تقاسيم على وتَر أيلول
ما أن يصبح أيلول (سبتمبر) حقيقة على صدر الرزنامة، حتى يتنفَّس محبّو الشتاء الصعداء، ممسكين ثوب هذا الشهر بإحكام، مثل أطفال يرافقون أمّهاتم إلى السوق. يعلم الجميع أنّ أيلول يتألّف من ثلاثة أسابيع صيفيّة، وواحد خريفيّ، ثمة أسبوع كافٍ كي يحمل الأمل بقدوم البرد، ورومانسيّات الالتفاف حول حطب المواقد، فنوقن أنّ أيلول، حالة ذهنيّة تخيّليّة، تتجاوز واقعه كشهر صيفيّ.
في أواخره يبدأ موسم قطاف الزيتون، وفي أولّه يبدأ التحضير لموسم المدارس التي تفتح أبوابها للتلامذة المتثاقلين، بعد ثلاثة أشهر من العطلة، في كنف شمس صفراء صافية.
تكاد كلمة “أيلول” أن تكون بذاتها قصيدة، محمّلة بمشهديّات سحريّة، لا تبدأ مع سنونوات هذا الشهر التاسع، ولا تنتهي عند زخّات مطر خجولة، مبشّرة بخير السماء الهاطل، على مدى أشهر سوف تليه.
“البواحير”
يصادف شهر أَيـلول مع انطلاق السنة الكنسيّة الأرثوذكسيّة الشرقيّة. أيضًا فيه عيد الصليب يوم 14 أَيـْلُول بحسب التقويم الغربي، و27 أَيـْلُول بحسب التقويم الشرقيّ. هو كذلك موعد “الاعتدال الخريفيّ” في 22 منه، بمعنى انتهاء الصيف فلكيًّا، والشروع بفصل الخريف في نصف الكرة الشماليّ. وفي هذا الشهر، تقام “البواحير” الطريقة التقليديّة في الشرق للتنبّؤ بأحوال المناخ في الموسم المطري المقبل، باستخدام الملح الصخريّ. غالبًا ما تنجح تلك التوقّعات الحسابيّة، وفي أحيان تخيب الظنون، التي تبدو قاطعة لوهلة، غير أنّ للطقس مزاجًا آخر.
طيور أيلول
أيلول لفظ آراميّ- سريانيّ، محمَّل بميثولوجيا المكان والزمان، على عكس كلمة “سبتمبر” الحاوية لدلالة الشهر، بحياد تقريريّ جاف؛ فما أفقر تعبير “طيور سبتمبر” نسبة إلى “طيور أيلول” رواية الكاتبة اللبنانيّة إملي نصرالله (1931- 2018)، ابنة كوكبا، التي نشأت في الكفير، ثم درست في الشويفات، لتكون تلك الرواية، باكورتها التي حصدت ثلاث جوائز فور صدورها سنة 1962، وتصبح الرواية الأيقونة، الملتصقة بالقرية اللبنانيّة:
“عندما يحلّ أيلول، تاسع أشهر السنة، تمرّ فوق قريتها أسرابٌ كثيرة من طيور كبيرة الحجم، قويّة الجناحين، يعرفها السكان، بـ”طيور أيلول” ويتلفّت الناس نحو الفضاء الموشّح ببواكير الغمام، يراقبون الطيور، وفي صدورهم غصّات انفعال. إنّ هذه الطيور المهاجرة تسجّل نقطة جديدة في دائرة الزمن، ويذكرون أنّ فصل البرد أصبح على الأبواب. ويقف شيخ في منتصف الطريق يسند ثقله إلى عصا سنديان ويمسح شاربيه، ثمّ يرسل نظرات متسائلة نحو الطيور، تدغدغ حلمًا عزيزًا. وتمسح امرأة يديها المبلّلتين بالماء على جانبي ثوبها، وتنفض منديل الرأس لتعيد حزمه من جديد حول شعرها، وتشبع الطيور بنظرات الحنين…”.
هكذا تحوك نصرالله حبرها، مضفية تلك التفاصيل الحميمة، كأنّها تعيد مسرحة شهر أيلول، بل تؤنسنه كنسيج حيّ، نابض في مسام المكان.
السنونوّ
تنمّط طائر السنونوّ ككائن أيلوليّ بامتياز، كأنّه لا يبين سوى في هذا الشهر، ليختفي من بعده بقيّة أشهر السنة. لهذا التصوّر أساس علميّ، إذ يبرز هذا الطائر في سماء أيلول، فيميّزه الرائيّ بسهولة بميزة جناحيه، وذيله المقسوم، كأنّ له شفرتيّ مقصّ.
السنونوّ من رتبة العصفوريّات وهي عائلة من الطيور المهاجرة، تراوح أحجامها من 18 إلى 20 سنتيمترًا، وتشتهر في إنشاء بيوتها في السقوف العالية للأبنية القديمة.
“ورقو الأصفر”
بعد الروائيّة اللبنانيّة، تنبّه كتّاب الرواية إلى وقع “أيلول”، فاعتمدوه عنوانًا لأعمالهم، تسبقه كلمة، أو تستتبعه كلمة، فنورهان سعيد، اختارت “إنّه أيلول” وسمًا لروايتها، وتختار مروة مصطفى “أيلول تلك الفتاة الفاضلة”، و”سيّدة أيلول” لزياد أحمد محافظة. أمّا آية أحمد الحارثي، فاكتفت بـ “أيلول”، بينما عنون آخرون: “عهد أيلول” لنورهان طارق، و”هي أيلول” لآدم بريّة.
حضَر أيلول في عشرات القصائد، وأشهرها ما كتبه جوزف حرب، بالمحكيّة اللبنانيّة، فتغنّيه فيروز، في العام 1980، بتلحين بديع من فيلمون وهبي “ورقو الأصفر شهر أيلول تحت الشبابيك. وورقو دهب مشغول، ذكّرني فيك. رجع أيلول وانت بعيد بغيمي حزيني قمرها وحيد. بيصير يبكّيني شتي أيلول ويفيقني عليك يا حبيبي”. وقتذاك كان “دهب أيلول” عنوان ألبومها الأوّل، بعد انفصالها فنّيًا عن الأخوين رحباني.
في الأغنيات
فرَض أيلول حضوره على عشرات الأغنيات، مع عاصي الحلّاني في أغنيته الأشهر، مع كلمات: “والهوا طاير طاير، يلعب بهالضفاير، يرسم رقصة عالدّاير، يزهّر أيلول”، لتزهّر الجملة عينها في أغنية لوائل كفوري الذي صدح متسائلًا: “معقول يزهّر أيلول، درب الطلعة تصير نزول؟”، لتعود الشاعريّة مع أغنية وليد توفيق الذي غنّى “بكرا رح يرجع أيلول، يمرق مطرح ما كّنا. علّمني شو بدّي قول ان سألت نسماتو عنّا”، وتغنّي إليسّا في “فلّ الحكي”: “حلف ما يجي الربيع ويبقى أيلول الحزين”.
حضَر أيلول في عشرات القصائد، وأشهرها ما كتبه جوزف حرب، بالمحكيّة اللبنانيّة، فتغنّيه فيروز، في العام 1980، بتلحين بديع من فيلمون وهبي “ورقو الأصفر شهر أيلول تحت الشبابيك. وورقو دهب مشغول، ذكّرني فيك..
الجميع تناولوا الشهر كأساس للتحوّل من فصل إلى آخر، كعنوان لدخول الطقس مرحلته الباردة، بما تحمله الانطلاقة من خلع رداء، ممهّدًا الدرب أمام المطر، فيعيد تأسيس الأخضر من جديد.
أيلول في التراث العربيّ
تسرّب أيلول إلى قصائد الكبار، في تاريخنا العربيّ، فها هو “أبو نوّاس” يقول:
مَضَى أيلولُ وَارْتَفَعَ الْحُرُورُ
وأذْكَتْ نارَها الشِّعْرَى العَبُورُ
ويقول جحظة البرمكي:
فَقَد مَضى القَيظُ وَاحتُثَّت رَواحِلُهُ
وَطابَتِ الراحُ لمّا آلَ أَيلولُ.
أمّا ابن الرومي فيتناول الشهر من زاوية ثانية:
لولا فواكهُ أَيلولٍ إذا اجتمعتْ
من كل نوعٍ ورَقَّ الجوُّ والماءُ
إذاَ لَمَا حَفَلتْ نفسي متى اشتملتْ
عليَّ هائلةُ الجالَيْن غبراءُ.
كان لافتًا اعتماد تعبير أيلول وليس ما يقابله من شهر قمريّ، كونها شهورًا متحرّكة، متغيّرة، على عكس الأشهر الشمسيّة الثابتة.
أيلول سياسة ودمّ
“بحر لأيلول الجديد. خريفنا يدنو من الأبواب… بحرٌ للنشيد المرّ”، كتبَ الشاعر محمود درويش في ديوانه الشهير “مديح الظلّ العالي”، وأيلوله هنا محمّل برمزيّات سياسيّة، انطلاقًا من أحداث الأردنّ سنة 1970، مرورًا بالمنظّمة التي حملت اسمه “أيلول الأسود”، على خلفية تلك الأحداث، وللذاكرة الفلسطينيّة رزنامة حزينة، وطويلة مع هذا الشهر، تتكوّن من “صبرا وشاتيلا” سنة 1982، واتفاقيّ أوسلو 1993، وقبلها كامب ديفيد 1978. كذلك هو شهر الحدث الأكبر الذي أعاد خلط الأوراق الأمنيّة في الغرب والشرق، تمثّل بضرب البرجين في نيويورك، كان مشهدًا فوق ما يتصوّره العقل بتاريخ الـ11 من أيلول 2001. لذلك الحدث “الأيلوليّ” تداعيات فنّيّة، سينمائيّة وأدبيّة وتشكيليّة وهندسيّة بطبيعة الحال. هكذا نتعرّف على أيلول ابن الطقس بدلالاته الرومانسيّة، بينما الأحداث التي جرت فيه قابلة لحمل مفهوميّ الخير أو الشرّ.