تداخلات اجتماعيّة وطبقيّة…قراءة في دفتر النزوح

أنتج النزوح فجأة وفي يوم واحد أكبر عمليّة تداخل طبقي، اجتماعي، نفسي، ثقافي، عقائدي، بعد أن أُجبِرَت العائلات على الاحتشاد في أماكن محصورة، في بيت صغير، صفّ مدرسة، غرفة في فندق، محلّ مهجور، ساحة مسجد، أو مقرّ مبيت الرهبان في دير ما. حقل موحَّد بمسار إجباريّ، فرضته الحرب، فكان النزوح نحو أي بقعة آمنة، من دون شروط أو خضوع لسلطان المزاج، فهنا ترتبط المسألة بالروح، وغريزة البقاء.

وضع يستحق الدراسة الأكاديميّة والإحصائيّة، كونة يُعَد مختبراً ضخماً لإمكانية التفاعل، والتعامل مع المتغيّرات المفروضة، بعد أن كانت مفترضة. فالنموذج الاجتماعي الذي أفرزته مستجداتنا الحياتيّة والتقنيّة والترفيهيّة، جعلَت الانسان كائناً مستغرقاً في فردانيته، بانياً لنظام حياتي مستقل، ومحمي من تدخلات الآخرين في مجاله الفردي الخاص.

هاتف ونرجيلة

بعد أن حطّت العائلات رحالها، والتقطت أنفاسها، بدأت الخطوات الضروريّة ذات البعد اللوجستي، بتأمين الفرش والوسادات ووسائل الطهي وربط الحبال بين مكانين، كي يتم نشر الثياب عليها، حتى غدت تلك الحبال علامة من علامات النزوح والتهجير، خصوصاً بالنسبة للعائلات التي تضمّ أطفالاً ورضّعاً.

الشبابيك تحوّلت إلى حبال نشر الغسيل في مراكز إيواء النازحين

للنزوح علامات سيميائية بصريّة تتذخّر وتتكرّر، على الرغم من السنوات المتباعدة بين مناسبات التهجير، يتلخَّص معظمها بما يحتويه صندوق الإعاشة من زيت وأرزّ ومعكرونة وعدس وسكَّر وشاي ومعلّبات تونة وسردين ومرتديلا وفول وربّ البندورة. ويضاف إلى تلك اللائحة مستجدات عصريّة تنتمي إلى عائلة المنبّهات، كالنسكافيه والكوباتشينو والكاكاو. ولا ننسى النرجيلة التي تحوّلت إلى إدمان عند كثيرين، فاصطحبها النازح معه كامتداد طبيعي و”ضروريّ” ليوميّاته وروتين حياته. ضرورة الهواتف التي تجاوزت صفاتها كترف لتكون خير مصدر للأخبار العاجلة، والاطمئنان على الأقارب، والانتباه للتحذيرات التي يطلقها العدو أحياناً، قبيل استهدافاته للأبنية والصروح.

تداخل طبقي

بطبيعة الحال تجبرنا الأزمات على لجم طباعنا ويومياتنا التي اعتدناها حتى أضحت طقوساً. ولأننا نمارس تلك الطقوس في فضاءاتنا الخاصة، كالبيت والعمل، لم نشعر ليوم واحد أننا بحاجة إلى تبريرها أو تفسيرها. لكن الواقع يفرض علينا قوانينه، فنختبر أصغر التفاصيل المشتركة مع الآخرين، ولو كانوا أشقاءنا أو أقاربنا أو جيران مسكننا.

في طابور الانتظار، في إحدى متاجر منطقة الحمرا، رصدنا حديثاً بين نازحتين. فحواه أنهما اختارتا نوعاً من الجبن الأبيض لإطعام أولادهما وجبة فطور، لكن الثانية خرجت من الطابور قائلة: “سوف أشتري جبنة قشقوان على نفقتي الخاصّة. لقد اعتادها أولادي”.

بعض الأطعمة ترميز مكثّف لأحوال النزوح

صاغت مقولتها تلك بنبرة اعتذار، لأنها كانت تحتاج إلى مبرّر لابتياع النوع الأغلى ثمناً من الجبن، وهي لا تريد أن تكسر الاتفاقية مع شركاء السكن، إذ تتّفق الأمهات على وجبات النهار، ثم يتناقشن كثيراً حول طريقة التحضير، على اعتبار أن لكل سيّدة طريقتها، وفي حالات معيّنة قد يمنع الشخص عن تناول وجبة، في حال تضمنت مكوناً جديداً، أو المبالغة في كمّية مكوّن على حساب آخر.

تحضير القهوة أبسط مثال، إذ لاحظ حسن ح. أنّ القهوة التي قدِّمَت له مشغولة بالهال، فاحتسى فنجانه على مضض، عازماً على شراء البنّ في اليوم التالي، دون أية إضافات. وهنا نلتفت إلى أن تعبير “نازح” لا يعني أن حامل الصفة فقير بالضرورة، ولذلك نلاحظ أنّ قسماً لا بأس به من النازحين ينفقون بسخاء على شراء الحاجيّات، لأهميتها، وكذلك لإثبات أنّ النزوح لم يقهرهم على أنماط عيش لا يريدونها، فيبالغون في تحصين وترميم صورهم عن ذواتهم.

قيادات ميدانيّة

في تلك التجمّعات يفرز الميدان قادة مرحليّين على حسب المكان والمجال، فيرضى الشركاء بما يقرّره صاحب الكاريزما أو الاختصاص، الذي يبادر وينفّذ، أو يسارع إلى التنفيذ والإصلاح وشراء الطلبيّات اليوميّة. كذلك يفرز المكان قادته في التجمعات النسائية، فتأخذ إحداهنّ مركزها القيادي المحرّك فتوزّع المهام وتقسّم الأشغال، بل ترسي نظاماً خاصّاً على البيت، في ما يتعلّق باختيارات قنوات المشاهدة وساعات النوم، ولجم أصوات الأطفال وألعابهم. وغالباً ما يتم تفويض تلك الشخصيّة للتواصل مع الإدارات المحليّة والجمعيّات، لتنسيق الحاجات والطلبات.

يفرز المكان قادته في التجمعات النسائية، فتأخذ إحداهنّ مركزها القيادي المحرّك فتوزّع المهام وتقسّم الأشغال، بل ترسي نظاماً خاصّاً على البيت، في ما يتعلّق باختيارات قنوات المشاهدة وساعات النوم

تحوّلات أسريّة

عن تجربتها مع النزوح، والسكن في بيت مع العائلة بشكل إجباري، قالت ر. سلهب: “أمي وبيي تصالحو، وصارو يحكو مع بعض من بعد خصام دام سنتين. صرنا 12 شخصاً بغرفة ومطبخ وحمّام، عم نفوت عليه بالدور، ورا بعض، وكل خمس دقايق بيتعاركو ولاد إختي مع بعضن”. بينما كتبت م. عيّاد: “أمي وبيي قعدوا مع بعض من بعد 11 سنة  انفصال”.

في تلك الأماكن قد ينحشر الاضداد تحت سقف واحد، مثل أم وأب مطلَّقين، فيجبرا على التواصل، والتعاون. وفي حالات تظهر الخلافات بشكل حاد بين زوجين اعتادا روتيناً مبنيّاً على انشغال رب الأسرة طيلة النهار في العمل، بينما الآن هو حاضر ليتدخّل في كل شاردة وواردة، ما يولّد خلافات فعليّة أجبرت بعضهم على جمع أغراضهم وثيابهم في حقائب بغية المغادرة والتهديد بتغيير السكن، لكنه مخرَج غير متاح لعدم توافر الفرص بسكن آخر، لذلك يبقى التهديد تلويحاً من دون تنفيذ، ثم يصبح الأمر طريفاً، مولّداً للّحظات المشوّقة، كنوع من أنواع التحايل على الوقت، فالانتظار عدوّ قائم بذاته في حالة النزوح.

غسيل على الطاقة

“غسلت على غسالة عادية، ومن هذا المنبر أعتذر من غسالتي الأوتوماتيك اللي كنت إتخلّق عليها”. كتبت سارة الكيّال، التي تعرف أنها محظوظة بتوافر هكذا غسّالة، لأن معظم النازحين يعتمود الأوعية البلاستيكية والدِلاء أو أحواض المغاسل لتكون أجران غسيل يُدعَك يدويّاَ، بينما يعتمد النازح على أي شيء قابل لنشر الثياب مثل حواف النوافذ ودرابزون الشرفات، أو “قضبان الحديد الحاملة لألواح الطاقة” كما تخبر سمر ن. “مناطق نت” التي استقرّ بها النزوح في غرفة على سطح مبنى في رأس بيروت.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى