تحضرني أصفهان وشيراز بحثاً في حطام الضاحية الجنوبيّة

بعد يومين من وضع الحرب أوزارها توجّهتُ إلى ضاحية بيروت الجنوبيّة وفي البال جملة من التوقّعات حيال التداعيات الذهنيّة التي سوف يثيرها مشهد الركام في ذهني: الفرار من الموت، التهجير والتشرّد، الجراح، الأشلاء، الدماء فالموت.

بيد أنّ سَيْري بين حطام الضاحية بيّن لي أنّ للحطام طرقه الخاصّة في دفع التداعيات داخل الأذهان. عملتُ جاهدًا على ألّا أبدّد نظراتي عن الأبنية المتهالكة وتلك التي ما زالت تنبض ببقيّة حياة، فأنا لدى توجّهي إلى الضاحية كنت مسكونًا بفكرة واحدة: ترك مشهد الحطام يستولي على نظراتي إلى أقصى الحدود.

خمّنتُ للحظات أنّ الكلمات قد تخون الفكرة إزاء مقاربة الحطام وتردّدتُ كثيرًا حيال الكتابة، لأجد نفسي بعد أقلّ من ساعة من المشي البطيء محلّ تشتّت بين ضاحية الحرب والخراب هذه، ومدن زرتها في الخوالي من الأيّام. لم يطالعني ركام الضاحية بما توقّعته من تداعيات، بل طالعني هذا الركام بجملة من المدن أثناء ترحالي بين المطارات، وهو ما لم يكن على الإطلاق في الحسبان: القاهرة، برشلونة، القيروان، إسطنبول، لارنكا، دمشق وإلى آخره من مدن، ليتشتّت ذهني بنهاية الأمر بين الضاحية ومدينتين هما: أصفهان وشيراز.

بين شيراز وأصفهان

ليس من الضروريّ أن ترتبط الكتابة بالمشهد المرئيّ، ذلك أنّ للعواطف والانفعالات والذكريات، دورها الفعّال في هذا السياق. استقرّ أمام ناظريّ أثناء تجوالي في ضاحية الغبار، ذلك البازار المسقوف الرائع، والذي يعجّ بالبشر من عدّة جنسيّات، فضلًا عن الإيرانيّين في مدينة شيراز. ثمّ رأيت إليّ وأنا أجوب ضاحية الأبنية المائلة، والشجر المحروق، وقد صرت محلّ استحواذ من قِبل الإخضرار الهائل لمدينة أصفهان، كما شاهدته، لمّا زرت تلك المدينة، وجبت في شوارعها وساحاتها، لأيّام وأيّام، من الصباح الباكر إلى ما بعد منتصف الليل.

غاب عن ذهني للحظات أنّ أصفهان وشيراز، تقعان في الجمهوريّة الإسلاميّة في إيران، ولمّا استعدتُ هذه الحقيقة، تيقّنتُ خبث هذا التداعي المنطقيّ جدًّا، بين الضاحية المحطّمة وكلّ من تلك المدينتين الرائعتيّ الجمال.

إنّ الذكريات هي في بعض وجوهها فرضيّات، إنّما مقارنة مشهد تبثّه الذاكرة في لحظة بعينها بمشهد ماثل أمام العين، يحوّل الذكريات عن أن تكون فرضيّات لتصير – هذه الذكريات – نغصة، حسرة وألم، يحفر في القلب عميقًا مع التمنّي بطبيعة الحال أن يحفظ الله تلك المدينتين الأنيستين الرائعتيّ الجمال.

ميدان الخمينيّ

وصلتُ إلى أصفهان ليلًا، وعند الصباح وعقب خروجي من الفندق، سألتُ إحدى الفتيات عن التقاطع الذي عليّ الانتقال عبره في سيّارة التاكسي، إلى الساحة الأكبر في أصفهان والمعروفة بـ “ميدان الخمينيّ”. بادرتني الفتاة بابتسامة لطيفة، ثمّ بلكنتها الإنكليزيّة الجميلة أرشدتني إلى المكان، لتردف وقد علت الابتسامة وجهها أكثر، وبلهجة تراوح بين الجدّ والمزاح، أنّه عليّ ألّا أقول لسائق التاكسي “ميدان الخمينيّ”، لأنّه عندها قد لا يقلّني، لتزوّدني بعدها بالاسم القديم لتلك الساحة، قبل وصول الملالي إلى الحكم في إيران.

أثناء سيري في الضاحية بين الخراب والـ “شحار” اشتدّ وتر هذه الذكرى في ذهني إلى حدّ كبير وفكّرتُ: ربّما تجنّب أهل أصفهان لاسم الخميني (سيّد أسماء الضاحية الجنوبيّة لمدينة بيروت) يستبطن رغبة أهل مدينة أصفهان ألّا تكون مدينتهم مجرّد حطام وركام؟! لست أدري، قلت لنفسي وأكملتُ سيري في الضاحية متحرّيًا حرقة قلوب أهلها عبر كلّ هذا الحطام والخراب والركام.

أثناء سيري في الضاحية بين الخراب والـ “شحار” اشتدّ وتر هذه الذكرى في ذهني إلى حدّ كبير وفكّرتُ: ربّما تجنّب أهل أصفهان لاسم الخميني (سيّد أسماء الضاحية الجنوبيّة لمدينة بيروت) يستبطن رغبة أهل مدينة أصفهان ألّا تكون مدينتهم مجرّد حطام وركام؟!

انصرفتُ بذهني عن أصفهان، وعدتُ بكلّي إلى الضاحية، على وقع مجموعة من الأشخاص، وقد اشتبكوا في جدال أمام أحد الأبنية في منطقة الطيّونة… جدال يتراوح بين البكاء، ومحاولات كفكفة الدموع، ولسع الأكفّ بعضها ببعض. ليس من السهل أن يشهد المرء بأمّ العين، أناسًا يفاوضون زحام موتهم بلهج الصوت، وكبت الدموع، وجمرات القلوب أمام بيوتهم المحطّمة، فإذا بي وبلحظات أجد نفسي في الباحة الخارجيّة المزدانة بدائرة من الورود في الفندق، الذي أقمت فيه عندما كنت في شيراز.

موسيقى شيراز وصراخ الضاحية

اتّخذتُ مكاني عند طاولة حافلة بأصناف من أطايب الطعام، وقد تشاركت تلك الطاولة مع سائحة من صربيا، وشابّ عراقيّ، فضلًا عن عجوزين لست أدري من أيّ بلد هما. كان المشهد بغاية الحميميّة والأُنس، وقد زيّن هذا المشهد صوت فتاة تتشارك وشاب الغناء، وثمة آلات وتريّة ضخمة، رسمتْ أنغامها ملامح الفرح فوق وجوه كلّ المدعوّين إلى ذلك الغداء.

نفثتُ دخان التنباك العجميّ، ورحت أرتشف الشايّ من الكوب الأنيق، لأعود بعدها إلى الطيّونة على وقع صوت امرأة تصرخ وتقول: “شو كان بدنا بكلّ هل خراب يا الله”، وبقربها رجل يحاول جاهدًا عبر حبس الدموع تهدئة روع “الحجّة” التي كانت عند حافة نفاذ الأعصاب.

لست أدري أين مرّتْ معي العبارة الآتية: مَنْ ليس له جذور في مكان ما، لن تنبت له أجنحة البتّة.

أنهيتُ جولتي في الضاحية الجنوبيّة، وشيراز وأصفهان، وأنا أداور العبارة أعلاه في ذهني، وقد استيقظ في قلبي أمل، ألّا يكون أهل الضاحية وبعلبك والبقاع والجنوب، مغبّة حرب في التالي من السنين، ذلك أنّ لهؤلاء الحقّ في أن يحلّقوا عاليًا عبر أجنحة تستمدّ قدرتها على التحليق، ليس من الركام والأبنية المهدّمة ووهم الانتصارات، إنّما من طمأنينة العيش، والركون إلى جذور السكينة والهدوء، وغبطة الإنصات إلى صوت يغنّي عن الحبّ، مثلما شاهدت الأمر في مدينة شيراز.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى