بيوت “القاع” الطينيّة خطوات على درب الترميم

على رغم الزحف الإسمنتيّ الذي يغيّر وجه القرى ويحيلها إلى مكعبات من باطون، ما زالت بلدة القاع في البقاع الشماليّ تحفظ جزءًا من ذاكرتها وهويّتها العمرانيّة القديمة. ثمّة بيوتٌ من طين يعود بعضها إلى بدايات القرن الماضي، ومنها إلى ما قبل ذلك، يتغلغل فيها دفء تفتقده بيوت الإسمنت اليوم. عمارة تتآخى مع الطبيعة وتشبهها وتشكّل امتدادًا لها. عمود البيت هو الركن، والجدران من طين وتبن. الأسطح خلطة سحريّة من البلّان اليابس وخشب الأشجار، يرتاح عليها التراب المحدول، ليشكل جسرًا يرتكز عليه السطح كي يعبر فوقه مطر الشتاء متدفقًا من المزاريب، مُطلقًا سمفونيّة صنعتها السماء واحتضنتها الأرض.
بمبادرة من جمعيّة “همم” وعدد من شبّان وشابّات بلدة القاع، بدأ العمل على ترميم عدد لا يستهان به من بيوت قديمة في البلدة، يراوح عمر بعضها بين 120 إلى 160 عامًا، وذلك ضمن مشروع إحياء الإرث الثقافي والمعماريّ في بلدة القاع.
تؤكّد إحدى المبادرات في المشروع سلام كلّاس وجوب الحفاظ على البيوت الطينيّة الموجودة في القرية، “فالترميم يعطيها حياة وفرصة جديدة لتكون منتجة، ولإنقاذها من الاندثار تحت تأثير العوامل الطبيعيّة”. تتابع لـ “مناطق نت” أنّ “فكرة الترميم جاءت، أوّلًا، من حنين إلى زمن ماضٍ كان لأهلنا فيه تاريخ من العادات والتقاليد التي نفتقدها شيئًا فشيئًا، ثانيًا، من وعي ضرورة الحفاظ على الهويّة والهندسة المعماريّة التي امتازت بها قريتنا وكلّ قرى البقاع”. تضيف “هذه البيوت هي إرثٌ بناه أجدادنا ويجب الحفاظ عليه”.
60 بيتًا قيد الترميم
يبلغ عدد البيوت القديمة التي يستهدفها مشروع الترميم، نحو 60 بيتًا، منها بيوت لا زالت صامدة، وأخرى مهدّمة جزئيًا أو كلّيًّا لم يبقَ منها غير أطلال متناثرة، لكنّ وعلى الرغم من ذلك، فإنّ وزارة الثقافة أهملتها ولم تُدرجها على لائحة الجرد العام، كي تُصنّف بمقتضى ذلك تراثيّة وجبت حمايتها. وفي هذا الإطار َتقول كلّاس إنّ “البيوت لم تدرج على لائحة الجرد العام، لكن وفدًا من المديريّة العامّة للآثار زار البلدة في وقت سابق واطّلع على هذه البيوت، وتمّ التقاط صور لها من قبل مهندسي الوزارة”.

بدأ العمل الفعليّ بمشروع الترميم سنة 2022؛ تتحدّث كلّاس عن أنّ “الترميم يستغرق وقتًا، ونحن نتقدّم في بطء بسبب صعوبة تمويل المشروع”، وتشير إلى أنّ “المشروع بدأ في مرحلته الأولى بهدف ترميم أحد البيوت وتحويله إلى مكان منتج، ومساحة للقاءات وأنشطة ثقافيّة، تتيح للزائر الاطّلاع على تقاليد الأجداد، من خلال زيارة أمكنة سكنهم والأدوات التي كانوا يستخدمونها، وقصص من الماضي يرويها لهم دليل مرافق”. وتردف كلّاس: “إنّ المشروع يهدف أيضًا إلى تعريف الزائر على المطبخ القاعيّ وتذوّقه أطباقه، وشراء المؤونة التقليديّة البلديّة التي تحضّرها سيدات البلدة”.
يتطلّب ترميم المنازل القديمة في القاع، خبرة واختصاصًا في هذا المجال، وذلك للحفاظ على روحيّة البناء القديم وعدم إفساده. ولأجل ذلك يتمّ العمل ضمن شروط ومعايير مطابقة للجودة والمواصفات وعلى أيدي متخصّصين. تشير كلاس إلى أنّ “مهندسين متخصّصين يرافقوننا في عملية الترميم، منهم من شارك في ترميم المنازل القديمة في بيروت بعد انفجار الرابع من آب (أغسطس) 2020”. وتضيف “يجري ذلك بهدف المحافظة على القديم بأدقّ تفاصيله، من الطين إلى الحوارة، وخشب الأبواب والشبابيك، ثمّ الموقدة والتمور والمصطبة”.
البلديّة تشجّع وتدعم
اقتصر دور بلديّة القاع على التشجيع مع بعض الدعم الماليّ، تقول كلّاس: “شجعت البلدية مبادرة الترميم، وموّلت بعض النشاطات التي هدفت إلى توعية الجيل الجديد الشاب، على أهمّيّة هذه البيوت وضرورة الحفاظ على العادات والتعرّف على كيفيّة الإعمار بالطين، والتي تناقلتها الأجيال منذ مئات السنين وحتّى منتصف القرن الماضي. وتأسف كلّاس “أننا ما زلنا إلى اليوم نرى بعض البيوت تُهدم، وبإذن من البلديّة، وعدم اكتراث من قبل الجمعيّات المحلّيّة، حيث تتقدّم الاهتمامات الحياتيّة من صحّة واقتصاد وتعليم وبنى تحتيّة على الجوانب الأخرى لا سيّما الثقافيّة”.
تحدّيات كثيرة تواجه مشروع ترميم البيوت القديمة في القاع، يأتي في طليعتها غياب الدولة وكذلك التمويل، وهو ما يقف عائقًا أمام هذه المشاريع الخلّاقة
مشروعٌ مكلف
تحدّيات كثيرة تواجه مشروع ترميم البيوت القديمة في القاع، يأتي في طليعتها غياب الدولة وكذلك التمويل، وهو ما يقف عائقًا أمام هذه المشاريع الخلّاقة التي تهدف إلى تحويل هذه البيوت من مجرّد أطلال تاريخيّة إلى بيوت حيّة تحفظ تراث هذه المنطقة وتجعلها مقصدًا من كلّ حدب وصوب.
عن الكلف الماليّة للمشروع، تقول كلّاس إنّه “ليس هناك خطّة شاملة تجاه كلفة مشروع الترميم ككلّ، لذا تمّ وضع خطّة أو دراسة ماليّة لكلفة البيت الأوّل الذي بدأنا العمل به، لكنّ المشروع اصطدم بكثير من العراقيل، منها أن هذه البيوت هي ذات ملكيّة فرديّة ولا يمكن لمشروعنا فرض أي تعديل أو ترميم على مالكيها، في حال رفضوا أنفسهم الموضوع.
الدخول إلى أحد المنازل الطينيّة ينقلك إلى زمن آخر، موقدةٌ عربيّة بداخون كبير من الطين، تحجز لها زاوية من البيت. أبواب خشبيّة حفر عليها الزمن أغنيات شاهدة عليه، شبابيك واسعة، قنديل أو سراج معلّق على عمود، “يوك” في الحائط يوقظ الذاكرة العتيقة مع كلّ ما تحمله من جمال وبساطة عيش.








