تدمير القرى وتجريفها ضرب الذاكرة الجماعية للجنوبيين

بات من المعلوم أنّ إسرائيل تعتمد في حربها على لبنان سياسة الأرض المحروقة والتدمير المُمنهج، ليس فقط لبلدات الحافّة الأماميّة التي بات من المتعذّر معرفتها بعدما دُمّر كلّ حجر فيها، بل معظم بلدات وقرى الجنوب التي لم تستثنِ الغارات الوحشيّة الإسرائيليّة أيّ واحدة منها.

هكذا، دُمّرت الشوارع، وهُدمت المنازل، وجرى تفخيخ الأحياء وتفجيرها وتجريفها، وتحوّل كلّ شيء إلى كُتل من الركام المتناثر، حتّى المقابر لم تسلم من عمليات الجرف المتواصلة. وكأنّ الحرب الإسرائيليّة ليست مع البشر فحسب، بل مع الإرث الاجتماعيّ والثقافيّ الذي تُمثله تلك المنطقة لأبنائها.

ولم يكن مفاجئًا أن يعمد الإحتلال الإسرائيليّ إلى تصوير مشاهد التدمير، بصور جوّيّة عالية الجودة، لإبراز حجم الدمار والخراب الهائل الذي أصاب الجنوب. فقد أراد أن يقول لأهالي هذه المنطقة إنّ البلدات- بكلّ ما فيها من أماكن تحمل مكانة مميّزة كساحة البلدة ورموز دينيّة من جوامع وكنائس وغيرها من المعالم التي حُفرت في وجدان الذاكرة الجمَعيّة لأبناء القرى- قد جرى محوها ودُمّرت القيمة الاجتماعيّة والتاريخيّة التي تحملها مع دلالاتها.

تشكّل حواويز المياه في الجنوب، جزءًا مهمًا من هوية البلدات.  الصورة تعود للدمار حول حاووز المياه في بلدة الجبين وقد التقطت في بداية الحرب العام 2023

هذا ما حصل عندما تمّ تدمير قلب النبطية وسوقها التجارية، إذ رثى أبناء المدينة أوّل ما رثوه، وبكلمات مؤثّرة ذاكرتهم التي سُحقت تحت الركام، ومن خلال ذلك يحاولون بعث النبطية من جديد، تجلّى ذلك من خلال نصوص كثيرة تصف تفاصيل السوق والذكريات، كما كتبت بادية فحص، ويتجلّى ذلك أيضًا من خلال رسوم الفنان الطبيب مصطفى جرادي الذي أعاد رسم سوق الاثنين التاريخية، وكأنه يعيد بالريشة بناء ما تهدّم، لذلك يتعدّى ما تقوم به إسرائيل كونه تدميرًا اقتصاديًا فحسب، بل هو محاولة لمحو ذاكرة المدينة وارثها الثقافي والاجتماعي.

هذا الأمر تكرّر في صور وفي بعلبك، وفي معظم المناطق التي تعرّضت للقصف والتدمير، حيث الصرخات تتعالى رثاءً للذاكرة التي تحاول طائرات الموت الإسرائيلية تقويضها ومحوها.

محاولة ضرب العادات والتقاليد

في هذا السياق، يُشير الدكتور في العلوم الاجتماعيّة، نزار أمين حيدر، في حديث لـ”مناطق نت”، إلى أنّ “عمليّة تدمير معالم البلدات بما فيها تدمير الأماكن التاريخيّة والأثريّة، هي محاولة لضرب العادات والتقاليد التي تكون مبنيّة على الحضارة الموجودة في هذه المنطقة”، موضحًا أنّها كذلك “محاولة لضرب القيم الموروثة في هذا المجتمع وثقافته”.

حيدر: عمليّة تدمير معالم البلدات بما فيها تدمير الأماكن التاريخيّة والأثريّة، هي محاولة لضرب العادات والتقاليد التي تكون مبنيّة على الحضارة الموجودة في هذه المنطقة

ولفت حيدر إلى أنّ “هذا التدمير سيؤثّر في الأجيال الجديدة التي ستفتقد إلى هذا الإرث، والقيم المتوارثة على مرّ الأجيال، إذ إنّ فقدان الأماكن، سواء ساحة البلدة أو موقع مُعين في داخلها، له بُعد اجتماعيّ كبير، حيث يتمتّع برمزيّة كبيرة، وله أبعاد اجتماعيّة وثقافيّة”، مؤكّدًا أنّ “الأهالي سيحاولون تذكير أبنائهم بهذه الأماكن إلّا أنّه يبقى من الصعب ترميم هذه الخسارة”.

ويوضح حيدر أنّ “هذا التدمير هو محاولة لمحو تاريخ هذه المنطقة، وهذا ما شهدناه مثلًا في تدمير سوق النبطية أو استهداف مدينة صور، خصوصًا أنّها أهداف غير عسكريّة”. ويؤكّد أنّه ينصح بإعادة إعمار هذه المناطق “نظرًا إلى أهمّيّتها ومكانتها على جميع الصعد الاجتماعيّة والثقافيّة والاقتصاديّة، وهذا ما يساعد في الحفاظ على هويّتنا”.

أكثر من مجرّد معالم

يأتي الحفاظ على الهوية من كون هذه الاماكن هي حصيلة تراكم مئات السنين، ورثتها الأجيال ليس كمعالم عمرانية فحسب، وإنّما كأمكنة تحمل إرثًا ثقافيًّا واجتماعيًّا، له دلالاته ورمزيّاته، يمتدّ إلى اأجيال طويلة ويتناقله أبناء البلدات والقرى ويحافظون عليه، وذلك على الرغم من كلّ التطوّر الذي تشهده تلك القرى. وهذا ما ساهم بجعل تلك المعالم جزءًا أساسيًّا من هويّة الوجدان الجماعيّ المرتبط بالوجود المكانيّ.

إنّ سعي العدوّ الإسرائيليّ إلى تنفيذ الإبادة المكانيّة يحمل في طيّاته أهدافًا تصل إلى إبادة كلّ ما تحمله جميع الأماكن من تاريخ وتراث وعادات وثقافة، وحتّى من نسيج اجتماعيّ. وهذا ما يُمكن تبيانه بشكل واضح في تدمير سوق النبطية- الذي يبعد مئات الكيلومترات عن الحدود- والذي سُمّيت شوارعه على أسماء المحال المتواجدة فيه، وبات يتخطّى وظيفته الاقتصاديّة كسوق تجاريّة ليصبح جزءًا من الذاكرة الجماعيّة والتلاقي الاجتماعيّ.

المراكز الدينية أحد أبرز الأماكن التي تتشكّل حولها البلدات. الصورة لكنيسة بلدة يارون والتي لم تسلم من القصف الاسرائيلي
أبعاد اجتماعية للحرب الإسرائيليّة

لذا، يمكن القول إنّ الحرب الإسرئيليّة لا تقتصر أهدافها على الجانب العسكري بل تتجاوز ذلك وتحمل أهدافًا أكثر قسوة وإيلامًا. من هذا المنطلق، يؤكّد منسّق مختبر الديموغرافيا في مركز الأبحاث، معهد العلوم الاجتماعيّة، الجامعة اللبنانيّة، شوقي عطيّة، في حديث لـ”مناطق نت”، أنّ “الاستهدافات الإسرائيليّة لها عدّة أبعاد، منها آنيّ يتمثّل في خلق الرعب والخوف لدى المواطنين المتواجدين في مناطق الاستهداف أو البعيدين عنها باعتبار أنّ هذه الاستهدافات قد تطالهم مستقبلًا”. ومنها “ما له بُعد سياسيّ وعسكريّ من خلال منع عودة أهل الجنوب إلى بلداتهم وقراهم من خلال خلق أرض محروقة، وهذا ما يقودنا إلى اعتبار أنّ هناك إمّا أطماع استيطانيّة أو خلق منطقة عازلة في تلك المناطق”.

وإلى جانب هذين البُعدين، يتحدّث عطيّة عن “البُعد الاجتماعيّ الذي يُترجم من خلال خلق نكبة لدى أهالي الجنوب، فهناك كثير منهم ترك منزله دون أن يعلم أنّها آخر مرة يشاهده فيها، وهذا ما سيترك جرحًا كبيرًا، ومن هنا تتبيّن أهمّيّة عودتهم إلى بلداتهم”. ويؤكّد أنّ “هناك استهدافًا للديموغرافيا الشيعيّة بهدف تقليص حجمها وانتشارها، وذلك من خلال ضرب تركّز الطائفة في مناطق معيّنة”.

ويلفت عطيّة إلى خطر آخر يبرز من خلال “عملية النزوح التي تؤدّي إلى اندماج بيئتين مختلفتين حتّى لو أنّ أفرادها ينتمون إلى الطائفة نفسها، فهناك صعوبة في التعامل مع هذا الموضوع سواء من النازح أو المستضيف”.  ويُشبّه عطيّة الوضع بأنّه مثل “شخص يمشي على الزجاج”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى