بيوت بعلبك الهرمل مشرّعة لنازحي الجنوب
دفع الحديث عن احتمالية توسّع رقعة الحرب، بما يشمل ما هو أبعد من مناطق الشريط الحدوديّ جنوبًا، ودخول الضاحية حيّز الخطر، بعد مرور أشهر كانت فيها آمنة من أيّ تهديدات إسرائيليّة، بعض سكّان وأبناء هذه المناطق إلى البحث عن أماكن نزوح جديدة، وهو ما واجهه في المقابل، استغلال وجشع من قبل السماسرة وأصحاب العقارات التي تقع في مناطق تعدّ بعيدة من الاستهداف الإسرائيليّ في حال وقوع حرب شاملة أو أكثر عنفًا، ليبلغ إيجار البيت الواحد نحو 1500 دولار أو أكثر في بعض الأحيان، مع اشتراط دفع أشهر عديدة سلفًا.
البقاع يهبّ لاستقبال النازحين
أثار هذا الواقع ردود فعل مستهجنة ورافضة، ترجمها ابن مدينة الهرمل ربيع شاهين بمبادرة إنسانيّة، توجّه فيها إلى أهالي منطقة بعلبك- الهرمل، من خلال تسجيل صوتيّ نشره عبر مجموعات إخبارية يديرها، دعا من خلاله أبناء المنطقة للوقوف إلى جانب الجنوبيّين في محنتهم. وناشد كلّ من يمتلك عقارًا أو منزلًا شاغرًا في المنطقة تقديمه مجّانًا لاستقبال النازحين من القرى الجنوبيّة أو ضاحية بيروت الجنوبيّة.
عن المبادرة التي أطلقها يقول ربيع لـ”مناطق نت”: “المبادرة التي أطلقتها لاقت صدىً واسعًا في المنطقة، وقد تلقيت على إثرها عددًا هائلًا من الاتّصالات من الراغبين في تقديم يد العون، ما دفعني إلى تشكيل فريق عمل مصغّر من المتطوّعين وتوكيلهم مهام مختلفة، وإنشاء مجموعات “واتس آب” بهدف التنسيق”.
يتابع ربيع: “تولّى بعضهم مهمّة تلقّي اتّصالات من أصحاب العقارات المتاحة، وجمع تفاصيل عن موقعها وقدرتها الاستيعابيّة وظروف أهليّتها للسكن، بينما تولّى آخرون مهمّة تلقّي اتصالات من النازحين، والاستفسار عن المعلومات المتعلّقة بهم لاختيار ما يتناسب واحتياجاتهم، في حين خُصّصت مجموعة ثالثة بكلّ ما يتعلّق بالخدمات الصحّيّة المطلوبة والمتوافرة، والتواصل مع الراغبين بالتطوّع من داخل القطاع الطبّيّ”.
250 وحدة سكنيّة
أمّنت المبادرة حتّى الساعة ما لا يقلّ عن 250 وحدة سكنيّة، مقسّمة بين منازل مفروشة أو خالية من الأثاث، وڤلل (دور) وشاليهات على ضفاف نهر العاصي.
تتوزّع هذه الوحدات على مختلف القرى البقاعيّة، وصولًا إلى منطقة “القصر” الحدوديّة مع سوريا. والعمل جارٍ لتأمين مزيد منها، بتنسيق بين المتطوّعين ورؤساء البلديّات والمختارين. وكذلك تمّ تجهيز وسائل نقل من سيّارات وباصات لاستقدام النازحين من بيروت أو من قراهم الجنوبيّة، لمن يواجهون صعوبة في الوصول إلى البقاع. وأكدّت بعض عائلات وعشائر المنطقة جهوزيّتها لتأمين موادّ غذائيّة وعينيّة وطبّيّة للوافدين، وجميع المستلزمات الضروريّة لإقامتهم ولبقائهم، مهما طال أمد الحرب.
وأعلنت مجموعة أطبّاء من منطقة القصر الحدوديّة عن استعدادها لتقديم معاينات طبّيّة مجّانيّة للنازحين في مختلف المناطق البقاعيّة، وتخصيص أحد مستوصفات المنطقة لاستقبالهم، وتأمين أدوية. وتمّ وضع سيارتي إسعاف تابعتين لبلديّة “الشواغير” في خدمة المبادرة.
أمّنت المبادرة حتّى الساعة ما لا يقلّ عن 250 وحدة سكنيّة، مقسّمة بين منازل مفروشة أو خالية من الأثاث، وڤلل (دور) وشاليهات على ضفاف نهر العاصي
نخوة بقاعيّة مضيافة
تفاعل أهالي بعلبك- الهرمل مع هذه المبادرة بشكل إيجابيّ مكثّف عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وأعلنوا عن ترحيبهم بقدوم الجنوبيّين ضيوفًا أعزّاء إلى منطقتهم، وأكّدوا أنّ القادمين سيتلقّون ما يستحقّون من معاملة ترتقي وحجم تضحياتهم الكبرى في هذه الحرب، وما عانوه حتّى اليوم من خوف وقلق وترهيب، وأنّ الأرض أرضهم والبيوت بيوتهم، والمائدة التي تطعم خمسةً تتّسع لخمسةٍ آخرين، كما تقتضي الأعراف والتقاليد البقاعيّة الغنيّة عن التعريف.
يتحدّث محمد. “ش” وهو ممرّض متطوّع في فريق عمل المبادرة، عن أنّ أهالي المنطقة ممّن تواصلوا معهم، يصرّون على ألّا يعتبر الوافدون قدومهم نزوحًا، إنّما ضيافة، لا تقتصر فقط على منحهم مسكنًا لائقًا وما يحتاجونه من مستلزمات ضروريّة للعيش، إنّما تتعدّاها إلى تحويل المدّة الزمنيّة التي سيمضونها في المنطقة إلى فترة نقاهة.
يضيف محمد لـ”مناطق نت”: “أبدى كثر استعدادهم لتنظيم جولات للقادمين كي يتعرّفوا على معالم المنطقة السياحيّة، ونزهات ترفيه، فالاتّصالات تنهال على المنّسقين بشكل كبير فاق قدرتهم على استيعابه، من سكّان محلّيّين ومغتربين يرغبون في معرفة إذا ما أمكنهم هم أيضًا تقديم أيّ شكل من أشكال المساعدة، ويطرح كل واحدٍ منهم ما لديه من إمكانات متاحة تخوّله أن يكون فاعلًا في هذه المبادرة”.
من ربّ ثلاثين إلى الهرمل
يروي ع. فرحات لـ”مناطق نت” تجربته، وهو نازح مع عائلته المكوّنة من زوجته وخمسة أطفال، بعدما انتقل مع بداية الحرب من قرية ربّ ثلاتين إلى بنت جبيل واستقرّ هناك، وقد سمع عن المبادرة من خلال إحدى المجموعات الإخباريّة.
يتابع: “تواصلت مع الرقم الموجود في الإعلان، وقد تجاوب المتطوّعون معنا بشكل سريع، فتوجّهت مع العائلة إلى بيروت، وهناك كان بانتظارنا سائق ڤان، قام بإيصالنا إلى الهرمل حيث استقبلتنا مجموعة من الشبّان وأوصلونا بسيّاراتهم إلى المنزل المخصّص لنا، وتأكدوا من توافر جميع المستلزمات التي نحتاجها لبقائنا هنا”.
إنّ تفاعل البقاعيّين، وتدافعهم للمشاركة في هذه المبادرة ليس مستغربًا، فمن حّل- قبل الحرب- ضيفًا على بيت بقاعيّ، يعلم علم اليقين أنّ هذا جزء من هويّتهم التي لم ولن تغيّرها الظروف الصعبة التي مرّت وتمرّ بها البلاد، بل على العكس، ستجعلها راسخة وجليّة أكثر من أيّ وقتٍ مضى.
مبادرات فرديّة
شجّعت هذه الخطوة عددًا من البقاعيّين للقيام بمبادرات فرديّة منفصلة، من خلال الإعلان عبر صفحاتهم الشخصيّة على مواقع التواصل الاجتماعي عن توافر مساكن مع تحديد مواصفاتها وموقعها ونشر أرقام هواتفهم. يقول علي سليمان أنّه وبعد اطّلاعه على مضمون المبادرة، “قمت بعرض شقّة مؤلّفة من غرفتين أمتلكها في منطقة بدنايل حيث أسكن وعائلتي، وتلقّيت بعد أقلّ من ساعتين اتّصالًا من عائلة جنوبيّة من شبعا ترغب في الحصول على هذا المنزل”.
يتابع سليمان حديثه لـ”مناطق نت”: “لم أقم بإزالة “الستوري” من حسابي على “إنستغرام” حتّى بعدما أخبرت العائلة أنّ الشقة أصبحت تحت تصرفهم الكامل. تركتها لتشجيع الآخرين على القيام بخطوة مماثلة، وكنت على علم أنّ الوضع أصبح أكثر تعقيدًا في الجنوب بعد الأحداث الأخيرة، لذلك قمت بتقديم المنزل، وقد وردتني بعدها اتّصالات كثيرة من راغبين في الحصول على المنزل لكنّني اعتذرت منهم واحدًا واحدًا، وتمنّيت لهم السلامة، وأتمنّى كذلك على جميع البقاعيّين أن يشاركوا في فتح بيوتهم للنازحين”.
“البيت بيتكم والعتبة إلنا”
أعادتني هذه المبادرة، وهذا الحديث عن رغبة البقاعيّين الحقيقيّة في استقبال النازحين أحسن استقبال، إلى ذكريات حرب تمّوز (يوليو) 2006، حيث اتّسع بيتنا الصغير المؤلف من غرفتين في “الهرمل”، إلى أكثر من 15 شخصًا، معظمهم كانوا أطفالًا مثلنا، وإلى إصرار أمّي على أن ننام نحن على البلاط، بينما ينام ضيوفنا على الفُرش، وغيرها من أمور حصلت، كي يبقى البيت البقاعيّ كما عرفته وتعلّمت منه، في السلم وفي الحرب، مفتوحًا على مصراعيه، وتبقى العتبة لأهله متّى نزل بهم ضيف.