تجربة رشيد بيضون العامليّة في التعليم والإنصاف
كتب الأكّاديميّ والباحث الدكتور علي الشامي، مجموعة من المقالات حول الاجتماع الشيعيّ و”الوطن العامليّ”، وعلاقة الشيعة بالكيان اللبنانيّ. أريد أن أتوقّف عند فكرة له ترى إلى ثابت معتقديّ أو لنقل هويّة مذهبيّة إسلاميّة، وإلى متغيّر يتجسّد في الولاءات التي تحكمها السياسة.
يقول: “بقدر ما يعني الثابت الدينيّ غلبة دور العلماء في تعيين مركز القرار الشيعيّ ومرجعيّته وهويّته، بقدر ما يعني المتغيّر السياسيّ بداية تدخّل الزعماء والعائلات في تعيين القرار السياسيّ وتعديل صورة الهويّة” (“كيف تشكّلت الهويّة اللبنانيّة في فكر العلماء الشيعة؟”، تمّوز (يوليو)، 2023).
الإصلاح بالتعليم
والحال، تشي إقامة السيّد محسن الأمين في دمشق في العام 1901، وتأسيسه للمدارس بأنّه أدرك أهمّيّة مجاراة العالم الحديث ومجاراة الإصلاح في العالم السنّيّ، الذي اقتنع بأهمّيّة التربية والتعليم، ولا سيّما الحديث منه، لذا، صاغ ردّه في مشروع إصلاحيّ وفي الاهتمام بالتعليم (السيّد محسن الأمين: إصلاحيّ من جبل عامل، مناطق نت، تموز 2023). وكان للفئات الاجتماعيّة الأخرى أن تنخرط في هذا المسار التحديثيّ وفي المخاض الدولتيّ الذي بدأ في المنطقة ولا سيّما في سوريّا. ومناط حديثنا عن دور التجّار في رفد هذا المسّار الحداثويّ.
ففي العام 1905، اشترى يوسف بيضون (1927 – 1840)، وهو من أعيان التجار في دمشق وبيروت، ومن صلحائهم، اشتهر في عمل البر والإحسان، كان من كبار تجار حي الصدرانية في البزورية، بيتاً في دمشق حوّله إلى مدرسة للذكور حملت اسم “المدرسة اليوسفية”، وعام 1923، اشترى بيتاً آخر حوّله إلى مدرسة للإناث أخذت اسم “المدرسة المحسنيّة” (وهي مدارس خيرية)، وكان في هذا داعمًا لمشروع السيّد الأمين الإصلاحي، وهذا الدعم استمر رغم هجرته إلى بيروت في العام 1892 ونقله لأعماله إليها، حيث قام بعدد من الأعمال الخيريّة المتميّزة منها إنفاقه على عدد من طلبة العلم في دمشق وبيروت ممن توّلوا فيما بعد مراكز مهمّة (من موسوعة الأسر الدمشقية، أسرة بيضون).
في العام 1905، اشترى يوسف بيضون، وهو من أعيان التجّار في دمشق وبيروت، ومن صلحائهم، واشتهر في عمل البرّ والإحسان، وكان من كبار تجّار حيّ الصدرانيّة في البزوريّة، بيتًا في دمشق حوّله إلى مدرسة للذكور
الابن سرّ أبيه
تابع الابن رشيد يوسف بيضون (1971 – 1887) مسيرة أبيه، فأسّس الجمعيّة الخيريّة العامليّة في صور مع أشقائه محمّد ومحسن. ومن أهمّ أهدافها الاهتمام بالوضع الشيعيّ وتعليم أبناء الطائفة، ومن ثمّ تأسّس فرع لها في بيروت العام 1923 بموجب المرسوم 441، وفي العام 1928 اشترت الجمعيّة منزلًا كان نواة تأسيس مدرسة ابتدائيّة سمّيت “المدرسة الابتدائيّة العامليّة”، بلغ عدد تلاميذها عند افتتاحها في العام 1929 ما يقرب من 300، تخرّجت أوّل دفعة منها العام 1935، وجرى تعميم التجربة في مناطق مختلفة من الجنوب (11 مدرسة) والبقاع (4 مدارس) ومدرسة في كيفون، من طريق تأجير أماكن وتجهيزها كمدارس خاصّة بالطائفة الشيعيّة.
ومن الطرائف التي تُروى، وسجّلتها الصحف، أنّه في ذات يوم، فُقد كّل الأطفال من ساحة الشهداء وساحة البرج وشارع المصارف ودرج خان البيض ومحيط صالات سينما الـ”روكسي” و”أمبير” و”الأوبّرا”، وتمّ اختطاف كلّ ما يسمّونهم “أطفال الشوارع”، من أطفال بائعي العلكة واليانصيب وماسحي الأحذية وبائعي الورد وأكياس الورق من الحفاة والمتسوّلين الفقراء .فدبّ الذعر في نفوس أهاليهم، وبدأت الإتصالات والتبليغات عن فقدانهم تتوالى .وإذ بخاطف الأطفال هو وزير الدفاع الوطنيّ آنذاك رشيد بيضون، وقد أشترى لهم الثياب والأحذية وكلّ ما يلزم ووضعهم في المدرسة العامليّة في رأس النبع التي أسّسها لاستقبالهم وتعليمهم جميعهم على نفقته الخاصة.
ثمّ أتصل بذويهم وقال لهم: “أنا أتكفّل بتعليمهم جميعًا وأدفع مصاريف عيشهم من أكل وملبس وصحّة، وكلّ يوم سبت سأدفع مساعدات للأهل تعادل ما كان يجنونه من عملهم”. وبعد مدّة تخرّج أكثرهم من المدرسة العامليّة بشهادة البكالوريا، وأرسل قسمًا كبيرًا منهم إلى أوروبّا لمتابعة دراساتهم الجامعيّة.
الكلية العامليّة…غيض من فيض
وفي أثر نداءات رشيد بيضون للمغتربين بين عاميّ 1930 و1936، واستجابتهم له بالدعم الماليّ المناسب أسّس الكلّيّة العامليّة العام 1937، حتّى أنّه ذهب بنفسه إلى أفريقيا لجمع التبرّعات في العام 1938. ومن مآثره قوله العام 1940 “إنّ دور العلم أعظم وأسمى من القصّور الشاهقة والبنايات العظيمة، فهذه تُبنى من حجر وطيّن، وتلك تشيّدها المهج والنفوس، وشتّان ما بين الاثنين، هذه تزول معالمها بعد حين، وتلك تبقى خالدة خلود الدهر، تنطُق بفضل المحسنين” (رشيد بيضون، قول وفعل، 1967، ص 35).
ولأنّ همّه كان الشباب العامليّ، فقد أسّس في العام 1947 “جمعيّة الكشّاف العامليّ” وأنشأ “الوقف العامليّ” في العام 1951. وفي العام 1953 أطلق “المستوصف العامليّ”، ذا الصفة الخيريّة، لمعالجة الفقراء، ومن ثمّ أنشأ في العام 1957 “المؤسّسة المهنيّة العامليّة”.
في السياسة: طائفيّة… ولكن
كان من الطبيعيّ أن تجد تلك الأعمال الخيّرة الكثيرة صدى في قلوب الناس، وأن تترجم في انتخابه نائبًا في الندوة النيابيّة عدة مرات بدءًا من العام 1937، وأن يعيّن وزيرًا في حكومات عدّة. وكانت مطالبه في ضرورة إنصاف الشيعة مثار جدل.
وبصفته النيابيّة أوضح موقفه، فقال في تصريح للصحافة في الرابع من كانون الأوّل (ديسّمبر) 1937: “أنا لم أكن في يوم من الأيّام من دعاة التعصّب الذميم والتفرقة بين الطوائف، ولكنّ الكيان اللبنانيّ نفسه مرتكز على أساس الطائفيّة، وإذا طالبت اليوم برفع الحيّف الواقع على طائفتي فلا يعني ذلك أنّي أطالب باتّخاذ الطائفيّة أساسًا لتكوين الوطن، إنّما أطالب وسأظلّ أطالب بهذه الحقوق حتّى تتساوى الطائفة الشيعيّة مع بقيّة الطوائف من حيث الثقافة والعلم والعمران لأنّه من المستحيل إنشاء دولة على أساس متين، إذا لم تكن جميع الأجزاء التي تؤلّف هذه الدولة متجانسة في مختلف نواحي الحياة .وإنّي أتمنّى أن نصل إلى يوم ندين فيه جميعًا بدين واحد ه _و دين القومية الصحيحة، ولأجل تأمين ذلك يجب الاعتناء منذ الآن بجميع الطوائف وفي مقدّمتها الطائفة الشيعيّة” (قول وفعل، ص 23).
ومن الناحية السياسيّة، وفي الوقت الذي لم يكن بعد قد وجد فيه طريقه الخاصّ انضمّ إلى “حزب الوحدة اللبنانيّة” المؤيّد للانتداب الفرنسيّ، والذي أوقف نشاطه تمامًا في العام 1939. وانضمّ بيضون إلى الكتلة الدستوريّة التي أسّسها بشارة الخوري في العام 1937، والتي خاضت معارك ضدّ الفرنسيّين. وأخيرًا، في العام 1945 أسّس وترأّس حزبًا عرف باسم “منظّمة الطلائع” حملت شعار “حياة، حرّيّة، مساواة” وأتت على غرار المنظّمات شبه العسكريّة في لبنان كالكتائب والنجّادة. وشارك بيضون في معركة الاستقلال الوطنيّ في العام 1943، وفي الانتفاضة ضدّ حكم الرئيس كميل شمعون في العام 1958.
مضى قرن وسنة تقريبًا على تجربة الجمعيّة العامليّة الراغبة في خدمة الجماعة العامليّة، ومحاولتها “الدخول في الوطن” أو الكيان اللبنانيّ، ولم يُسعف كثيرًا شعار “الإنصّاف” بين الطوائف الذي حمل لوائه رشيد بيضون في تحسين شرط الجماعة داخل بلاد الأرز، وقد يكون الحل، لكلّ اللبنانيّين، في اعتماد مبدأ التربية على المواطنيّة وتعزيز شرطها، والإقرار بها كرابطة متجاوزة لروابط الدم والعصبيّة والإنتماءات الفرعيّة والجهويّة، والبحث عن سبل إشاعة الوعي بها حقوقًا وواجبات وتذليل العقبات التي تواجهها.