تزويج القاصرات.. حكايات مرّة من البقاع الشمالي
هي ليست قصص الجدات وحكاياتهنّ قرب مواقد الشتاء في قرى وبلدات لبنان الجبليّة، بل واقع فتيات بعمر الزهور، مدوّن زواجهنّ في سجلّات المحاكم الشرعيّة التي أدركت المكننة والتطوّر الآلي فيما القوانين متعثّرة، تتكّسر عند ابوابها، وتضيع تحتها أعمار الكثيرات من أطفالنا، وتضيع حيواتهم.
إنّ تزويج الأطفال أو “زواج القاصرات” كما تجري تسميته تخفيفاً وتلطيفاً، يطال الأطفال الإناث تحت سن الثامنة عشرة. سال في هذا السياق حبر كثير، دارت حوله نقاشات، وعقدت لأجله ورش عمل وأبحاث طبّيّة اجتماعيّة ونفسيّة، لكن في بلادنا يصطدم أيّ أمل بحائط (تابو) المقدّسات والمحرّمات، ويضيع بين ما يجيزه الشرع وما يحرّمه.
ز. ن. إبنة إحدى قرى قضاء الهرمل، تغالب دموعها وبصوت متحجرش تقول لـ”مناطق نت”: كنت طفلة قبل أن أتمّم الخامسة عشرة من عمري، عايشين فقر وشحار وتعتير، بقربنا مركز للجيش، صرت اشاهد جنديّاً يتأمّلني كثيراً ويجرّب أن يحكيني، يتقرّب مني، انبسطتّ انّني صرت صبيّة وحلوة، ذات نهار حكاني وزار أهلي. وقتها كان عمره 38 سنة، أبي الله يرحمو قلّي بعدك زغيرة عالجازة بس أمّي تحمّست لأنّه عسكريّ ومأمّن حالو، قالتلو خلّيها تنستر”.
تمسح ز.ن. دمعتها وتكمل: “تزوّجت إلى خارج ضيعتنا، وصرت بعيدة عن أهلي. كلّ فترة الخطبة لم تدم شهرين. جيت على ضيعة ما بعرف حدا وبعمر دون 17 عاماً صار عندي صبيّ وبنت، وفوق هيك انقلبت معاملته لي 380 درجة. وصارت حياتنا نقار بنقار”.
ز. ن. واحدة من قرى قضاء الهرمل، تغالب دموعها وبصوت متحجرش تقول: كنت طفلة قبل أن أتمّم الخامسة عشرة من عمري، عايشين فقر وشحار وتعتير، بقربنا مركز للجيش، صرت اشاهد جنديّاً يتأمّلني كثيراً ويجرّب أن يحكيني، وقتها كان عمره 38 سنة، أبي الله يرحمو قلّي بعدك زغيرة عالجازة بس أمّي تحمّست لأنّه عسكريّ ومأمّن حالو، قالتلو خلّيها تنستر”.
بعد توقّف وجداني تصرّ ز.ن. على متابعة كلامها: “أبي نصحني وما كان بدّو اتجوز بهيك سن، بسّ أمّي كانت مصرة “خليها تنستر” ولو بعدو عايش ما كان بدي هالسترة. بكرا بنتي لمّن تكبر، ممنوع تفكّر بالزواج قبل ما تخلص جامعة، وتشوف الدني. ونصيحة لكلّ بنت ولكلّ أمّ ما تخلّي بنتها تفكّر بهالشي قبل ما تبلغ العشرين أو أكثر، وتوعى وتفهم الحياة”.
الدين والزواج
يعتبر رجال الدّين المسلمون أنّ تحديد سنّ الزواج بـ18 سنة وما فوق، هو بدعة مرفوضة، وهو تطاول على الدّين ونصوصه وتفسيرها التي تربط سنّ الزواج للفتاة بالبلوغ الجسديّ (مع بدء الدورة الشهرية). وفي هذا الإطار، يقول رئيس قلم المحكمة الشرعيّة في عرسال الشيخ محمد كرنبي لـ”مناطق نت”: “إنّ شرط زواج المرأة في الإسلام هو البلوغ الشرعيّ، وهذا ما تسير عليه المحاكم الشرعيّة الإسلاميّة، لكن مع ملاحظة أنّنا نطلب شهادة طبّيّة لمن هنّ دون السادسة عشرة، تفيد بأنهنّ قادرات ومهيّئات للزواج نفسيًّا وجسديًّا”.
لا يمانع رجال الدين المسيحيّون تحديد سنّ الزواج، ويرحّبون به، لكنّهم في الوقت ذاته يُجمعون على قدسيّة الزواج الكنسيّ ويربطونه بالتشريع الدينيّ.
ن.ح. ابنة بلدة عرسال البقاعيّة البالغة 18 ربيعاً، وأمّ لطفل في الثالثة من عمره، تجيب على سؤال “مناطق نت” عن سبب زواجها المبكر، بين الجدّ والمزاح: “الحبّ، الله يلعن أبو الحبّ، وخطيفة كمان”.
تكمل ن.ح.: “كان يمرّ من أمام بيتنا كثيراً، على درّاجته الناريّة، معتمراً قبّعته الملفتة، ثمّ يبدأ بالإستعراص (حركات بهلوانيّة عالموتسيك.. يمشّيه على دولاب واحد ومن هالقصص) وأنا أفرح بسبب ما يفعله أمامي لإسعادي، إلى أن جاء يومٌ، طلب منّي الذهاب معه خطيفة وكان ما كان”.
وردّاً على سؤالنا: “هل تعتبرين أن زواجك المبكر أضاع طفولتك؟”. تجيب بحسرة من دون تردّد: “بس طفولتي؟ ليش شو ظلّ؟ عمري كلهّ ضاع”.
قبل إتمامها الخامسة عشرة، أنجبت إبنها الذي فرحت به فرحاً طفوليًّا لأيّام معدودات، كونها لا تعرف ماذا ينتظرها. بعدها انتقل الطفل إلى عناية والدتها الكاملة. وتكمل ضاحكة: “بيفكّرها هي أمّو يالله بتربّينا سوا”.
قبل إتمامها الخامسة عشرة، أنجبت إبنها الذي فرحت به فرحاً طفوليًّا لأيّام معدودات، كونها لا تعرف ماذا ينتظرها. بعدها انتقل الطفل إلى عناية والدتها الكاملة. وتكمل ضاحكة: “بيفكّرها هي أمّو يالله بتربّينا سوا”.
بعد سنوات من الإنقطاع الدراسيّ، شجّعها أهلها وكثيرون على العودة إلى المدرسة، ولذلك بدأت منذ أشهر في معهد خاص، محاولة استعادة ما يلزمها من معلومات لتقديم طلب حرّ إلى شهادة “البريفيه” وبعدها إمّا الشهادة الثانويّة أو المهنيّة.
تختم ن.ح.: “لا أوجّه اللّوم لأهلي، أنا التي تزوجت خطيفة من دون أخذ رأيهم. لكنّني أتوجّه بنصيحة تحذيريّة لأيّ فتاة من الزواج تحت سنّ العشرين، لأنّه مسؤوليّة كبيرة، وستفشل به. الزواج ليس لعبة أطفال وفستاناً أبيض ومساحيق تجميليّة”.
مشاريع قوانين نائمة في أدراج مجلس النواب
يعمل الناشطون الحقوقيّون والجمعيّات المدنيّة المتخصّصة بشؤون النساء والأطفال جاهدين وبشكل حثيث لاستصدار قانون يحدّد سنّ الزواج بـ18 سنة وما فوق. قدّمت اللجنة الوطنيّة لشؤون المرأة في العام 2014 مشروع قانون عبر النائب غسّان مخيبر لا ينصّ صراحة على تحديد سن الزواج بـ18 سنة لكنّه يشترط موافقة قاضي الأحداث عليه، وهو ما اعتبره كثيرون مواربة في سنّ قانون جدّي.
تقول رشا وزنة ل”مناطق نت” وهي منسّقة التواصل والحملات في “التجمّع النسائيّ الديمقراطيّ اللبنانيّ” الذي أطلق منذ سنوات حملة إعلاميّة إعلانيّة شعارها “مش قبل الـ18” لمحاربة زواج الأطفال، وهي مستمرّة حتّى اليوم: “بعد إعدادنا الورقة البحثيّة حول زواج الأطفال، استجابت العديد من المنظّمات المحلّيّة والدوليّة بالتعاون الوثيق مع وزارة الشؤون الاجتماعيّة لإنهاء زواج الأطفال، خصوصاً بعد أزمة اللاجئين السوريّين. وتمّ إطلاق جملة من المشاريع والأنشطة، مثل رفع الوعي، المناصرة، الحقوق الجنسيّة والإنجابيّة عند الأطفال، إدارة الحالات وما إلى ذلك”.
تتابع وزنة: “في الشقّ القانونيّ تقدّم النائبان جورج عقيص وانطوان حبشي بمشروع قانون إلى لجنة حقوق الإنسان لمنع الزواج تحت سن الثامنة عشرة. عقدت جلستان سابقاً، وهذا الخميس ستعقد الجلسة الثالثة ونتمنّى إقراره وسلوكه طريق التنفيذ”.
يعمل الناشطون الحقوقيّون والجمعيّات المدنيّة المتخصّصة بشؤون النساء والأطفال جاهدين وبشكل حثيث لاستصدار قانون يحدّد سنّ الزواج بـ18 سنة وما فوق
يقول النائب انطوان حبشي في حديث إلى “مناطق نت”: “إنّ قانون منع تزويج القاصرات تقدّم به زميلنا السابق النائب إيلي كيروز، ثم تابعناه أنا والزميل الاستاذ جورج عقيص لما له من انعكاسات سلبيّة على الفتاة نفسيًّا وصحّيًّا واقتصاديًّا، ولعدم قدرة القاصر على إدارة شؤون عائلة أو اتخاذ قرار. تمّت مناقشة الموضوع في لجنة المرأة والطفل النيابيّة، وواجهنا الكثير من التحفّظات تحت شعار “المجتمع مش قابل” وتمّ تصوير الرفض لأسباب دينيّة، وتوقّف النقاش في لجنة المرأة والطفل. أعدنا طرح الموضوع في لجنة حقوق الإنسان، ناقشناه في جلستين سابقتين، ويوم الخميس المقبل سيناقش في جلسة خاصّة به ونتمنّى إقراره”.
الطب وزواج الأطفال
من الناحية الطبّيّة تقول الطبيبة النسائيّة منال زعرور لـ”مناطق نت”: بداية، لا أعرف لماذا هذه العادة شائعة عند العرب، حبّهم للزواج من صغيرات. ودائماً يردّدون عبارة “صبية بنت 14″. في الحقيقة الطبّيّة بنت 14 هي طفلة لم تكتمل جسديًّا ولا نفسيًّا، وغير مؤهّلة للزواج، لا من الناحية الحميميّة، ولا من حيث القدرة على الحمل والإنجاب، لأنّ في ذلك إضعاف لجسدها، خصوصاً أنّ كثيرات منهنّ لا يزرن الطبيب بشكل منتظم لمتابعة وضعهنّ”.
تتابع زعرور: “كذلك إنّ حمل الصغيرات قد يشكّل خطراً على حياتهنّ، لأنّ معظمهنّ غير قادرات على الولادة الطبيعيّة التي نشجّع عليها كأطبّاء، ونلجأ في هكذا حالات إلى الولادة القيصريّة، وفي ذلك ضرر مباشر على جسد المرأة وعلى الولادة لاحقاً”.
في النهاية، إنّ السماح باستمرار تزويج القاصرات، وخلق الأعذار والمبرّرات له، تارة باسم الدين، وأخرى باسم العادات والتقاليد، أو الفقر والعوز، أو الحروب والكوارث، نتيجته واحدة هي تدمير بطيء للمجتمع، ورفعٌ من نسبة الأمّيّة والتسرّب المدرسيّ، وزيادة الأعباء الاقتصاديّة، وارتفاع احتمالات التفكّك الأسريّ والطلاق وضياع مستقبل الأولاد، وانتشار الآفات المجتمعيّة كالتجارة بالبشر، والدعارة والمخدّرات، والانحراف والسلوكيّات الشاذّة.
فهل ستسلك الدولة اللبنانيّة أو ما تبقّى منها، أخيراً، درب حماية الأطفال، وبالتالي حماية المجتمع؟