“تذكرة من نوع آخر”: أرقام تنتظر خلف الستارة

ثمّة طرق كثيرة للموت: ربّما يرحل المرء بذبحةٍ قلبيّة، أو ينهكه مرضٌ خبيث حتّى يُخمد أنفاسه الأخيرة، أو يختطفه حادث سيرٍ، وأحيانًا يختار المرء بنفسه أن ينهي حياته. لكن في منطقتنا العربيّة المتصدّعة، تتضاعف أشكال الموت: تُقتل امرأة بذريعة “الشرف”، ويغرق ربّ أسرةٍ في رحلة هروب نحو برٍّ آمن، وقد يُمحى حيٌّ برمّته في غارةٍ عشوائيّة يشنّها عدوّ جائر.

على خشبة “مسرح المدينة”، تعيد مسرحيّة “تذكرة من نوع آخر” (كتابة وإخراج: يوسف خليل) رسم شخصيّاتٍ متوفّاة، لا بوصفها حوادثَ فرديّةً وحسب، بل كدوّامةٍ لواقعٍ نعيشه. ثلاثة ممثّلين – بينيلوب إبراهيم وماريّا إسكندر ومحمّد طالب – ينطلقون بالعرض بين الجمهور، صارخين، محاولين مقاومة الموت. تفشل محاولتهم، فيخطون إلى خشبة المسرح، منهكين، يتموضعون خلف ستارةٍ شفّافةٍ تفصلهم عن الحاضرين، ترمز إلى عتبةٍ بين عالم الأحياء وعالم ما بعد الموت– أو عالم “البرزخ” كما يُسمِّيه البعض– حيثُ تدورُ أحداثُ المسرحيّة.

عالم ما بعد الموت

تلتقي ثلاث شخصيّات فارقت الحياة في اللحظة نفسها، كلٌّ منها قضى بطريقة مختلفة. لا يعرفون ماذا ينتظرون، لكنّهم ينتظرون. يتذمّرون من طول الانتظار، ثمّ يلوذون بالذكريات والأحلام التي لم تكتمل. يحاولون تناسي لعنة الانتظار، فيقرأون الصحيفة اليوميّة، ويحاورون آلة العود، التي يستغلّها المخرج للرمز إلى منطقتنا العربيّة المتصدّعة، فتصبح آلة العود عبارة عن لسان منطقةٍ مزّقها القتل.

من مسرحية “تذكرة من نوع آخر”

تقع يد الشخصيّات على صحيفة بتاريخ الـ 10 من تشرين الأوّل (أكتوبر)، تاريخ رحيلها. تتصفّحها، فتكتشف أنّها لم تعد سوى أرقامٍ في خانة الوفيّات، بلا أسماء ولا سيَر ولا أحلام. وتشير إحدى الشخصيّات إلى أنّها ربّما تحوّلت أيضًا إلى منشورٍ عابر على مواقع التواصل الاجتماعيّ، لا يثير لدى ناشريه سوى سباقٍ على الإعجاب والمشاركات والتعليقات، منشورٍ، ليست الغاية منه سوى لعب دور البطولة والنخوة.

مجرّد أرقام جديدة

تتسلسل الأحداث، معتمدةً على التكرار في النصّ، وحركة الجسد، وتتكشّف المآسي تباعًا: امرأة قتلها والدها لاكتشافه أنّها أحبّت رجلًا وشاركته جسدها من دون علمه؛ وأخرى تسقط ضحيّة غارة قبل أن يلحق بها زوجها لينقذها؛ ورجلٌ يبتلعه البحر وهو يحاول مع أسرته، عبوره بطريقة غير شرعيّة، رغبةً في الوصول إلى دولة يستطيع العيش فيها بكرامة هو وأطفاله.

يخبو ضوء الخشبة، ويعلو فجأة صراخ شخصيّاتٍ أخرى بين الجمهور، تحاول مقاومة الموت كما حاول سواها، ثمّ تنكفئ هي الأخرى إلى ما وراء الستارة الشفّافة، حيث تصبح مجرّد أرقام جديدة. هكذا تنتهي المسرحيّة كما بدأت، لتكرّس بوضوح، التعبير عن الواقع الذي تعيشه منطقتنا، والذي أصبح من الصعب جدًّا، الهروب منه، أو تجاهله.

يخبو ضوء الخشبة، ويعلو فجأة صراخ شخصيّاتٍ أخرى بين الجمهور، تحاول مقاومة الموت كما حاول سواها، ثمّ تنكفئ هي الأخرى إلى ما وراء الستارة

عناصر رمزيّة وعمليّة

جاءت سينوغرافيا المسرحيّة كإحدى أقوى عناصر العمل، وهي سينوغرافيا رمزيّة بسيطة وعمليّة: مقعد خشبيّ، كابينة هاتفٍ عام، ستارة شفّافة تفصل بين عالمين. وقد دعمت هذه السينوغرافيا، أدوات بسيطة، متعدّدة الاستخدامات أيضًا: عودٌ شرقيّ يُحاور ويغنّي، مظلّة سوداء، أوراق صحف. حتّى إنّه في بعضِ المشاهدِ، أصبحت بعض ملابس الشخصيّات متعدّدة الوظائف؛ فمثلًا، استخدمتْ إحدى الشخصيّاتِ حذاءَها كهاتفٍ محمولٍ.

الإضاءة كانت المحرّك الرئيس للعمل؛ تتلاعب تخفت لتتيح إحداث الانتقالات السلسة بين المشاهد، وتستحضر ظلال الشخصيّات على الستارة لتبدو أشباحًا تستعيد ملامحها من الماضي.

النصّ، كتبه خليل ببنيةٍ تعتمد الإيقاع والتكرار؛ تكرارٌ يشدّ الجمهور إلى دوّامة الانتظار ويضاعف إحساسه بالقلق الذي تحاول الشخصيّات تجسيده. الأداء التمثيليذ للمثّلين الثلاثة جاء متقنًا، يقوم على كيمياء متبادلة بينهم، تتجلّى ذروتها في التعاون على تشكيل المشاهد التي تستعيد لحظات الموت لكلّ شخصيّة، فيتحقّق الانسجام بين الصوت والحركة والجسد.

ولادة مخرج صاعد

جاء العرض المسرحي “تذكرة من نوع آخر” ليشير إلى أنّ الشاب يوسف خليل، هو مخرج مسرحي يعرف أدواته ويحسن توظيفها، ويجرؤ على مقاربة واقع منطقتنا بلا مواربة أو تزيين. مع إتقانه لجميع العناصر التي ذكرناها. شهد “مسرح المدينة” ميلاد مخرج مسرحيّ شاب يضع الإنسان في مواجهة أقسى أسئلته: ماذا يبقى منّا حين نصير مجرّد رقم خلف الستارة؟

المخرج والكاتب يوسف خليل والممثّلون في مسرحية “تذكرة من نوع آخر”

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

زر الذهاب إلى الأعلى