تفاصيل اللحظات الأولى.. حين عاد اللاجئون السوريون إلى ديارهم
بعد 13 عامًا من الغياب، عادت جيهان إلى قريتها في ريف الشام، لململت أشياءها؛ تفاصيل ذكرياتها وأشواقها وكثيرًا من عذاباتها، ومضت إلى حيث ولدت وترعرعت وعاشت سنوات عمرها الـ 22 قبل أن تجبرها الحرب السوريّة على الهروب نحو لبنان في العام 2013.
جميلة في صور الذكريات
هي سيّدة سوريّة ثلاثينيّة، نازحة إلى لبنان، تشبه حالها أحوال سيّدات سوريّات كثيرات، فرضت عليهن الحرب عيش ظروف لم يخترنها، فيها كثير من القسوة والفقد والمرارة. وكما النساء، ثمّة أطفال ورجال وشيوخ، ومئات العائلات التي خرجت من سوريّا منذ أكثر من عقد، لأسباب مختلفة ترتبط بالحرب وويلاتها، لكنّهم عادوا اليوم إليها، مشَوْا في حاراتها، والتقَوْا بأحباب لهم بعد سقوط نظام عائلة الأسد الذي استمرّ نحو 50 عامًا.
تُخبرنا جيهان كيف أتت مرغمة إلى لبنان في العام 2013 بعد أن توفّي زوجها، وباتت الأب والأمّ لأطفالها. لكنّها عادت قبل أيّام قليلة إلى سوريّا بعد سقوط النظام، تقول: “شعرت أنّ الحياة حلوة وكلّ شيء جميل في سوريّا، على رغم حجم الدمار الكبير الذي شاهدته، لكنّ كلّ المساحات كانت بعيوني خضراء، لا تشوبها شائبة”، وتضيف لـ “مناطق نت”: “هي جميلة كما في صور الذكريات الماضية المعلّقة على جدران ذاكرتي”.
في الطريق إلى سوريّا
تُحدّثنا جيهان عن اختبار العودة، عن خفقان قلبها في اللحظة التي تخطّت فيها حاجز الحدود أو ما يعتبره بعض السوريّين سجن اللجوء الكبير، وتقول: “وأنا في طريقي من لبنان إلى سوريّا، ضحكت كثيرًا، ربّما حدّ البكاء، حتّى أنّني أخبرت سائق التاكسي ألّا يستغرب ضحكاتي هذه”.
أمّا المحطة الأولى “فكانت في منزل عائلتي، حيث قابلت أخي الذي لم أتمكّن من رؤيته طوال سنوات غربتي الـ 13، لأنّه كان هو أيضًا يعاني غربة من نوع آخر، داخل سوريّا”.
وفي الأيّام الـ 10 التي مكثت فيها جيهان في سوريّا، تنقّلت في شوارع قريتها وتأمّلتها، زارت مدينة إدلب التي ذاع صيتها كمدينة متطوّرة، على حدّ تعبيرها، شاركت أيضًا في الاحتفالات التي عمّت مظاهرها غالبيّة الأماكن هناك، تقول: “تقاسمنا الفرحة وتشاركناها سويّة، نحن الذين غادرنا بلدنا قسرًا”، وبعدها غادرت سوريّا إلى لبنان، إلى حيث عاشت طوال السنوات الماضية ورتّبت أمورها وحياة أطفالها.
سأعود بأقرب فرصة
تضيف: “عدت إلى حيث أعمل، هنا أيضًا تدرس ابنتي، لكنّ المفارقة الآن، أنّني سأتمكّن من الانتقال إلى سوريّا متى أشاء، وهذا بحد ذاته يبعث فينا الأمل بأنّ المستقبل سيكون مختلفًا، لنا ولأولادنا”. وتتابع: “كنّا في لبنان مجهولين، لا هويّة لنا ولا وجود، لا طموحات ولا أيّ تصوّر لمستقبل نريده، لكن الآن عاد إلينا بلدنا، سنبنيه من الصفر وكذلك سنبني أنفسنا، ونسير جنبًا إلى جنب”، وتختم: “حتمًا سأعود إلى سوريّا في أقرب فرصة وأستقرّ هناك”.
جيهان: كنّا في لبنان مجهولين، لا هويّة لنا ولا وجود، لا طموحات ولا أيّ تصوّر لمستقبل نريده، لكن الآن عاد إلينا بلدنا، سنبنيه من الصفر وكذلك سنبني أنفسنا، ونسير جنبًا إلى جنب
وكما جيهان، ثمّة سوريّون كثر اختبروا في الأيّام القليلة الماضية شعور الزيارة الأولى إلى بلدهم، فالشاب السوريّ وليد (33 سنة) واحد منهم يروي لـ”مناطق نت” مشهد العودة إلى بلده الأم ويقول: “كأنّه حلم وتحقّق. لم نتخيّل يومًا أنّنا سنلتقي وأحباب لنا، بعد طول فراق، وتحديدًا في بلدنا سوريّا” ويتابع: “إنّ إمكانيّة العودة نفسها كانت مفاجأة لم نتهيّأ لها، حصلت خلال أيّام قليلة وفجأة”.
عدنا برغم القهر
وعن تفاصيل زيارته الأولى بعد غياب دام عقدًا من الزمن يُخبرنا “أنّ هناك شيئًا ما تبدّل، شعرت به في اللحظة الأولى التي أصبحت فيها على الحدود السوريّة، فالطريق كانت سلسة للغاية على عكس ما كنّا نعيشه سابقًا، ودائمًا كان يخطر في بالي، أنّه على رغم كلّ القهر عدنا”.
وصل وليد ليلًا، قاصدًا مسقط رأسه الزبداني، وعلى الطريق هناك شاهد كيف بدّل الدمار معالم المكان، “المشهد لم يتبدّل، استعيد صورًا سابقة مماثلة، ربّما ما سيميّزه راهنًا أنّنا سنراه بعين مختلفة، عين الحلم والأمل بغد أفضل” يقول وليد.
فرح ممزوج بدموع التحرير
يُحدّثنا أكثر عن ذلك اليوم فيقول: “إنّه شعور لا يمكن وصفه، إنّه فرح ممزوج بدموع التحرير مع غصّة. قرّرت زيارة سوريّا بعد نحو أسبوع على إعلان التحرير. يومها وصلت إلى منزل العائلة في الزبداني حيث عشت كلّ مراحل حياتي. استمرّت زيارتي خمسة أيّام مرّت كلمح البصر، التقيت خلالها أصدقاء الطفولة وأبناء القرية وجميع المهنّئين بعودتي، تفقّدت الشوارع والأحياء. يقول أبي أنّ وجوه الناس تبدّلت هنا، باتت فيها ملامح بعد أن كانت مجرّد هياكل متنقّلة طوال الأعوام الماضية”.
وهكذا عمّت مظاهر الفرح، حسبما يُخبرنا وليد، على رغم الوضع المعيشيّ الصعب، وغصّة من فقدوا أحبابًا لهم، أو ظنّوا خيرًا بعد فتح أبواب المعتقلات.
سأعود وأتخرّج مهندسًا
ووليد شابّ سوريّ، أنهى سنته الدراسيّة الرابعة، اختصاص هندسة الكهرباء في جامعة دمشق في العام 2015، لكنّه قدِم إلى لبنان في زيارة عائلته لمدّة أسبوع آنذاك، وشاءت الظروف أن تمتدّ إقامته عقدًا من الزمن. وفي سنة النزوح الأولى، مرّ بظروف صعبة للغاية إلى أن تمكّن في ما بعد من الحصول على فرصة عمل مع إحدى المنظّمات في مجال العمل الإنسانيّ، ولهذا الأمر عاد راهنًا.
يقول: “عدت لمتابعة عملي الذي التزمه منذ سنوات، ولأنّ طفلي يتابع دراسته. لكنّ الأهمّ، أنّ لدينا خيارًا آخر، لم نعد مرغمين على البقاء هنا، بتّ غير مقيّد بمكان”، ويضيف: “بالتأكيد سأعود وأتخرّج من جامعتي في دمشق، وأصبح مهندسًا، وأقوم بكثير الكثير من الأشياء”.
كثيرة هي الأسباب التي منعت لاجئين سوريّين من العودة إلى سوريّا، منها عدم تأييد النظام، والخدمة العسكريّة الإلزاميّة، والوضع الأمنيّ المتفلّت في البلاد وكذلك الوضع الاقتصاديّ الصعب.
يُذكر أنّه بعد قرابة 14 عامًا، من الحرب الأهليّة الطويلة التي حصدت أرواح مئات الآلاف وتسبّبت بالغربة والنزوح للملايين من السوريّين، سقط حكم بشّار الأسد وبشكل مفاجئ، بعد أن امتدّ حكمه 24 عامًا. حدث ذلك، بعدما بدأت المعارضة السوريّة تحرّكاتها في الـ 27 من تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، بالتزامن مع دخول وقف إطلاق النار بين لبنان وإسرائيل حيّز التنفّيذ.