بُرك الجمع في جبل عامل عصفت بها الحرب وأكلها الإهمال
لا حياة من دون مياه، لا بل لا حضارة بلا ماء، لذلك نجد الحضارات القديمة كلّها نشأت على ضفاف الأنهار والبحار والممرّات المائية. كذلك قرانا القديمة قامت حول مصادر المياه، وتكاد لا تخلو قرية في جبل عامل من بركة تُجمَع المياه فيها شتاءً لاستخدامها صيفًا.
قديمة هذه البرك قِدم تلك القرى، ومنها ما يعود إلى العهد الرومانيّ كما يُشاع عن بركة كونين وهي من أكبر وأقدم برك جبل عامل، وكذلك بركة “البيادر” في حولا والتي (مع الأسف) رُدِمت مع ما رُدِم من برك من قِبل بعض البلديّات في المنطقة، وذلك بعد حرب تمّوز 2006 حيث نقلت إليها ردميّات البيوت المدمّرة من دون أدنى اعتبار لتاريخ هذه البرك وأهمّيتها الاقتصاديّة والتراثيّة والاجتماعيّة، وهذا ما حصل كذلك في عيترون ومركبا والطيبة وقرى أخرى.
توصيف البرك
هذه البرك، منها ما كان طبيعيًّا تصنعه السيول وعوامل الطبيعة، ثمّ كان يطورّها الأهالي ويوسّعونها، ومنها ما كان يُحفر بسواعد الرجال وباختيارهم وبحسب حاجتهم، ووفقًا لخبراتهم وتجاربهم وبأدواتهم البدائيّة، لكنّ التعاون كان عاملًا أساسيًّا كي يستطيعوا إنشاءها. وكانت البرك الكبيرة تُحفر في التراب الطريّ، أمّا الأرض الصخريّة فلم تكن تسمح إلّا بحفر برك صغيرة.
هذه البرك، منها ما كان طبيعيًّا تصنعه السيول وعوامل الطبيعة، ثمّ كان يطورّها الأهالي ويوسّعونها، ومنها ما كان يُحفر بسواعد الرجال وباختيارهم وبحسب حاجتهم
وتتنوّع أشكال هذه البرك هندسيًّا، فمنها الدائريّة والبيضاويّة والمربّعة والمستطيلة، ومنها لا شكل هندسيًّا محدّدًا لها. وكذلك من حيث الأحجام، فمنها الصغيرة والمتوسّطة والكبيرة. ومن البرك الكبيرة نجد برك: ميس الجبل، كونين، عيترون (تمّ ردمها) الطيبة (تمّ ردمها)، شقرا، بنت جبيل وغيرها. أمّا حولا فبركها صغيرة نظرًا إلى افتقارها للأرض المنبسطة والترابيّة، ولكنّ أهلها استعاضوا عن ذلك بزيادة عدد البرك (لتعويض الحجم) ولأنّ أراضيها واسعة ومتفرّقة، وربّما تكون حولا هي الأولى بعدد برك الجمع (كانت خمس برك وأصبحت اربعًا بعد ردم إحداها) إضافةً إلى برك صغيرة أخرى.
وكانت غالبيّة هذه البرك تبقى بلا أرض أو جدران، ومع مرور الزمن ونتيجة ضغط المياه تصبح كاتمة للمياه إلى حدٍّ كبير. ومنها ما كانت تُّقام لها جدرانٌ سميكة من الحجر الصخريّ المقصّب، ومنها ما كانت ترصف أرضها بالبلاط الصخريّ، وهي قليلة. أمّا مساحة هذه البرك فكانت تراوح بين دونم واحد و10 دونمات في البرك الكبيرة، ويراوح عمقها بين خمسة أمتار و10 أمتار.
برك محور حياة
كانت البركة قديمًا محور حياة سكّان القرى، فهي مصدر المياه الأساسيّ لريّ مزروعاتهم وسقي مواشيهم يوم كانت الزراعة وتربية المواشي السبيل الوحيد للعيش في تلك القرى النائية، وخصوصًا زراعة التبغ والحبوب والأشجار المثمرة، ولمّا يزل بعض هذه القرى يعتمد على هذين القطاعين اقتصاديًّا. كما كانت البركة مصدرًا أساسيًّا للمياه التي تُستعمل في ورش البناء قديمًا وحديثًا، من دون أن ننسى استخدامات أخرى لها، فقديمًا كان يجري غسل الأواني والثياب والأغطية فيها. وفي عهود أقدم كان يتمّ الاستحمام في مياهها عندما كانت البيوت بسيطة وبدائيّة وغير مجهّزة لهذه الاحتياجات.
وكانت البرك إضافة إلى بعض الآبار الخاصّة التي كانت تحفر وتنحت في الصخر قرب المنازل مصدر المياه الوحيد قبل أن تمدّ الدولة شبكات المياه، والتي قلّما لبّت حاجات السكّان وخصوصًا في مجال ريّ المزروعات.
حتّى إنّ الآبار الارتوازيّة التي حفرت في بعض القرى لم تلغِ الحاجة إلى برك الجمع، لأن البئر الارتوازيّة لا تلبث أن تنضب، إضافةً إلى تأثيرها السلبيّ على النظام المائيّ الطبيعيّ ودورة المياه، وخصوصًا المياه الجوفيّة التي هي مصدر أساس للينابيع، وكذلك فإنّ كلفتها عالية مقارنة مع كلف إنشاء البرك. يضاف إلى ذلك حاجتها الدائمة للطاقة، سواء لسحب المياه أو لضخّها.
اختيار بالغ الدقّة
أمّا البرك فكانت تقام في أماكن معيّنة يجري اختيارها بدقّة من قبل الأهالي، بحيث يمكنهم توجيه المياه إليها من الطرقات والتلال العالية المحيطة عبر أقنيّة يحفرونها على جوانب الطرقات، ويقومون بتنظيفها قبل موسم الشتاء. على أن تكون البركة في موقع مدروس بحيث يستطيع الأهالي جرّ المياه منها إلى الحقول المحيطة التي تكون على ارتفاع أقلّ من ارتفاع البرك نسبيًّا، ممّا يعني أنّ البرك كانت تعتمد على قوّة الدفع بالجرّ الطبيعيّ (الجاذبية) من دون الحاجة إلى مضخّات تعمل على الوقود وأنواع الطاقة.
في جبل عامل بالذات كثُرت هذه البرك خصوصًا في القرى البعيدة عن الأنهار والينابيع الطبيعية. فنجد قديمًا، على سبيل المثال لا الحصر، اهتمام أهالي مركبا وحولا وميس الجبل وعيترون وصولًا حتّى رميش وجوارها بإنشاء هذه البرك والاهتمام بها، وهذا الاهتمام يتدنّى في القرى التي فيها ينابيع أو قريبة من الأنهار، مع العلم أنّ كثيرًا من الينابيع كانت موسميّة أو تجفّ صيفًا، ومنها ما اندثر تمامًا.
لذلك لا بديل عن برك الجمع، والتي لم تقتصر الحاجة إليها على الناحية الاقتصادية فحسب، بل كانت لها منافع كثيرة منها، أنّها تمنع سيول المياه الشديدة في الشتاء من جرف التربة والبيوت والأراضي الزراعيّة. كما أنّها مصدر مياه متاح لإطفاء الحرائق التي كانت (وما زالت) تشتعل من وقت إلى آخر في تلك القرى بسبب يباس العشب، وكثرة إشعال النار خارج المنازل وفي المواقد، وإقامة المشاحر لصناعة الفحم وغير ذلك من الأسباب.
دور بيئيّ وغذائيّ
لبرك الجمع دور بيئيّ لا يُستهان به، ألا وأنّها تشكّل مشاربَ للطيور والدواجن والنحل. وكانت تُربّى في بعضها الأسماك والطيور المائيّة كالبط والأوزّ، وكانت هذه البرك المصدر الوحيد تقريبًا لاستراحة الطيور المهاجرة وارتوائها، والتي كانت إضافةً إلى ذلك تستدلّ بواسطة هذه البرك لمعرفة طريق هجرتها، فقديمًا كانت هذه البرك المعلم الوحيد الذي يُرى من السماء لاستهداء الطيور المهاجرة، ويصبح نقطة علام لها حتّى في الليل حيث يلمع فيها ضوء القمر، ولم تتوافر قديمًا معالم أخرى مميّزة في القرى بهذا الحجم واللمعان.
وكانت تشكّل أيضًا خطًّا شبه متواصل، كونها تنتشر في جميع القرى تقريبًا، ما يجعلها سلسلة متتابعة وخريطة للطيور المهاجرة، والتي فقدت دربها بعد ردم عديد من هذه البرك. ولا يخفى أنّ منطقة جبل عامل تعتبر ممرًّا أساسيًّا وقديمًا (ولم يزل) للطيور المهاجرة من أوروبّا نحو أفريقيا في فصليّ الخريف والشتاء والعائدة بالعكس في الربيع والصيف.
وكانت لهذه البرك استعمالات كثيرة، منها ما يُسمّيه العامّة “بَلّ الترمس” أيّ وضع حبوب الترمس في الماء لكي تصبح طريّة وحلوة وصالحة للأكل، إذ كانت توضع بأكياس من خيش تسمّى “شوالات” فيها فتحات ضيّقة جدًّا تسمح بمرور الماء إلى داخلها ولا تسمح بخروج حبّات الترمس من الكيس، وتُوضع في البركة عدّة أيّام بحيث تغمرها المياه، وكانت تثبّت بحجارة أو غيرها كي لا تغرق إلى قعر البركة، أو تُربط بحبال مشدودة إلى جدار البركة أو الأشجار التي حولها.
وكانت البركة عندما تجفّ في أواخر الصيف، مصدر إفادة للمزارعين، إذ كانوا يستخدمون بقايا الأتربة المجمّعة في قعرها من خلال السيول، كسماد طبيعيّ، نظرًا لاختلاطها بالأعشاب وروث المواشي والطيور وغيرها من المواد العضويّة.
البركة في حياة القرويّين
إضافة للجوانب المادّيّة والاقتصاديّة والبيئيّة للبرك وأهميّتها، لا بّد من التوقّف عند الجانب المعنويّ الاجتماعيّ الذي لا يقلّ أهمّيّة. فكلّ بركة في أيّ قرية تحكي قصّة هذه القرية وتختصر تاريخها.
تختزن البرك حكايا القرى وذكرياتها، حيث كان يجتمع الأهالي كلّ عام لتنظيفها قبل الشتاء، إضافةً إلى تعاونهم في تنظيف المجاري والأقنية من الأتربة والأوساخ والأعشاب لكي تصل أكبر كمّيّة من الأمطار إلى البرك؛ وما يدور خلال هذا العمل من تلاقٍ وتعاون بين الأهالي، وما يجري بعد تنظيفها من احتفالات ودبكات وإنشاد للأغاني التراثيّة ومن سهرات وأحاديث سمر في الليالي المقمرة.
تختزن البرك حكايا القرى وذكرياتها، حيث كان يجتمع الأهالي كلّ عام لتنظيفها قبل الشتاء، إضافةً إلى تعاونهم في تنظيف المجاري والأقنية من الأتربة والأوساخ والأعشاب
تشكّل هذه البرك في تلك القرى، التي تفتقر غالبيّتها إلى المعالم السياحية، معالم جغرافيّة وطبيعيّة وبيئيّة وجماليّة ومتنفّسًا لتنزّه الأطفال وذويهم، كذلك كانوا في الماضي يسبحون فيها. وهي إضافةً إلى ذلك شكّلت معالم جغرافيّة وطبّوغرافيّة تحدّد على أساسها الأمكنة والعناوين، فتتردّد على مسمع من يزور هذه القرى عبارات مثل “نلتقي قرب البركة”، “بيت فلان غربيّ البركة” الخ.
ترتبط كذلك بتواريخ القرى، فيقال: “فلان ولد يوم نظّفنا البركة أو البرك”. و”فلان توفّي يوم شُيّدت حيطان البركة”، و”فلانة غرقت في البركة وانتشلها فلان”. ولا شكّ أنّ بعض الذكريات كانت أليمة وترتبط بالموت وغرق الاطفال فيها، لعدم وجود أسوجة وإجراءات تمنع الغرق، وكذلك بسبب الافتقار لوسائل الانقاذ والإسعاف في ذاك الوقت.
ونظرًا لأنّ كلّ بركة تجاورها ساحة تتناسب مع حجم البركة تُجمع فيها المواشي قبل الشرب، ويجتمع فيها المزارعون والرعيان والنسوة الواردات إلى الماء لملء الجرار أو غسل الثياب وغيرها، كانت هذه الساحات تتحوّل بعدها إلى ملاعب للأطفال وأماكن لإقامة الدبكات والأفراح والسهرات العامرة، ورواية القصص والنكات والأحجية والتحدّيات الشعريّة. وكم من قصائد قيلت في هذه البرك وحولها، ومنها قصيدة للراحل السيّد محمّد محمود الأمين من شقراء، يصف فيها بركة “النقيّة” وهي بركة قديمة جدًّا في شقراء، فيقول:
“أربوع بركتنا النقيّةْ
حيّتك وطفاء رويّة
تغشى رياضك بكرةً
ولدى الأصائل والعشيّة
وتجرّ فيكِ ذيولها
الأرواح نافحةً زكيّة”…
وهكذا ترتبط البرك بالذاكرة الجمعيّة لأهالي القرى الجنوبيّة، وهي قرائن مادّيّة لتاريخ ما فتئ يندثر وتزول معالمه الجغرافيّة تدريجيًّا ممّا يُصعّب إعادة روايته وتجميع فتاته بعد زوال البشر والحجر. فهل من ملتفت إلى هذا التراث المهمّ وهذه الثروة المهملة؟