“تافوفوبيا” الموت المحتشد تحت الركام
أمّا وقد حطّت الحرب أوزارها وبدأت الناس تحاول استعادة حياتها التي سُلبت منها، نزوحًا وموتًا وخرابًا ودمارًا، لا يبدو أنّ مشاهدها ستغادرنا سريعًا، ثمّة شيء يقبض بقوّة على حواسّنا، فيحيلها استلابات قد يمرّ وقت طويل، قبل أن نتحرّر من مآسيها ويحيلها وعينا إلى ذكرى محمّلة بالمرارة والخوف.
لن أنسى تلك الليلة، من بين ليالي كثيرة مرّت، ذلك الحوار الذي بدأ يجول عميقًا داخلي على وقع ارتجاج منزلي بسبب القصف الإسرائيليّ العنيف على الضاحية، من أنني لا أخاف خطفة الموت على الإطلاق، فالموت لا يعنيني بتاتًا عندما يأتي بغتة. ثمّة حكيم روماني قديم كان يقول “نحن لا نلتقي بموتنا، فعندما يكون نحن لا نكون وعندما نكون هو لا يكون”. جلّ ما كان يرعبني هو الخوف من أن أُدفن تحت الأنقاض حيًّا وهي حال نفسيّة تدعى Taphophobia (خوف المرء من أن يُدفن حيًّا) ولا أخال أنّ ثمة مواطنًا لبنانيًّا كان بمنأى عن هذه الحال طوال شهرين ونيّف.
لم أخف حينها نتعة الموت وحضوره السريع والمباغت، بل ما كان يقلقني أنّ يشخص بي لساعات أو لأيّام تحت الأنقاض فهو ما كان يرهق قلبي. ليس من يُسر الأمور أن تتحوّل الأرض، كلّ الأرض، إلى مساحة بحجم تابوت، وليس من الهيّن بالمرّة أن يكون العالم تابوتًا. يا لهذه الحرب القذرة وما تتباهى به من فتنة الحضور في كلّ مكان.
متاهة الأرواح
كنت أرسم الأنقاض فوق جسدي وفي البال وجوه أصحاب هذه الحرب اللعينة من إيران إلى إسرائيل مرورًا بلبنان الخرائب. أتلمّس جدران منزلي وأكرّر على نفسي عبارة قرأتها في كتاب وتحفر في ذهني عميقًا: “وجوههم قادرة على احتكار كلّ الجوائز في مسابقة حفر القبور” (متاهة الأرواح).
ينهش دود الموت اللحم، أمّا دود انتظار الموت فينهش الروح عن بكرة أبيها. شأني شأن كلّ البشر لست سيّد نفسي إزاء موتي المرتقب، لكنّ موتي صخب هائل عندما يحدجني بنظراته الباردة تحت الأنقاض المتراكمة. لست أدري من قال مرة: “أسير وراء جثماني وأنا حيّ” ربّما قالها شاعر نمساويّ. أمّا أنا فأقول: “إنّ انتظار الموت تحت الأنقاض هو ميتات كثيرة، حشد من الميتات المتراكمة”.
يحسب من تحت الأنقاض أنّ الموت الذي يحدّق فيه بلؤم محلّ عطلة، محلّ نزهة أو ربّما محلّ غنج يتبختر برويّة. يا لبشاعة الموت عندما يقرّر أن يمارس غنجه الفظّ وذلك التبختر المهين علينا. يا لفظاظة الموت ولؤمه عندما يقرّر أن يؤجّل موتنا الأكيد تحت أنقاض منازلنا. أحبّ الموت الفجّ، الطازج، السريع، الطائش… فهو عندئذ صديق حميم رؤوف عطوف.
لكلّ مجتمع في العالم طقوسه الخاصّة في عزل الأحياء عن الموتى إلّا في لبنان الحروب. إنّ الأحياء هم الموتى والموتى هم الأحياء… الأمر سيّان.
الموت.. ابتسامة أخيرة
من الصعب معرفة أين يقع الماضي وأين يقع المستقبل عندما يكون المرء حيًّا تحت الأنقاض، أمّا الحاضر فهو نعش ضيّق جدًّا، غبار، جدران تهمّ بالانقضاض وأنامل تتلمّس بقية العالم… ربّما الحاضر آنئذ دموع تُذرف، قيء يُدفع من جوف الجسد، أمّا بالنسبة لي فأفضّل أن يكون ابتسامة أخيرة.
الانتصارات في بعض متونها هي جواسيس الموت الخبيثة، جواسيس متنكّرة بهيئة قبضات مرفوعة وشارات نصر. الانتصارات في بعض نواحيها حفلات ذعر وناس تبادل الموت النظرات، نحن أنقاض كثيرة. وجه الربّ تحت الأنقاض مكفهرّ والسماء لصق الوجه سوداء مغبرة. لا كلمات تضمن الألفة، لا قلب نستعين به، فقلوب كلّ الأحبّاء عندما نكون تحت الأنقاض، بعيدة بعيدة.
من الصعب معرفة أين يقع الماضي وأين يقع المستقبل عندما يكون المرء حيًّا تحت الأنقاض، أمّا الحاضر فهو نعش ضيّق جدًّا، غبار، جدران تهمّ بالانقضاض وأنامل تتلمّس بقية العالم
من الحماقة أن يعيش الإنسان في بلد الحياة فيه مستلّة من الموت المحتشد عند كلّ طريق وزاروب وسطح وزاوية. فالوطن عندئذ لا يتجاوز أن يكون مساحة بحجم تلك الأجساد الملتفّة فوق بعضها البعض تحت أنقاض منازلها. أخال أنّ تلك الوحدة المنبثقة عن المكوث تحت الأنقاض هي صدى مكتوم لكلّ الذين نحبّهم أو لعلّ تلك الوحدة دويّ يخربش من أجل البقاء على قيد الحياة بانتظار أن يتمّ إنقاذنا، لست أدري. فالخوف من أن يُدفن المرء حيًّا يسوق المرء إلى عدم الدراية بعامّة، إلى التحيّز لعدم الوعي المطلق.
هشاشة انتصاراتنا
لا ريب أنّ الموت هو شكل من أشكال التجرّد من الذات بالمطلق، إنّما انتظار هذا الموت تحت الأنقاض هو تجلّ لبؤس مصائرنا، وتجسيد جهنّميّ لهشاشة انتصاراتنا. قد يدشّن المرء العالم ببداية جديدة وهو منبطح تحت الركام، قد يقصّ على نفسه الحكايا وقد، لِما لا، يلجأ إلى صمت مطبق إنّما في كلّ الحالات الجسد المتكوكم على نفسه تحت الأنقاض هو بتلك اللحظات الحرجة جسد العالم بعامّة.
أنهي كتابة هذه المادّة وأتذكّر وقع صوت انفجار هائل في منطقة الكفاءات، وقططي تفرّ في كلّ اتّجاه… لست أدري إذا ما كنّا نحن في هذا البلد مرآة تعكس بؤس العالم أو أنّ العالم هو مرآة تعكس الحجم الهائل لبؤسنا.