تحت عريشة مكرم غصوب في الفريكة.. إله الريح يراقص أجراس القصب
تحت عريشة مكرم غصوب في الفريكة يختلف المشهد تماماً. هناك على كتف صنين ثمة حكاية مختلفة، تخرج عن الرتابة والممجوج من الكلام، حيث الشعر والأدب والمسرح والفكر والفنون على أنواعها مادة دائمة تسكن المكان وصاحبه. تحت عريشة مكرم حيز صغير لفضاء واسع ورحب. في فيء العريشة تنتصب طاولة خشبية قديمة تزخرفها كلمات خطها مكرم بنفسه، وحولها مقعد خشبي تتوزع على جوانبه كراسٍ من النوع نفسه يكسوها القش. وبينهما فخاريات وأوان وأدوات و “زراريع” تنبت فيها كل أنواع الحبق والورد والحب. هنا ملعب الريح ومسكن الأسئلة، تخرج على هواها. تجول وتحاور ولا تعود كذلك.
تحت عريشة مكرم ينفتح الحوار على مصراعيه يكتنزه الكثير من الجدليات الفلسفية والوجودية والأدبية والشعرية مصحوباً بأنواع عديدة من الشراب والمأكولات البلدية تقدمها والدة مكرم، تضفي جميعها على المكان سحراً خاصاً. تحت عريشة مكرم تشعر أنك خارج الانهيار والجحيم الذي يرزح تحته البلد. تشعر أن عزلة إرادية اختارها مكرم غصوب لنفسه تحت عريشته بعيداً عن الجنون الذي يجتاح البلد وناسه.
ماذا توشوش العريشة؟
نسأل مكرم “هل هي غربة المثقف عن مجتمعه؟ وماذا توشوش العريشة له”؟ يقول “كيف لمن يعتبر العلاقة رحماً للمعاني أن يعتزل العالم؟ تحت العريشة مختبر للعلاقات، بدءاً من العلاقة مع الذات وصولاً إلى العلاقة مع الواجد عبوراً بكلّ العلاقات الوجودية. فتحت العريشة تجد المنحوتات واللوحات الحيّة ترسمها أزهار بألوانها المتنوّعة وأشكالها المختلفة وعطورها المحيية، والأفكار المتفاعلة المتجددة ارتقاءً في المكتبة وبين العقول الزائرة. تسمع سمفونية الموسيقى النيئة التي يعزفها “انليل” إله الريح مراقصاً في “الآن” أجراس القصب والتنك وشجرات الحور متناغماً مع غناء أوبرالي لحسون حرّ أو “قرد حيط” يمتد صوته في الخيال أبعد من الغياب كما تسمع موسيقى بتهوفن وشوبان وفاغنر وليس غيرهم. وطبعاً صوت فيروز وأغاني زكي ناصيف”.
يتناسل الحوار مع مكرم، ما أن تفتح نافذة فيه حتى تفتح نوافذ متعددة. يتطرق إلى الغربة أو إلى الوحدة التي يعيشها المثقف في مجتمعه فيقول “الوحدة أن تكون غريباً في مجتمعك، والغربة أن تكون يتيماً بين أفراد عائلتك واليتم أن تبحث عن المعنى. وأنت بلا معنى”! يشير مكرم إلى الطاولة حيث الجملة التي استوقفتني في كتابه “الطارق” محفورة عليها “لا تخن وحدتك لن تجد أوفى منها” فهي مرتبطة بعبارات من الكتاب ذاته، محفورة أيضاً على الطاولة، “أصعب التحديّات، الصدق مع الذات” ، “لا يؤخذ الحبّ إلاّ بعطائه”، “الغاية هي الوسيلة” وهذه العبارات تظهّر أفكاراً أساسية من مفهومي للعلاقة.
إرث الفريكة
على مقربة من “عريشة مكرم” هناك إرث الفريكة الكبير. متحف أمين الريحاني، مسرح منير بو دبس في ذلك المبنى الأثري، نصب الأخوين نعوم وسلوم مكرزل أعلام الصحافة المهجرية. نسأله “هل يعتبر مكرم غصوب نفسه إبن هذا الإرث”؟ يجيب من خلال الإهداء الذي خصه به الدكتور أمين البرت الريحاني الذي يقول “إلى العزيز مكرم غصوب، قارئ الريحاني قبل الولادة.” يتابع مكرم “هذا الاهداء جعلني أعيد قراءة الريحاني وقراءة علاقتي الزمكانية به وعلاقتنا نحن الاثنين بالفريكة الرائعة الجمال المولّدة للمعاني وأحاول تفسيرها من خلال نظريات فيزيا الكمّ”. ويحسم “أمين الريحاني فيلسوف قراءته حاجة إنسانية”.
يشير غصوب إلى أن علاقة عميقة امتدت من العام 1997 وما زالت مستمرة حتّى بعد رحيله، ربطته بفيلسوف المسرح المخرج منير أبو دبس. ويقول “لم أكن يوماً فيها تلميذاً من تلامذته إنما صديقاً تعلّم منه الكثير لا سيما فنّ التصفية والتجريد وتقنية التجاوز وطبعاً التواضع.
عن الأخوين الصحافيين المهجريين نعوم وسلوم مكرزل يقول مكرم إن مدفنهما يقع قرب منزلي، وهما علمان من أعلام الصحافة المهجرية وكان لهما صولات وجولات في ميادين الفكر والأدب والصحافة. من هذا المنطلق يقول غصوب “نعم أجدني إبن هذا الإرث، إرث الريحاني وجبران وسلّوم مكرزل وخليل سعاده، هذه المفاهيم التي حددّها ووضّحها أنطون سعاده وظهّرها بنظرة جديدة الى الحياة من خلال فلسفته المثالية الواقعية، المبنيّة على الانتماء والتفاعل والتجدد والارتقاء. نعم، أنا امتداد لهذا الانتماء الذي تشكل مع النطّوفيين و”تجوهر” مع الكنعانيين وأحياه أدباء النهضة وبلوره سعاده.
جائحة كورونا
يذهب غصوب عميقاً في تفسيره لجائحة كورونا وتداعياتها وتأثيراتها العميقة فيقول “دائماً ننظر بسلبية إلى الكوارث والأزمات، لكنّ السلبي نصف الإيجابي، ليست الكوارث والأزمات إلاّ ظهور السرطان في جسد المجتمع، هذا الخبيث الذي تخفّى في السائد، غذّته المفاهيم الممسوخة والنزعات الفردية، تفشىّ من خلال العقول المسطحة الجاهلة المدعية وانتشر بسبب ضعف المناعة المعرفية الأخلاقية القيمية.
لا أخفي بأن جائحة كورونا زادت قلقي الوجودي قلقاً لكنها أيضاً زادت أسئلتي أسئلة وخيالي خيالاً. يقول غصوب “كتبت مع بداية انتشار الفيروس في لبنان هذا النص:
“كيف تعرف إن كنت مصاباً بالكورونا: خذ نفساً عميقاً واحبسه في صدرك لمدة … “وقبل أن أكمل قاطعتني الشجرة التي حاولت أن أقرأ لها الارشادات التي وصلتني عبر الواتساب، وقالت لي:
خذ نفساً عميقاً فالأرض ما زالت تدور والشمس ما زالت تشرق أما أنتم فتوقفتم عن دورانكم العبثي حين شعرتم أن الموت الذي يحاصركم منذ الولادة بات قريباً منكم. لذلك خذّ نفساً عميقاً وأعد التفكير بعلاقتك بالحياة والوجود أيّها الكائن البشري الذي ومنذ الأنانية لم يتقدم خطوة واحدة نحو الانسانية. أعد التفكير بلهاثك وراء أهداف ومصالح دنيا. أعد التفكير بتديّنك الأعمى وإلحادك غير المسؤول وبعقلك المسطّح. أعد التفكير بالحبّ والمعاني السامية التي مسختها. خذ نفساً عميقاً وفكّر بنظام اجتماعي يسعى بصدق إلى الانسانية. نظام تكون فيه الـ”نحن هي الـ” أنا”. هي” الانسان”. خذ نفساً عميقاً وفكّر بحبّ علّه يأتي يوم تتنفس فيه مثلي بلا رئتين…”
الحياة قوس قزح بألوان الرغبات
الابتعاد عن الأزمات والتجول بين منشورات غصوب يقودنا إلى “الطارق” حيث يقول “فالحياة قوس قزح بألوان الرغبات” وعنه يشرح مكرم ” “الطارق” مصارحة ومصالحة مع الحياة تخلص إلى نظرة جديدة إليها سميّتها “الإله الزمكاني”. وكما ورد في فهرست الكتاب المكوّن من ثلاثة اناشيد تتلخص بـ “الحياة خيانة إله من إله زمكاني”. نعم هي قوس قزح بألوان الرغبات، إن عبرناه تحوّلنا وإن تحوّلنا عبرناه!”
” كتاباتي مخبأ أسراري” هذا ما قاله مكرم غصوب عن مشاريعه المستقبلية في النشر متابعاً “بصدد وضع اللمسات الأخيرة على كتابين من ضمن مشروع، الأول بعنوان “قالوا لي” (وجوه وجودية) وهو الجزء الأخير من الثلاثية المكونة، بالإضافة إليه، من “نشيد العدم” (تداعيات وجودية) و”الطارق” (دوائر وجودية).
الوجوه الوجودية المحسوسة وغير المحسوسة التي اعترفت لي بمكنونها رأيتها من بعدين آخرين ليصبح لكلّ وجه ثلاث وجوه بدءاً من الخيال صعوداً إلى الإله ونحو السؤال الذي يعيدني بدوره إلى الخيال مروراً بوجوه عديدة كلّ وجه منها يدلّني إلى وجه آخر مشكّلين “نجمة كنعان” حيث يتحوّل البشري فيها إلى إله زمكانه بالسؤال رحم المعرفة المسؤولة وبالخيال رحم الخلق المتجدد، وراسمة شجرة المعرفة التي قالت لي: “من منكم بلا حجر، فليرجمني بالخطيئة.”
كتاب قالوا لي- وجوه وجودية يطرح مفهوم العلاقة بعد هدمه كلّ الموروثات العمياء والأوهام المؤسسة لعلاقات البشري مع ذاته والارض والطبيعة والآخر المجتمع والسؤال الشكّ والوجود وبالتالي مع “الله” ليعيد تنظيمها بصدق مصفّى ودهشة متجددة بالحبّ، كما يعالج مفهوم الحريّة الناتجة عن تلك العلاقات بجعلها حرّية ملتزمة لقيم الحقّ والخير والجمال، حرّية تحررنا من سجن جناحيها.
تحت العريشة
أما الكتاب الثاني فعنوانه “تحت العريشة” وهو عبارة عن حكايات بالمحكية، كتبتها بأسلوب قريب من الفصحى، علّه يقرّب بين الفصحى والقارئ. في هذه الحكايات سيرتي الذاتية أسردها من خلال علاقتي بأمّي وأبي والطبيعة في قريتي وألعاب الطفولة. في هذه الحكايات أظهّر كلّ أفكاري الفلسفية.
تحت العريشة وعلى كتف صنين. ماذا يضيف المكان إلى الكاتب؟ وهل غصوب أسير ذلك المكان؟ يقول “هذه الغرفة المفتوحة على الجنّة سكنها جدّي منذ أكثر من مئة عام ومن بعده أبي وها أنا اليوم أسكن الحلم الذي سكنني، بعد أن حولتها الى مكتبة فيها آلاف الكتب وحديقة تتنفس عيناك فيها الألوان، أذناك الموسيقى ورئتاك العطور. علاقتي بهذا المكان علاقة مدرحية، أحياناً أكون روحه وأحياناً يكون روحي، وأحياناً أحيا فيه أزمنة عديدة في آن، وأحياناً أشعر أنني في كلّ الأمكنة وفي اللامكان”. يختم غصوب “أعظم الأمكنة تلك التي تحررك حين تأسرك”.