تغريبة الجنوبيّ بين الهجرة والتهجير

تقلّب عيشُ العامليّين بين الهجرة والتهجير، وأغلبهما لم يأتيا طوعًا، بل قسرًا حتّى كادا أن يكونا قدرًا لا فكاك منه، والتاريخ القريب يُشكّل مصداقًا لزعمنا هذا، ولنبدأ بالتاريخ الوسيط.

هجرة قسريّة

فبعد جلاء الصليبيّين عن بلادنا، جاء حكم المماليك (1291) الذين ارادوا حصر السلطة بين أيديهم من دون منازع، وأمام تمسّك الكسروانيّين بسلطتهم، واستغلال التنّوخيّين لهذا النزاع كي يوسّعوا إقطاعهم على حساب الشيعة “خرج أحد قوّاد المماليك من دمشق بجيش عظيم وضرب ضياعهم وأقطع كرومهم ومزّقهم بعدما قاتلهم أحد عشر يومًا وملك الجبل عنوة، ووضع فيهم السيف، وأسر 600 رجل، وغنم العسكر منهم مالًا عظيمًا”، فهاجر الشيعة على إثرها إلى مناطق الجنوب، وخصوصًا منطقة جزين (د. محمد مخزوم، “جبل عامل في العهدين الصليبيّ والمملوكي”، 1979).

هجرة علميّة

يُشهد لعلماء جبل عامل تفوّقهم، اذ قدّموا منذ العصور الوسطى أجيالًا من الفقهاء كانت مؤلّفاتهم “القاعدة المتيّنة للمعارف الشيعيّة المعمول بها”. وقد هاجر مئات منهم في القرن السادس عشر إلى إيران للإستفادة من رعاية الدولة الصفويّة والمساعدة في “تأسيس التشيّع الأثنيّ عشريّ”، وشكّلوا وقتذاك نخبة ثقافيّة. وغدت هذه الهجرة مصدرًا لفخر الجماعة العامليّة “بوصفها جزءًا من ماضيها المجيد وأساسًا لعلاقات اجتماعيّة وفكريّة مميّزة مع إيران والعالم الشيعيّ”، كما يقول ستيفان وينتر، المؤرّخ الكندي المتخصّص في دراسات سوريا العثمانيّة (الشيعة في لبنان تحت الحكم العثمانيّ 1516 – 1788، ص 55 و56).

هربًا من المجاعة

حاول المجتمع العامليّ الحفاظ على تماسكه من خلال الالتفاف على زعاماته الدينيّة والسياسيّة، والتكيّف مع ظروف السلطة الغالبة بالبقاء وفيًّا لعقيدته. وأصعب اختبار واجهه هو الحرب العالميّة الأولى (1914)، والمجاعة التي ضربت البلاد مثله مثل جبل لبنان، فيتحدّث المؤرّخ علي الزين (1902- 1984) عن تلك المرحلة فيذكر أن بعض الناس ماتوا جوعًا في قريته جبشيت. وإن كان وقعها على جبل لبنان أشدّ وأكثر فتكًا، وأودت بحياة ثلث سكّان المتصرّفيّة خلال العهد العثمانيّ (نحو 200 ألف)، ومن ثمّ أتى الجراد في العام 1915 ليأكل الأخضر واليابس. وقد وثّقت رواية “الرغيف” (1939) لتوفيق يوسف عوّاد هذه المأساة، كذلك قصيدة جبران خليل جبران “مات أهلي جائعين”.

كانت الهجرة العامليّة بأعداد صغيرة إلى سوريّا أوّلًا ومن ثمّ العودة إلى العاصمة بيروت في مرحلة ثانية، وهذا ما يؤشّر اليه “حيّ اللجى” (المصيطبة) في حيثيّات نشأته، يقول عمر حرقوص: “اسم الحيّ مأخوذ من نازحين شيعة جنوبيّين هربوا إلى اللجاة في حوران السوريّة وعادوا إلى بيروت مع نهاية الحرب العالميّة الأولى وسكنوا حيّ البستان في المصيطبة وسمّوه اللجا، ومع هؤلاء أتى جدّي أبو أحمد من الشيخ مسكين الدرعاويّة وأصله من حاروف قرب النبطية”.

وقد سكن في البيت الواحد المستأجر من الملاّك البيروتيّين عدّة أسر، فكلّ غرفة تؤوي عائلة. وفي السياق نذكر الهجرة إلى أميركا ومأساة غرق باخرة التيتانيك في العام 1912، حيث غرق نحو 90 لبنانيًّا من جميع المناطق، ومنهم 4 أفراد من بنت جبيل، وفاقًا لما ذكرته الصحف.

والحال، تفصح رواية بلقيس حوماني (1928- 2017) وهي من بلدة حاروف، عن الحيّ وساكنيه اللاحقين بعد موجة الهجرة الأولى في روايتها “حيّ اللّجى” (1969)، الآتين بحثًا عن لقمة العيش في العاصمة بيروت: “بيروت الساحرة الفاتنة والخدّاعة الغادرة” بعباراتها في الطبعة الثانية (1996). وميزة الحيّ أنّه كان خارج المدينة وقريب منها.

السيد هاني فحص وبلقيس محمد علي الحوماني صاحبة رواية حي اللجى (الصورة للزميل كامل جابر)
هجرة اقتصاديّة

ينسب المؤرّخ محمّد جابر آل صفا (1875- 1945) في مؤلّفه “تاريخ جبل عامل” (1952– 1953) إلى الحكم العثمانيّ الذي استمرّ لغاية العام 1918 إلحاق الخراب بالاقتصاد العامليّ ولا سيّما زراعة التبغ التي كانت المورد الأبرز لأهل الجبل، ومن نتائج ذلك أن “اختلّ الأمن وسادت الفوضى ووقعت البلاد في فقر مدقع وضنك شديد”، فضاقت السبل وكانت الهجرة إلى ما وراء البحار سعيًا في طلب الرزق بكلّ الوسائل المُتاحة، وأثّر ذلك كثيرًا، اذ هُجرت الأرض وبارت الزراعة. ويكتب آل صفا أنّ الوجهة كانت في أكثرها ناحية “أفريقيا الغربيّة”، وقد أصبح البعض من أصحاب الثروات، وكانت لهم أياد بيضاء في بناء “الكلّيّة العامليّة في بيروت” بمساعي رشيد بيضون “الذي نذر حياته وكرّس أوقاته في سبيل إبراز هذا المشروع إلى حيّز الوجود” ( ص 301 وما يتبع).

هجرة العمل

بعد نكبة فلسطين في العام 1948، وقيام الكيان الإسرائيلي، انتقلت بعض المؤسّسات إلى لبنان، ومنها إذاعة الشرق الأدنى، وكان أن ازدهر مرفأ بيروت (البّور) على حساب ميناء حيفا، ما شكّل عامل جذب لهجرات واسعة من مختلف الأرياف اللبنانيّة ولا سيّما من الجنوب اللبنانيّ للعمل في وظائفه الكثيرة، وحفّز هذه الهجرات أيضًا وجود مؤسّسات التعليم العالي في العاصمة.

وقد رصدت الباحثة في الأنتروبّولوجيا د. رباب دبس في رسالتها المميّزة للدكتوراه “صور المدينة في السيرة الذاتيّة والشفهيّة بين المقيمين والوافدين 1920- 1975– حالة بيروت” (2023)، بعضًا من قصص الوافدين الجنوبيّين إليها وأثرها فيهم، وذلك التناقض الحادّ بين المعيش الريفيّ وحداثة المدينة التي شكّلت “مشهدًا بصريًّا مثيرًا للدهشة” (دبس، ص 295، غير منشورة). وقد عمل هؤلاء الوافدون في كلّ المهن: “العتّالة على البور، أو في سوق الخضرة، والعتّالة في نقل مختلف البضائع”، وكذلك: “بيّاع متجوّل، جامع نفايات، بويجي…” (دبس، ص 296).

سوق النورية في بيروت منتصف القرن العشرين (الصورة من جمعية تراثنا بيروت)

ومن سيّرة شريف دبس التي تنقُلها نفهم أنّ وفادته من مسقط الرأس قرية أنصّار الجنوبيّة إلى المدينة كانت لتعليم أولاده، وأوّل سكنه في عائشة بكّار، فسجّل أبناءه في الكلّيّة العامليّة، ولتأمين الأقساط عمل ليلًا ونهارًا: “قبل الظهر ببسطة خضرة، وبالليل بفرن عالصندوق”.

ويُقرّ السيّد شريف بفضل العاصمة عليه: “بيروت، علّمتني وثقّفتني وهذّبتني وغيّرت في مسار حياتي ومسار حياة أولادي، كلّهم تعلّموا…” (دبس، ص 297). وفي السيّاق نفسه، انتقلت عائلة كوثراني الأنصاريّة إلى بيروت، وسكنت منطقة البسطة التحتا، واستفاد الابن وجيه، الذي أصبح مؤرّخًا مهمًّا “للتحوّلات”، من فرصة التعلّم في المدرسة العامليّة. وقدّم مكان الإقامة على تخوم العاصمة، المجال له للاكتشاف واكتساب الخبرات، اذ: “كان فضاء المدينة المحيط بالمدرسة وبالسكن يتيح التواصل السهل مشيًا على الأقدام أو بواسطة الترمواي مع مركز البلد”، كما يُعبّر في نتف من سيرته (اسم علم، 2014، ص 303 و 304).

نزوح بحثاً عن ملاذ

ومن ثمّ عاود النزوح القسريّ والتهجير سيرته الأولى، على يدي دولة الاحتلال الإسرائيليّ، في العام 1970، حين اجتاحت مناطق العرقوب وصولًا إلى الحاصباني في 12 و13 أيّار من العام 1970، ووصل عدد النازحين يومها إلى نحو ثلاثين ألفًا، وتبع ذلك موجات لاحقة في الأعوام: 1971 و1980 و1981، و1982 (منذر جابر، مسائل في أحوال الجنوب اللبنانيّ- جبل عامل، 2023، ص 188 – 189)، ولا ننسى حرب تمّوز و”عناقيد الغضب” في العام 2006. وفي العام 2024، وبغضّ النظر عن حيثيّات الحرب وأسبابها، عاد العامليّ الجنوبيّ قاطن “الشريط” الحدوديّ إلى حمل ما تيسّر من متاع والبحث عن مكان للإقامة مجدّدًا. وهو من عظم معاناته السابقة خلال عقود، وضع ثقته في ربّه وقرّر هجرة أخيرة، هي “الهجرة إلى الله”.

نازحون جنوبيون جرّاء الاجتياح الاسرائيلي سنة 1978 (الصورة من الجزيرة نت)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى