تغريبة جودت رستم حيدر.. عن الشعر والعالميّة وأيّام بعلبك الزّاهية
غير بعيد عن مدخل مدينة بعلبك من جهة الجنوب، يصادفك مبنى مدرسة ثانوية رسمية، يعرفها أهل المنطقة باسم “ثانوية البنات الفرنسي” أما الاسم المكتوب على اللافتة، اسمها في الأوراق فهو “ثانوية جودت رستم حيدر الرسمية”.
يبدو جودت حيدر العالميّ بعيداً عن المحليّة في بعلبك اليوم، فباستثناء أماكن حملت اسمه الثلاثي “جودت رستم حيدر” أبرزها الثانوية وحديقةُ صغيرة في المدينة، لا يكاد أهل المنطقة يعرفون الكثير عن شعره، وقد يكون لهذا أسباب واضحةٌ وأسبابٌ أخفى.
نحاولُ في هذه العجالة أن نسلّط الضوء على جوانب من سيرةِ هذا العَلَم النبيل وأثره العالميّ من خلال شعره، والمحليّ من خلال إسهاماته في النهضة التربوية والثقافية في لبنان والشرق العربيّ عموماً، وفي بعلبك خصوصاً.
طفولة قاسية ورحلة شاقة
الشاعر اللبناني الانكلوفوني المولود في نيسان 1905 والمنتمي لعائلةٍ بعلبكيّة عريقة، عاش طفولةً قاسية في بيت العائلة في مقنة (شمال بعلبك)، فبعد أقل من عام على نفي رجال آل حيدر -وفيهم والده وأخوته- إلى الأناضول في خضم الحرب العالميّة الأولى (1914-1918) بأمر من السلطان العثمانيّ محمّد الخامس رشاد، توفّيت والدته بمرض التيفوس وهو ابن 9 سنوات، واستولى وكلاء الأملاك على ما بقي له من أراضٍ بعد تشتّت العائلة وأفول نجمها مع تغيّر الزمن وتفكّك المنظومة القديمة، فغادر اليتيم صبيّاً في رحلةٍ شاقّةٍ من بعلبك إلى حلب في سوريا ثمَّ أضنة التركيّة فقونية، حيث التقى بأحد أقاربه هناك وألحقه ببقيّة عائلته في مقاطعة يني شهر من أعمال مدينة بورصة بالأناضول.
مع انتهاء الحرب وسقوط السلطنة العثمانية، عاد آل حيدر وفيهم الصبي جودت إلى بعلبك، التي كانت في هذه الفترة تحت حكم السلطان المؤقت للشريف فيصل ابن الحسين والوصاية البريطانية، وفيها تلقّى مبادئ اللغة الإنكليزية على الكاتب اللبناني خرّيج الجامعة الأميركية أديب فرحات، ما أتاح له الالتحاق باستعدادية الجامعة الأميركيّة في بيروت ليحصل منها على الشهادة الثانوية.
اللغة الانكليزية وشهادة استعدادية الجامعة، فتحتا الباب على مصراعيه للشاب الطموح الذي كان يحلم بأميركا، الأرض الجديدة، المساحات البكر التي تغوي المزارع البقاعي والمفكر الرؤيوي والشاعر الكامن، لكنَّ تعذُّر حصوله على التأشيرة، دفعه للالتحاق بالليسيه دو بارك في ليون بفرنسا، لكن الأخيرة لم تستهوِ الشاب الراني إلى الأرض الجديدة في أقاصي المحيط، فغادرها بعد أقلّ من سنة بمعيّة القنصل الأميركيّ هناك، وكان التقاه صدفةً في السينما فتبادلا حديثاً عن مناخ فرنسا المزعج، وعرض عليه مشكلته فساعده بالحصول على تأشيرةٍ ليصل أخيراً إلى مبتغاه.
شاعر بالانكليزية
إلى هنا لم يكن جودت حيدر قد كتب الشعر بعد. وصل إلى الولايات المتّحدة ليدرس الزراعة في كليّة عسكريّة ثمَّ التربية والتعليم في جامعة شمال تكساس التي حصل منها على شهادة البكالوريوس، هناك تحديدا التقى بأستاذة الأدب “مِس كليفلند”، السيّدة الجميلة المفتونة بالشاعر الاسكتلندي روبرت برنز (1759-1796) ورغبةً منه بلفت نظرها كتب مقطوعته الأولى التي أعجبتها فاحتفظت بها وقرأتها بصوتٍ عالٍ فصفّق لها الطلّاب، وبدأت قصائده تنتشر في الجامعة وبدأ جودت حيدر رحلته مع كتابة الشعر باللغة الإنكليزية، علماً أنّه لأسباب سنوضحها، تأخّر حتّى عام 1980 ليصدر ديوانه الأول بعنوان “Voices – أصوات” عن دار نشر في نيويورك، ثم ألحقه بديوان ثانٍ بعنوان “Echoes – أصداء” عام 1986 وثالث بعنوان “Shadows – ظلال” عام 1998 صدرا في بيروت، كما صدر كتاب 101 قصيدة مختارة من شعره في نيويورك عام 2006 بمناسبة بلوغه العام الأول بعد المئة، وهو عام وفاته.
قبلها كان حيدر عاد إلى لبنان مطلع الثلاثينيات فخيّر فور وصوله بين وظيفتين، عرض عليه جبران التويني (1890 – 1947) مؤسس جريدة النهار ووزير المعارف آنذاك، أن يتولّى منصب مفتّش في الوزارة، ووصله بالتزامن تلغراف من جامعة عاليه الوطنيّة تعرض عليه تولّي إدارتها، ويبدو أنَّ حيدر كان ميّالاً للوظيفة الأولى في الوزارة، إلّا أنَّ أوغست أديب رئيس الحكومة آنذاك لم يوقّع مرسوم التعيين، وحين زاره حيدر ليستفسر عن سبب التأخير، أحاله إلى المندوب الفرنسي في لبنان الذي صارحه برفض تعيينه من قبل سلطات الانتداب الفرنسي بحجّة أنه ضدَّ فرنسا، وقد يستغرب القارئ هذا إن كان لا يعرف أن بعض أفراد آل حيدر العائلة العريقة في سهل البقاع، كانوا محسوبين تقليديّاً آنذاك على الإنكليز في صراعٍ خفيٍّ على النفوذ في سوريا ولبنان بين بريطانيا وفرنسا.
هذا الصراع الذي لا ناقة لجودت حيدر فيه ولا جمل، فهو كان كأبيه رستم حيدر ذا توجّهات عروبيّة، جعله يختار وظيفة الجامعة، ومنها انتقل لإدارة كليّة النجاح في نابلس بفلسطين بدعوة من المفتي الحاج أمين الحسيني (1895-1974) قبل ان يترك سلك التربية والتعليم ويعمل مديراً ومستشاراً في شركة نفط العراق الأميركيّة، حيث تنقّل بين طرابلس وحمص ودير الزور، وأمّن وظائف لعديد من أبناء المنطقة، قبل أن يتقاعد عام 1965 ويعود إلى بعلبك متفرّغاً للزراعة والشعر والأدب، فكلُّ هذه القضايا والانشغالات كانت هي ما أبعده عن شغفه الشعريّ منذ مرحلة الجامعة.
هذا الرجل الذي كتب الشّعر بالإنكليزية فحاز إعجاب القرّاء والأكاديميّين الإنكلوفون، احتفظ بلكنته البعلبكيّة حين يتحدّث بالعربيّة، بل وأجازف بالقول إنّه نقل شيئاً من هذه اللكنة إلى نطقه المحبّب بالإنكليزيّة أيضاً، لكنَّ بعلبك التي يتّسعُ حراكها الثقافيّ بالكاد للشعر العربيِّ ورموزه، بقيَت بعيدةً عن تلقّي قصائد جودت حيدر بالإنكليزية، كأنّها قصائدُ مكتوبةٌ لغيرها، وكأنَّ جودت حيدر نبت من بعلبك ليثمر خارجها، وهذا متكرّرٌ في غير مكانٍ وزمان.
إلا أنّها وواقعها الثقافي لم تغب عن بال المثقّف الرساليّ الذي تمسّك بهويّته وجذوره فأسّس انطلاقاً من منزله عام 1995 مع ثلّةٍ من الكتّاب والمثقّفين “واحة الأدب في البقاع” التي كان من أهدافها السعي لضمان حياة الأديب من أدبه، ومعالجة أزمة النشر، وجمع شمل أدباء وشعراء البقاع وتسليط الضوء عليهم وإدخال نصوصهم في الكتب المدرسيّة.
يُذكر أن جودت حيدر كتب الشعر بالعربيّة أيضاً متأثّراً بوفاة وحيده، وغنّى العديد من الفنّانين من أشعاره بالعربية.
أيام بعلبك الزاهية
المحطّة الأبرز في مسيرة واحة الأدب في البقاع كانت ترميم تمثال شاعر القطرين خليل مطران، الذي فُجّر خلال الحرب الأهليّة، وإعادته إلى مكانه في ساحته في بعلبك، ثمَّ رفع الستار عنه في مهرجانٍ حاشد عام 1995 رعاه رئيس الجمهورية آنذاك الياس الهراوي، بالتعاون مع وزارتي الثقافة والسياحة، وشارك فيه شعراء لبنانيون وعرب أبرزهم محمد الفيتوري والياس لحّود وبلند الحيدري وعبد الوهاب البياتي وأحمد عبدالمعطي حجازي إلى جانب جودت حيدر.
عند هذه النقطة نقف على كلمات قليلة للشّاعر العالميّ في هذا الصدد، من كتابه السِّيَري “مشوار العمر” الصادر في بيروت عام 2002، فيها من رؤيته لبعلبك ومكانتها والإشارة لواقعها المؤسف الكثير:
“أردت برفعي لتمثال مطران في مكانه أن أبرهن للملأ.. للبنانيّين وغيرهم من الشعوب العربيّة مكانة بعلبك في التاريخ، وأنها ما نالت هذه المكانة إلا لأنها تستحقها، فهذه المدينة التي جعلت منها روما لؤلؤة الإمبراطوريّة التي امتدّت إلى الهند شرقاً وجزر الانكلوسكسون غرباً، هذه المدينة التي كانت نموذجاً في الدّنيا، وكانت دنيا من البشر تؤمّها على مدى الأجيال لترى ما فيها من عجائب، وترى هياكل الآلهة التي قطنت فيها قروناً وقروناً، وأحاطوها بالورود ودوالي العنب، وشربوا كؤوس الخمرة المخمّرة من عنبها، ورحلوا ورحلت معهم أيام بعلبك الزاهية”.