تداعيات الحرب تشلّ السياحة على الحاصباني والضرر يطال الجميع
لا يشبه صيف الحاصباني هذا العام، صيف العام الماضي سوى بدرجات الحرارة المرتفعة التي حلّت قبل أوانها. الحرب التي اندلعت على مقربة من هنا بدّدت المشهد، وأحالته إلى مشهد صامت وهادئ، إلّا من أصوات القذائف المتأتيّة من بعيد ويُسمع صداها هنا على ضفاف النهر.
كان الضجيج الصيف الماضي هو السائد هنا على الحاصباني، لكنّه كان ضجيج الموسيقى والغناء و”قرقعة” الصحون وأصوات السيّاح التي شكّلت منطقة حاصبيّا ونهر الحاصباني تحديدًا، وجهة لهم، فالمطاعم المنتشرة على ضفتي النهر، هي مصدر عيش لحوالي 100 عائلة ممّن يمتلكون منتجعات ومرافق حيويّة، توقّفت جميعها بسبب الحرب الدائرة على الحدود.
ليست المرّة الأولى الّتي تدفع فيها منطقة حاصبيّا ثمن الاعتداءات الإسرائيليّة، فهي اعتادت ذلك منذ العام 1969 مرورًا باجتياحيّ العام 1978 ومن ثم 1982 وصولًا إلى حروب 1993 و1996 وحرب تموز العام 2006، وحتّى الآن مع ما يجري من حرب حقيقيّة تستمرّ منذ الثامن من تشرين الأول/أكتوبر 2023.
أدّت المواجهات المندلعة منذ ثمانية أشهر، إلى زعزعة الأمن في تلك المناطق، وبالتالي تعطّل الحركة الاقتصاديّة ومنها السياحيّة، ما أبعد السيّاح عن زيارة منطقة حاصبيّا بكلّ معالمها ومنها نهر الحاصباني الذي تشكّل الحركة السياحيّة عليه، جزءًا مهمًّا من الاقتصاد المحلّيّ. وقد أدّت الأوضاع الصعبة إلى تعطُّل كلّ المرافق السياحيّة الحيويّة وخسارة أصحابها، فمنهم من أغلق أبوابه كلّيًّا، ومنهم من يداوم على فتحها بشكل جزئي، لكن من دون نتيجة.
يشكّل الحاصباني وجهة مهمًّة للسيّاح بقصد التّرفيه والاستجمام، والسبب في ذلك يعود لتميّزه بطبيعة خلّابة، وتوافر المطاعم والمنتجعات السياحيّة على ضفافه، والتي تعتبر العامل الأوّل لهذا الجذب، بالإضافة إلى وجود نحو 40 مسبحًا خاصًّا على طول النّهر، فضلًا عن الأراضي الزراعيّة التي تبلغ مساحتها قرابة 1500 دونم وتُروى من مياه النهر، ويتمّ تصريف منتوجاتها إلى جميع الأسواق اللبنانيّة.
تراجع بنسبة 95 بالمئة
يقارن رئيس بلديّة حاصبيّا لبيب الحمرا النشاط السياحيّ في حاصبيّا بين هذا العام والسنوات الماضية، فيقول لـ”مناطق نت”: “في العام الماضي، كانت العائلات تحجز أماكنها في المنتجعات قبل أشهر من افتتاح الموسم وذلك بين شهريّ شباط وآذار حتّى فصل الصيف، بينما هذا العام لم تتخطَ الحجوزات نسبة الـ10 بالمئة”.
ويضيف الحمرا: “يسيطر الخوف والحيرة على أصحاب المطاعم والمنتجعات السياحيّة هنا، وهم اليوم بين خيارين: إمّا فتح أبواب مؤسّساتهم تحت الخطر ومهما كانت الكلفة، أو التّأنّي إلى حين تحسّن الأوضاع الأمنيّة، بدلًا من تكبّد خسائر مادّيّة كارثيّة نتيجة غياب السّياح والزّبائن”.
من جهته يعبّر صاحب متنزّه “البحصاصة” على الحاصباني ماجد الحمرا، عن قلقه التّام إزاء الوضع هذا الصيف، ويؤكّد لـ”مناطق نت” أنَّ الحركة السياحيّة تأثّرت بنسبة 95 بالمئة جرّاء الحرب، ويقول: “اليوم هو نهار الأحد، وفي مثل هذه الأيّام كان يكتظُّ المطعم بالزبائن، حيث لا يمكن أن تجد طاولة شاغرة، أمّا اليوم فهناك 12 زبونًا في منتجع سياحيّ كبير مثل هذا. الوضع صعب جدًّا”.
تعتمد معظم المرافق السياحيّة في الحاصباني بشكل أساس على زبائن من مختلف المناطق اللبنانيّة، لا سيّما بيروت، البقاع، الشمال والقرى الحدوديّة، ولكنّهم اليوم يتجنّبون المجيء إلى أماكن “خطرة” مثل منطقة حاصبيّا، ويؤثرون البقاء في مناطقهم الآمنة. وفي هذا الصّدد يشير الحمرا إلى “أنّ أعداد الزّبائن الّذين يتوافدون إلى المنتجع حاليًّا، يشكّلون 5 بالمئة مقارنة بالسنوات الماضية، علمًا أنَّ حوالي 90 بالمئة منهم من المغتربين والسّكان الوافدين من خارج المنطقة”.
شاليهات فارغة!
يشكو أنور أبو غيدا وهو أحد مالكي شاليهات ومسابح على ضفاف نهر الحاصباني، في حديث مع “مناطق نت” من التّراجع الكبير للحركة السياحيّة في المنطقة، “بحيث بلغ هذا التراجع نسبة 95 بالمئة، إذ لم يحجز أحد في أي من الشاليهات التي أملكها حتّى الآن، مع العلم أنه عادة في هذا الوقت من كل عام، يبدأ الناس بالحجز لفصل الصّيف بكامله”.
يشير أبو غيدا إلى أنّ حوالي 300 عائلة كانت تحجز في الشاليهات والمنتجع الخاص به، “بالإضافة إلى توافد مئات الأشخاص إلى المسبح، لكن الوضع الحالي سيّء للغاية، فالاعتماد كان على الزبائن من خارج منطقة حاصبيّا وهؤلاء كانوا يشكّلون نحو 90 بالمئة من مجموع الزبائن، ومعظمهم كان يأتي من المناطق التي تشهد حربًا وتهجيرًا حاليًّا”.
تعتمد معظم المرافق السياحيّة في الحاصباني بشكل أساس على زبائن من مختلف المناطق اللبنانيّة، لا سيّما بيروت، البقاع، الشمال والقرى الحدوديّة، ولكنّهم اليوم يتجنّبون المجيء إلى أماكن “خطرة” مثل منطقة حاصبيّا
يعرب أبو غيدا عن قلقه إزاء الموسم هذا العام، متخوّفًا من “احتمالية تكبّد خسائر ماليّة باهظة، خصوصًا أنّ كلّ هذه المؤسسات تدفع من رصيدها كلفًا تشغيليّة مثل الصّيانة والاهتمام بالنباتات وأجور العمّال وغيرها، ممّا يزيد من إجماليّ الخسائر إلى مبلغ قد يزيد على 1000 دولار شهريًّا “.
الضرر يطال المشاريع الصّغيرة
على الرغم من أنّ المطاعم والمنتجعات السياحيّة الكبرى تستحوذ على النسبة الكبرى من الحركة السياحيّة في حاصبيّا، إلّا أنَّ المشاريع الصّغيرة والمؤسّسات التجاريّة الأخرى كأصحاب الحرف والمهن الحرّة والمزارعين، تساهم تلقائيًّا في الدّورة الاقتصاديّة، خصوصًا أنّها توفّر المواد الأوّليّة اللّازمة لتشغيل تلك المرافق السياحيّة، مثل المؤونة البلدية، الخضار، الفواكه، الصناعات وغيرها، وبالتّالي، عندما تنخفض نسبة السيّاح في هذه المرافق، تتأثّر مبيعات أصحاب المهن الرديفة بشكل مباشر.
توضح أمل خير الدين وهي صاحبة أحد متاجر المؤونة البلديّة في حاصبيّا، لـ”مناطق نت”، أنَّ حركة البيع “انخفضت بنسبة 75 بالمئة، بعدما كانت تعوّل على الحركة في المنتجعات والمطاعم، إضافة إلى السّياح الّذين يتوافدون لزيارة الأماكن السياحيّة في المنطقة، ويتسوّقون من محالها، خصوصًا أنّها توفّر منتجات من خيرات حاصبيّا”.
وتضيف أمل: “أجبرتني الحرب على تحمّل خسائر باهظة بسبب تراجع نسبة المبيعات، في حين أنا ملزمة بتغطية نفقات معيّنة مثل إيجار المبنى والعمّال والكهرباء والمعدّات وغيرها. الوضع الاقتصاديّ يؤثرّ فينا جميعًا، خصوصًا العمال، فأنا مثلًا لم يعد بمقدوري أن أوظّف عمّالًا كما كنت أفعل في السّابق، فقد كنت بحاجة للعمال كي يساعدوني في عمليّة تحضير المؤونة البلديّة، ولكن اليوم ليس هنالك من بيع وبالتالي لا تحضير لمؤونة جديدة ولا حاجة للعمّال”.
بدورها تقول دلال، وهي أيضًا صاحبة محلّ كبير لبيع الخضار والفواكه في حاصبيّا، إنّها كانت قبل الحرب تبيع كمّيات ضخمة إلى معظم المطاعم في حاصبيّا، “إنّ هذا الصّيف غير طبيعي ونسبة المبيعات انخفضت بنسبة تفوق الـ50 بالمئة”.
الحاصباني قبل الحرب
ازدهر نهر الحاصباني خلال السّنوات الماضية، ممّا جعله مقصدًا لمعظم أهالي المنطقة إضافة إلى الوافدين من مختلف الأراضي اللّبنانيّة، الأمر الّذي دفع بلدية حاصبيّا لتصنيفه منطقة سياحيّة بامتياز اعتبارًا من العام 2016، بهدف حمايته من التّلوث البيئيّ. وفي هذا الإطار، يقول لبيب الحمرا: “إنَّ هذا التّصنيف يحظر القطاع الصناعيّ ويخصّص نسبة صغيرة جدًّا للمباني السكنيّة، أيّ 5 بالمئة فقط من مساحة الأرض، ما أدّى إلى نشوء المطاعم والمسابح على ضفاف نهر الحاصباني لاستقطاب السّياح”.
ومن بين المشاريع الّتي نفّذتها البلدية بهدف تعزيز السياحة عند الحاصباني، مشروع تنقية مياه النهر من الصرف الصحّيّ، والذي بلغت كلفته نحو 400 ألف دولار أمريكي.
إضافة إلى السياحة على الحاصباني، تتميّز منطقة حاصبيّا بالسياحة الدينيّة أيضًا، ومن أشهر معالمها “دير صيدنايا” وخلوات البيّاضة، إضافة إلى جامع أثري تمّ بناؤه في العام 1267، والمعبد الرومانيّ في الهبّاريّة. كل هذه الأماكن كانت تستقبل آلاف الزوّار سنويًّا.
أيضًا تشتهر حاصبيّا بالأماكن الأثريّة، مثل السراي الشهابيّة وسوق الخان، وبالمهرجانات الّتي تُقام سنويًّا وتستقطب آلاف الزوّار، لكنّ هذه الفعاليّات السياحيّة لم تعد ممكنة هذا العام بسبب الأوضاع الأمنيّة.
إجحاف وإهمال
من المشاكل التي يواجهها أصحاب المرافق السياحيّة أيضًا، صعوبة دخول الأجانب إلى الجنوب باعتبارها “منطقة أمنيّة”، إذ لا يُسمح للأجانب بعبور حاجز الجيش اللبناني عند “مدخل الجنوب” من دون أذونات مسبقة وإجراءات أمنيّة، الأمر الّذي يُصعّب على حاصبيّا استقطاب السيّاح.
وفي هذا الإطار يشدّد المعنيّون بالقطاع السياحيّ في حاصبيّا على وجوب أن يكون هناك حواجز خاصّة للسيّاح الذين يقصدونهم أو على الأقل يجب تمييزهم عن بقيّة الأجانب. ويطالبون بإعادة دراسة القرار من قبل السلطات المعنيّة فور هدوء الأمور، لأنَّ لهذه المنطقة الحقّ الكامل مثلها مثل بقيّة المناطق، بأن تستقبل السيّاح الأجانب وتستفيد منهم كونها منطقة سياحيّة.
“يُنشر هذا التقرير/التحقيق/ التحقيق المصوّر بالتعاون مع المنظمة الدولية للتقرير عن الديمقراطية DRI، ضمن مشروع الأصوات المستقلّة: دعم صناعة المحتوى المبتكر والمتمحور حول المواطنين والمواطنات في الإعلام اللبناني“.