تكامل بيئيّ تراثي يجعل القبيّات سياحيّة بامتياز
أشبه بجزيرة بيئيّة معزولة عن مشهد الخراب اللبنانيّ، تنتصب القبيّات في أقصى عكّار، مزنّرةً بأحراج الصنوبر واللزّاب، وغابات السنديان والبلّوط، فتحكي قصّة نجاح في الحفاظ على الطابع المعماريّ التراثيّ اللبنانيّ لبيوتها المبنيّة من الحجر والمسقوفة بالقرميد الأحمر.
يملأ الأخضر ناظريك كيفما قلّبت أطرافها، معزّزًا بغياب النفايات عن الشوارع. وهذا ما يستوقفك أينما حللت، بعدما اعتدنا على ذلك في معظم شوارع لبنان. لنخلص إلى أن الفضل في ذلك يعود إلى مجموعة من المبادرات البيئيّة لناشطين وخوارنة.
وعلى رغم بُعد القبيّات عن المركز، فإنّ أهلها تكيّفوا مع المسافة، يساعدهم انتشار مختلف المؤسّسات الرسميّة والتجاريّة في البلدة، وتمسّكهم بالرابط السياسيّ الوجدانيّ مع “لبنان الكبير”، وفلسفة “المارونيّة” المتأصّلة في نفوسهم.
دودة القزّ أصل الحكاية
تتحدّث جدران القبيّات عن تاريخها المزدهر، وانفتاحها على المناطق المحيطة بها منذ الحقبة العثمانيّة، فهي تحتضن مراكز صناعيّة منذ القرن التاسع عشر، ومجموعة من المؤسّسات التربويّة العريقة و”الإرساليّة الكرمليّة”. ويعتبر معمل الحرير أحد معالم البلدة الشهيرة، إذ احتضن الموسم السادس من أيّام ريف السينمائيّة للعام الحالي 2024.
تتحدّث جدران القبيّات عن تاريخها المزدهر، وانفتاحها على المناطق المحيطة بها منذ الحقبة العثمانيّة، فهي تحتضن مراكز صناعيّة منذ القرن التاسع عشر، ومجموعة من المؤسّسات التربويّة العريقة
تقول القصّة إنّه في العام 1897، جاء الجرّاح أليساندرو كاسيني من إيطاليا، سكن في القبيّات العكّاريّة، وأسّس أوّل معمل حرير في المدرسة الكرمليّة، وهو واحد من ثلاثة معامل ازدهرت في البلدة التي كانت تشتهر بتربية دودة القزّ.
بعد ذلك، اشترى كاسيني معمل آل فرعون، المعروف حاليًّا بمعمل الحرير في القبيّات، ويصبح مالكًا لأكبر معامل الشمال اللبنانيّ. ساهم هذا المعمل في تشغيل أبناء البلدة، وفي تمسّكهم بأرضهم. في الستينيّات من القرن العشرين، تحوّل إلى معمل للزيت قبل بيعه بـ15 مليون ليرة لبنانيّة للسيّد سركيس حاكمة، وحافظ ورثته على هذا المعلم السياحيّ الجميل، وهو يشكّل منظومة متكاملة حسنة التنظيم.
حاضنة للثقافة والبيئة
توقّف معمل الحرير عن إنتاجه القديم، وتحوّل إلى حاضنة للإبداع والفنّ والبيئة، وفي لحظة وصولك إلى المعمل يرشدك العاملون إلى ضرورة الالتزام بأصول الفرز، ورمي النفايات في الحاوية المخصّصة لها، سواء أكانت قابلة للتدوير أو عضويّة.
في العام الحالي، استقبل المعمل أيّام “ريف السينمائيّة” التي خلقت ديناميّة مميّزة في البلدة، وعزّزت موقع البلدة على لائحة السياحة الداخليّة. إذ نظّم (مهرجان) “ريف” بالتعاون مع “مرسح” جولات وتأمين نقل الراغبين في المشاركة من طرابلس إلى عكّار. وهو ما أسهم في تعرّف العشرات من أبناء الشمال على مناطق لبنانيّة لم يتعرفوا إليها سابقًا.
تؤكّد عضو مجلس البيئة في القبيّات دوريس الزير العلاقة الراسخة بين القبيّات وأيام “ريف” السينمائيّة، “إذ احتضنت طاحونة سماحة العروض والأنشطة المتنوّعة، قبل أن تنتقل إلى معمل الحرير”. وتناولت أنشطة “الهايكنغ” التي تجول في معالم الضيعة الطبيعيّة، “ويتفاعل هذا الأمر مع مجموعة كبيرة من أفلام تضيء على مشاكل البيئة والمجتمع. ناهيك بأنشطة العشاء القرويّ الذي تعدّه نساء عكّار، وأمسيات فنّ الغناء الملتزم”.
تشدد الزير في حديثها لـ”مناطق نت” على أهمّيّة المشروع “الذي يهدف إلى بلوغ مرحلة صفر نفايات، ونشر ثقافة الفرز، والتنبّه إلى كيفيّة التعامل مع النفايات التي ننتجها”.
تدوير الملابس
ممّا لا شكّ فيه، تشهد القبيّات وعيًا بيئيًّا متصاعدًا، ويسهم في ذلك “مجلس البيئة” في القبيّات، بالتعاون مع الناشطين. في هذا السياق، تبرز ورشة “تدوير الملابس” بإشراف المصمّمة ريتّا طانيوس التي تنطلق في حديثها من إعدادها مجموعة كاملة من الملابس في العام الماضي، وتنظيم عرضين اثنين، “العرض الأوّل في متحف هنري في البترون، أمّا الثاني فكان في مهرجان ريف الذي اهتمّ بإبراز التحوّلات البيئيّة”.
أعادت الورشة النظر في العلاقة مع كثير من القطع المنزليّة والقماش التي يتخلّى الناس عنها. وينطلق العمل من الستائر (البرادي)، وأغطية الطاولات، والملابس القديمة. تقول صاحبة Rytta Couture لـ”مناطق نت”: “أعطينا ملابس قديمة روحًا جديدة، وتجديد العلاقة معها”، مضيفةً “ما نقوم به يشكّل حلًّا، لأن أكثر ما يعانيه العاملون في التدوير هو التعامل مع القماش، لذلك نعمل على تخفيف هدر القماش، ونسعى إلى محاربة ثقافة الاستهلاك، وموجات الموضة السريعة التي تتبدّل كلّ عام”.
شارك شبّان وشابّات من الأعمار كافّة، وربّات منازل، في الطرح البيئيّ المتجدّد وتفاعلوا معه، وأنتجوا قطعًا فنّيّة. وفتحت الورشة “الصديقة للبيئة” الباب واسعًا أمام “فرص جديدة للسيّدات من أجل إعادة التدوير، وإنتاج تصاميم خلّاقة وفريدة، وبيعها”.
بين الطبيعة والتراث
كذلك تحافظ القبيّات على تاريخها الطبيعي من خلال معالم مختلفة، إن لناحية متحف عالم الحيوانات والطيور والفراشات القائم إلى جانب كنيسة مار ضومط، ويضم مئات من الطيور الجارحة والحيوانات البرّيّة المقيمة والمهاجرة، التي تستوطن أو تعبر موسميًّا فوق لبنان، وهي محنّطة بإشراف متخصّصين. ويعاين الزائر، الضباع والنموس (النمس) والعقبان والثعالب، بالإضافة إلى الآلاف من الفراشات، والطيور مثل الطاووس وأصناف الوروار والدجاج البرّيّ والعوسق والشاهين.
مشهد آخر، يستعرضه زائر القبيّات في مقام مار أرتيموس شليطا، الذي يشهد على صلابة أبناء المنطقة وتجذرهم فيها، ففي العبور إليه، يمرّ المشاة في وسط طريق تحوطه من مختلف حوافّه آلاف أشجار الصنوبر والدلب والنباتات البرّيّة النادرة.
عند الوصول إلى المقام، ثمّة نفق بمدخلين، ويضطر العابر إلى أن ينحني كي يستطيع الدخول. في الداخل، تنتشر عشرات الصور التي تؤرّخ عمليّة ترميم الدير. تشير لوريس هلال قديح التي رعت أعمال الترميم لـ”مناطق نت”، إلى “أنّ مداخل النفق جاءت منخفضة كي تذكّر الناس بضرورة انحنائهم أمام عظمة الخالق”، لافتةً إلى أنّه “أقيم على أنقاض معبد وثني ونسب إلى مار شليطا لأنّه كان من أشدّ محاربي الأوثان”.
تكامل بيئي تراثي
في داخل حرم الدير، تنتشر مجموعة من تماثيل قدّيسين والسيّدة العذراء، محاطة بأجران العماد، ومطحنة زيتون قديمة من حجر البازلت الأسود، وباحة واسعة في قلب الطبيعة. وليس بعيدًا من المكان، تحافظ الضيعة على المطحنة القديمة، إذ ما زالت تنتصب إلى جانب مجرى ماء متجدّد. ويجتذب المكان أعدادًا كبيرة من الزائرين، ومحبّي التصوير نظرًا لخضرته وأجواء الهدوء والجمال التي تعمّ المكان.
يترافق هذا المشهد الطبيعيّ مع وعي متزايد في البلدة حول ضرورة تنظيم أعمال الصيد، وإقامة منظومة بيئيّة متكاملة، وأعمال تشجير متنامية، تتبدّى آثارها ضمن مسارات المشي الجاذبة لمحبيّ هذه الرياضة من جميع أنحاء البلاد، وفي مختلف أرجاء البلدة التي تعتبر واحدة من أكبر البلدات العكّاريّة.