان لديك الإحساس نفسه.
أعرف شخصاً فقير الحال، كان موظفاً، ذات يوم، في بلدية بعلبك عامل تنظيفات. تقدّم به العمر وضعفت همّته، ولم يعد لدى بلدية المدينة الموارد المادية لدفع أجور عمّالها. صار يدور في شوارع المدينة، ويطلب المعونة. يساعده البعض، علماً أنه يتوجه إلى إناس في عينهم ممن يعرفهم بلجاجة واضحة. رأيته يتنقل في طرقات فارغة، على الرغم من معرفته بالوضع. كان يائساً من الوضع على طريقته. يعود سلوكه بممارسة “مهنته” الجديدة في زمن الحرب، بين حاجة مادية لا تفارقه، والإنقياد إلى عادة لا يمكنه التخلّي عنها في طلب معونة في كل الظروف والأزمنة.
حركة الناس وآلياتهم ليست على المستوى والتماثل نفسيهما في كل أنحاء البلدة. واحدة من “عجائب” هذه المدينة والبلد كلّه، خصوصاً في حاضرة لا تعتبر من المدن الكبرى. الحركة شبه منعدمة، أو قليلة، في الجزء الشرقي- الجنوبي، لكنها أكثر حضوراً في الجزء الشمالي – الغربي. يعود الأمر إلى اختلاف التوزع “المذهبي” بين الجزئين، وما يمكن أن يعكسه من تصرّف آلة القتل التي تستهدف، من حيث المبدأ، طائفة بعينها. هذا الواقع كان اختبر البعلبكيون مفاعيله في حرب 2006، حين استُهدفت منطقة “العسيرة”، الواقعة في طرف بعلبك لجهة الشرق، يومياً تقريباً، ودُمرت معظم بيوتها، في حين نجت مناطق أخرى من المدينة من القصف الممنهج.
تخطر في البال كلمات مظفّر النوّاب: “أخرج للشارع / من يعرفني / من تشتريني بقليل من زوايا عينها”. هذه أيضاً كلمات كُتبت في موقع مختلف. أما عندنا، فمغادرة المنزل، ولو لفترة محدودة في الزمان والمكان صارت في حاجة إلى تفكر في العواقب
لسبب لا نعرفة، لكننا نشكر المولى عليه، لم تُستهدف العسيرة في هذه الدورة القتالية سوى مرة واحدة، كما لم يُستهدف مركز المدينة وأحياؤها السكنية الأساسية حتى هذه اللحظة. لكننا لا نعلم ما ستحمله لنا الأيام المقبلة من نتائج الجنون الإسرائيلي المستفحل ونزواته الخبيثة. في المدة الأخيرة، نالت بلدة دورس، الواقعة لصقاً بالمدينة إلى جهة الجنوب، حصة الأسد. مناقشة سبب هذا الإستهداف ليس من اختصاصنا، كذلك ليس من اختصاص “محللين” كثر من أبناء المدينة، ممن صار الحديث عن الحرب موضوع الساعة لديهم، مع ما يحمله ذلك من أقاويل وتنبؤات لا ترتكز إلى أي قاعدة علمية أو عسكرية واضحة.
وما يزيد الطين بلّة، كما يٌقال، هو دور وسائل التواصل الإجتماعي، التي تتعدّى بوستاتها السؤال عن الأحوال والإطمئنان إلى التخويف وبعض الاجتهادات، إلى درجة أن أحد الأصدقاء الافتراضيين كان طلب عدم الإتصال به هاتفياً، بعدما “انطوش” من كثرة الاتصالات.
خرجت اليوم من المنزل، كعادتي، على رغم الوضع المقلق. البقاء في الأماكن المغلقة يدعو إلى الكآبة، والتنقّل في حديقة المنزل لا يفي بالهدف المطلوب، على عكس ما يحققه الوجود في منطقة مفتوحة، تحوطها أشجار وتعلوها سماء. لن أسلك الدرب التي سلكها الكاتب فيليب جينادا، الذي يبدو أن “روحه طويلة”، ويتمتع بسلام نفسي، كما نعتقد، وهو الأمر الذي لا تساعدنا أجواء الحرب على اكتسابه. حركة الناس وآلياتهم بعيدة من الكثافة، كما ذكرنا سلفاً، وكما هو متوقع ومفهوم. مقهى “الإسبرسو” الذي أقصده عادة أقفل أخيراً، بعد أن عاند الظروف، لفترة من الفترات، رأفة بزبائن أدمنوا الإسبرسو، ممن كانوا يقصدونه يوميًّا، وغالبيتهم عاطلون من العمل. المقهى الآخر الواقع على ضفة “البياضة”، الممتلىء بالرواد في الأيام العادية، لم يقفل فحسب، بل أزال ماكينات صناعة القهوة والكراسي وكل الأثاث. بدا مهجورًا منذ وقت طويل، بعدما أفرغ من كل محتوياته.
خلال سيري على الطريق المحاذي لبيتنا، هب هواء أقوى من العادة، تطايرت الأكياس البلاستيكية وأوراق مختلفة الأحجام، وعم الغبار المكان. خطرت في بالي أفلام ال western، طيبة الذكرى، التي كنا نشاهدها في عمر المراهقة. كان الغبار وأشياء أخرى يتصاعد فيها من صحراء نيفادا أو تكساس. جلست مساء أمام التلفاز باحثاً عن أشياء جديدة مختلفة. لم تخذلني نشرات الأخبار: لقد أطلقت إيران ما يزيد على 200 صاروخ على إسرائيل. سوف تطول السهرة في هذا الليل، الذي لا ندري ما سيحمله من وقائع أخرى قد لا تخطر على بال.