تفاؤل بعودة تقديماته.. هل يُصلح الضمان ما أفسدته السياسات؟
قبل أيام قليلة، زفّ مدير عام الصندوق الوطنيّ للضمان الاجتماعيّ محمّد كركي للبنانيّين، عودة تقديمات الضمان بصورة تدريجيّة، مُعلنًا عن سلسلة إجراءات تعديليّة إصلاحيّة طالت فروع الضمان الثلاثة، وهي: ضمان المرض والأمومة، تعويض نهاية الخدمة والتعويضات العائليّة.
دواء أقلّ سعرًا
إنّ أهمّ ما جاء في الإعلان الجديد هو عودة التغطية لنحو 3315 دواء، بنسبة 95 في المئة لأسعار الأدويّة المزمنة والمستعصيّة، و80 في المئة للأدوية الأخرى. علمًا أنّ هذه التغطية وصلت إلى 10 في المئة، بعد أن تراجعت قيمة الخدمات الأساسيّة التي يقدّمها الصندوق في ظلّ الأزمة النقديّة والاقتصاديّة التي عاشتها البلاد منذ أواخر العام 2019، وتأثّر بها الصندوق (لم تعد لأمواله أيّ قيمة فعليّة)، بفعل فقدان القيمة الشرائيّة للعملة الوطنيّة.
لكنّ هذه العودة أتت بمعايير محدّدة ومغايرة لما كانت عليه سابقًا، إذ سيغطّي الصندوق التركيبة الدوائيّة الأقلّ سعرًا من الأدويّة المعتمدة لدى وزارة الصحّة، في حين كان سابقًا يغطّي قيمة الدواء وفق سعره المحدّد في الفاتورة التي يقدّمها المريض إلى الصندوق.
وعلى سبيل المثال، سنفترض وجود أكثر من دواء في السوق بالتركيبة الدوائيّة نفسها، الأوّل بسعر مليون ليرة والثاني مليون ونصف مليون، فإنّ تغطية الصندوق ستعتمد السعر الأوّل، وستبلغ التغطية 800 ألف (أيّ 80 في المئة) بمعزل عن ثمن الدواء الذي دفعه المضمون وقدّمه للضمان، وبالتالي سيكون موحّدًا، على اعتبار أن الفقير يشتري أصلًا الأقلّ سعرًا على عكس الميسور الذي يمكن أن يتحمّل الكلفة المرتفعة، بحسب ما تمّ تبرير هذا الأمر، لكن المقاربة هنا خاطئة إلى حدّ ما، كون المريض يشتري المتوافر في الصيدليّات ويحرص كثر منهم على تناول دواء فعّال جرّبه واعتاد عليه.
إجراءات إضافيّة
إضافة إلى الدواء، تمّ الإعلان عن عودة التغطية الاستشفائيّة، إذ ستُغطّى 85 في المئة من الأعمال الجراحيّة الأساسيّة بنسبة 90 في المئة وبقيّة الأعمال الاستشفائيّة المقطوعة بنسبة 50 في المئة.
وفي ما يخصّ فرع التعويضات العائليّة، ألغيت جميع أشكال التمييز الجندريّ بين الرجل والمرأة في قانون الضمان، بمعنى أنّ الزوجة بات بإمكانها ضمان زوجها وأولادها وتقاضي تعويضات عائليّة عنهم، أسوة بالزوج.
وأخيرًا، مع فرع تعويضات نهاية الخدمة، بات بإمكان المضمون الاختياريّ، والذي يكون خارج البلاد حتّى، وبحسب شطور الإشتراكات التي يختارها، أن يتقاضى معاشًا تقاعديًّا مدى الحياة وأن يكون لديه ضمان صحّيّ أيضًا، فور صدور المراسيم التطبيقيّة لقانون التقاعد والحماية الاجتماعيّ.
ويفترض أن يبدأ العمل بالتغطية الدوائيّة خلال أسبوعين، وتشمل الأدوية المستعصية والمزمنة، على أن توضع الأدوية الأخرى موضع التنفيذ بصورة تدريجيّة وفقا للإمكانات المتاحة.
إضافة إلى الدواء، تمّ الإعلان عن عودة التغطية الاستشفائيّة، إذ ستُغطّى 85 في المئة من الأعمال الجراحيّة الأساسيّة بنسبة 90 في المئة وبقيّة الأعمال الاستشفائيّة المقطوعة بنسبة 50 في المئة
عودة مُبشّرة؟
يُجمع لبنانيّون كثر على أهمّيّة أن يستعيد الصندوق الوطنيّ للضمان الاجتماعيّ دوره الصحّيّ والاجتماعيّ بالنسبة للمنتسبين إلى الضمان ويبلغ عددهم في لبنان حوالي 500 ألف شخص، لا سيّما فقراء الحال منهم والذين عانوا طوال سنوات الأزمة الماضية من عدم قدرتهم على تلقّي الطبابة والاستشفاء اللازمين، ممّا شكّل خطرًا ظاهرًا وملموسًا على حياة كثر منهم، ويجعلهم يعلّقون أهمّيّة كبرى على الإجراءات التي أُعلن عنها أخيرًا، بسبب الظروف الصعبة التي يعيشونها.
“هي عودة منتظرة” تقول الحاجّة أمّ علي داوود، وهي ستّينيّة مضمونة على اسم ابنها، لـ “مناطق نت” وتضيف “أرهقنا من دفع ثمن الدواء الغالي، واضطررت أحيانًا لاستبداله بآخر أرخص ثمنًا، سوريّ أو إيرانيّ الصنع، ولا أعلم إن كانت فعاليّته مماثلة”، هذا عدا عن خوفها الدائم من فكرة أنّها قد تحتاج يومًا إلى دخول المستشفى ولا تتمكّن من دفع الفاتورة الاستشفائيّة التي هي حتمًا خارج مقدورها المادّيّ، بحسب ما تقول لـ”مناطق نت”.
كان “لزوم ما لا يلزم”
ويتفاءل كثر حتّى لو أنّ العودة لا تزال كلامًا غير مفعول، ومنهم العمّال والأجراء والفئات الأخرى التي كانت مستفيدة من تقديمات الضمان، غالبيّتهم لا تملك القدرة على اللجوء إلى شركات التأمين الخاصّة للحصول على ما عجز عن تقديمه الصندوق.
يقول أبو كريم مراد، وهو رجل ستينيّ منتسب إلى الصندوق الوطنيّ للضمان الاجتماعيّ منذ أربعة عقود “خلال السنوات الأربع الماضية كان الضمان لزوم ما لا يلزم بالنسبة لنا، إذ إنّ الأموال التي كنّا نستردّها من ثمن الأدوية التي يغطّيها الضمان لا تكفي قيمتها كلفة تعبئة البنزين للوصول إلى مركز الضمان وتقديم الفاتورة، ولذلك كانت تشكّل خسارة لنا”.
ويضيف في حديث لـ “مناطق نت”: “عند دخول المستشفى كانت الفاتورة الاستشفائيّة نفسها بوجود ضمان أو عدمه، وبتنا وكأنّنا غير مضمونين”. وعن الإجراءات الجديدة التي تمّ الإعلان عنها، يرى مراد أنّ “الوضع سيكون أفضل لكنّه لا يزال يحتاج إلى كثير من الإجراءات حتّى يعود إلى ما كان عليه”.
تساؤلات بالجملة
يطرح الإعلان عن الإجراءات الجديدة، علامات استفهام كثيرة لدى متابعي هذا الملف لجهة مدى تحقّقها وكيفيّة تطبيقها، أم أنّها مجرّد إعلان عن اصلاحات جديدة، للقول بأنّ الصندوق بدأ يتعافى، كما بدت الرسالة واضحة للجميع، وبالتالي استقطاب المضمونين وتشجيعهم على شراء الأدوية الأرخص ثمنًا أو أقلّه دون الالتفات إلى اسم الشركة المصنّعة في حال كانت المادّة فعّالة، بحسب ما يرددون. وهنا لا يمكن الاعتماد على قدرة المضمون على معرفة الأدوية الجيّدة والفعّالة وبالتالي يتوقّع من المعنيين نشر لائحة تتضمّن هذه الأدوية.
تقول مصادر الصندوق لـ “مناطق نت”: “الغاية الأساس تكمن في الحفاظ على اشتراكات المنتسبين من أجل المحافظة على الملاءة الماليّة للصندوق” لافتة إلى أنّ بعض الإجراءات قابلة للتطبيق راهنًا ليس أكثر.
وتضيف: “العبرة ستكون بالتطبيق، وحين يُحّصل المريض النسبة المعلنة من قيمة فاتورته الدوائيّة؛ وسيكون أحيانًا أمام أمر من اثنين، إمّا أن تكون التعرفة معتمدة في وزارة الصحّة أو أن تكون الأسعار المباعة في الصيدليّات مخالفة لتعرفة الوزارة”.
وهنا لا بدّ من لفت الانتباه إلى أنّ الصندوق حدّد تغطيته لثمن فحصيّة طبيب الاختصاص بـمليون و600 ألف ليرة، أيّ ما يوازي (18 دولارًا تقريبًا) بمعزل عن الثمن الذي يدفعه المريض للطبيب.
يطرح الإعلان عن الإجراءات الجديدة، علامات استفهام كثيرة لدى متابعي هذا الملف لجهة مدى تحقّقها وكيفيّة تطبيقها، أم أنّها مجرّد إعلان عن اصلاحات جديدة، للقول بأنّ الصندوق بدأ يتعافى
المستشفى الجامعيّ ليس للجميع
أمّا على مستوى التغطية الاستشفائيّة، سوف يصعب على المرضى الاستشفاء في المستشفيات الجامعيّة فئة (أ) بسبب اختلاف التعرفة بين الوزارة والمستشفى، مثال على ذلك، مستشفيات “أوتيل ديو” و”الجامعة الأميركية” “ورزق” و”الروم” في بيروت، فيما ستكون التغطية ممكنة في المستشفيات الأخرى المصنّفة (ب) مثل “وردية” و”طراد” و”خوري”، بحسب ما تؤكّد المصادر، ما يعني أنّ المستشفيات تكون جميعها متاحة أما المضمونين.
وعلى مقلب آخر، يتخوّف مضمونون من ألّا تلتزم المستشفيات بالقرارات الجديدة، وهنا لا بدّ من التأكّد من أن تكون الأمور واضحة أمام المضمون كي لا يدفع كلفة استشفائيّة خارجة عن هذه القرارات، وفي هذا الخصوص تواصلت “مناطق نت” مع نقيب المستشفيات الخاصّة، سليمان هارون والذي آثر عدم الحديث عن الموضوع في الوقت الراهن ريثما تتّضح الأمور أكثر.
وتلفت المصادر إلى أنّ ربط الإجراءات بالمراسيم التطبيقيّة بالنسبة إلى نظام التقاعد والحماية الاجتماعيّة مثلًا، يعني أنّ هذا الأمر سيأخذ كثيرًا من الوقت، والدليل أنّه منذ تسعة أشهر، أيّ منذ اتّخاذ القرار المذكور، لم يصدر أيّ مرسوم تطبيقيّ. أمّا بالنسبة إلى ضمان الزوجة لزوجها، فلم تحّدد مثلًا الشروط التطبيقيّة أو المستندات المطلوبة بعد لأجل تطبيق هذا الأمر، وهذا ما تجهله المضمونة راهنًا.
منافسة وشفافيّة؟
يرى مضمونون أنّ اعتماد السعر الأدنى، سيكون سببًا في حثّ مستوردي الدواء على خفض الأسعار في السوق، لمنافسة الأرخص ثمنًا، فيما كانت تحرص سابقًا على استيراد وبيع أدوية شركات تصنيع عالميّة. وفي هذا السياق، يرى بعض المتابعين لهذا الملف أنّه قبل الحديث عن المنافسة، لا بدّ من الالتفات إلى مدى فعاليّة هذه الأدوية وجودتها، إذ إنّ بعض الأدوية لا يمكن مقارنتها أو استبدالها.
وتختم المصادر: “السؤال الأهمّ: هل ستتمكّن فروع الضمان الثلاثة من تأمين التوازن الماليّ. جوابنا هو: نعتقد أنّ هذا الأمر صعب في فرع المرض والأمومة. من المهمّ أيضًا التزام الصندوق مبدأ الشفافيّة الماليّة لا سيّما في ظلّ غياب قطع الحساب منذ سنوات عدّة”.
العمّال يدفعون ثمن فشل الصندوق؟
يرى رئيس الاتّحاد الوطنيّ لنقابات العمّال والمستخدمين في لبنان كاسترو عبدالله أنّ إجراءات الصندوق الوطنيّ للضمان الاجتماعيّ التي أعلن عنها “هي في الأصل من ضمن واجبات الصندوق التي يجب عليه القيام بها عادة ليس أكثر” وبأنّ “ما وصل إليه الصندوق مقصود، من داخله وخارجه، خدمة لمصالح شركات التأمين الخاصّة كما بات واضحًا لنا على مرّ السنوات الماضيّة”.
وأضاف في حديث مع “مناطق نت”: “أنّ الصندوق تأخر في إصدار هذه الإجراءات، ولا تحلّ المشكلة الأساسيّة التي يعاني منها المضمون. بداية يجب إعادة التقديمات الصحّيّة والاستشفائيّة، وفق السعر الرائج ووفق ما كانت عليه، طالما أنّنا نقوم نحن المضمونين بتسديد قيمة الاشتراكات، وإعادة القوّة الشرائيّة للتعويضات لا سيّما نهاية الخدمة”.
ويتابع: “من المرفوض التمييز بين المضمونين، أنثى وذكر، وهو أمر غير عادل، وبمثابة انتقاص من حقوق المضمونة، علمًا أنّ قانون الضمان لم يميّز في التقديمات بين الجنسين، لكن للأسف، وطوال عقود سابقة، حُرمت المرأة من حقّها البديهيّ في ضمان زوجها والحصول على تقديمات عائليّة”.
ويختم عبدالله: “يتحمّل مجلس إدارة الضمان مسؤوليّة خسارة المضمونين لتعويضاتهم وفقدان قيمتها كونه فشل في الحفاظ على أموال الصندوق”.