تلامذة الجنوب يتعلّمون تحت القصف والـ”أونلاين” خيار مفتوح
تعيش مدارس الجنوب مرحلة استثنائيّة، فالوضع المتوتّر عند الحدود، تجاوز هذه الحدود ووصل إلى حدّ أبوابها، في الخطوط الأماميّة والخلفيّة، ملقيًا الرعب فوق رؤوس الطلاب والأساتذة.
قبل أيام عبرت، عاش معظم تلامذة الجنوب والهيئات التعليميّة والإداريّة في المدراس التي ما زالت تفتح أبوابها في القرى البعيدة نسبيًا عن خطوط المواجهة، توتّرًا كبيرًا، وذلك إثر خرق طائرات العدوّ الإسرائيليّ جدار الصوت فوق معظم المناطق الجنوبيّة، ما أثار هلعًا وخوفًا. برغم أنّ هذا الخرق لم يكن الأول من نوعه، ولم يكن التجاوز الإسرائيليّ الوحيد، فأصوات القصف لم تهدأ طوال الفترة الماضية، كما أنّ المسيّرات والطائرات الحربيّة لا تفارق سماء الجنوب ولو للحظة.
تلامذة وسط الرعب والتخلّي
مشاهد الأطفال والخوف يسيطر عليهم انتشرت عبر مواقع التواصل، وكانت مؤثّرة، وجعلت الأهالي يقفون للحظة ويفكرون أكثر من مرّتين: ماذا يمكنهم أن يفعلوا؟ هل يسجنون أبناءهم بين أحضانهم أو يجعلونهم يمارسون حياتهم بشكل طبيعيّ بالرغم من كلّ القلق المحيط؟ وكذلك حال المدراس التي تبعثرت خططها ومختلف أجهزتها.
ريماس، تالين، ليان، أمل، حسين ومحمود جميعهم كانوا تلاميذ قبل أن يستشهدوا، كانوا يستيقظون باكرًا، يجهّزون حقائبهم ويركضون خلف دراستهم وأحلامهم، بيد أنّ الغارات الإسرائيليّة الغادرة القاتلة سرقت منهم أدنى حقوق الطفل التي تنادي بها الضمائر الحيّة والمنظّمات الدوليّة.
منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023، أقفلت جميع المدارس التي تقع على الخطوط الأماميّة أبوابها، وتوزّع تلامذتها بين من يتابع الدراسة عن بعد، أو التحقوا بمدارس أخرى في مناطق نزوحهم. جرى كلّ ذلك في ظلّ غياب خطّة واضحة لوضع هؤلاء التلامذة ممّن تركوا إلى مصائرهم.
لقد تركت هذه الأحداث المتسارعة والمتراكمة خوفًا في نفوس الإدارات والأهالي وقلقًا من الآتي، وضياعًا يعيشون تفاصيله يوميًّا، فالعدوان الإسرائيليّ بات خارج قواعد الاشتباك، وتجاوز كلّ الحدود والأهداف.
مسؤوليّة ثقيلة على المدارس
تعيش المدارس الجنوبيّة التي كان من المفترض أن تكون آمنة، قلقًا متزايدًا يومًا إثر يوم، وخصوصًا مع تزايد حدّة القصف. فالنبطية التي كانت آمنة منذ أشهر قليلة، لم تعد كذلك.
تعيش المدارس الجنوبيّة التي كان من المفترض أن تكون آمنة، قلقًا متزايدًا يومًا إثر يوم، وخصوصًا مع تزايد حدّة القصف. فالنبطية التي كانت آمنة منذ أشهر قليلة، لم تعد كذلك.
في هذا السياق، وفي حديث لـ”مناطق نت” مع مديرة ثانوية النبطيّة “هاي سكول” السيدة آمال شكر أشارت إلى “أنّنا نعيش ساعات مقلقة ولحظات صعبة، فلا نعلم متى ستدوي إمّا أصوات القصف أو هدير الطائرات”. وتسرد أنّه عندما اخترقت الطائرات جدار الصوت الأسبوع المنصرم “حاولنا بكل طاقتنا استيعاب الأمر والخوف الذي حلّ بالطلّاب والكادر التعليميّ”.
وتضيف شكر: إنّ الحلقة الثانية هي الأكثر تأثّرًا بما يحصل، كون التلامذة في الحلقة الأولى وعيهم منخفضٌا، لذلك لن يدركوا تمامًا ما يحصل حولهم، وفي الحلقات الأعلى من المفترض أن يعوا أنّه مجرّد اختراق لجدار الصوت، ولن يحصل الأسوأ. عدا عن حالة القلق والخوف التي اعترت الأهالي، ومسارعتهم للحضور إلى المدرسة كي يطمئنّوا على أولادهم”.
ولفتت شكر إلى “أنّنا حاولنا التخفيف على الصغار بشكل إيجابي للتهدئة من روعهم، فجلسنا نراقب الطائرات معهم ونطلب إليهم تعدادها وتعداد الأصوات التي تطلقها، إلى أن انتهت الحصّة الدراسيّة الأصعب التي يعيشها أطفال لبنان في مدارسهم”.
“الأونلاين” بات قريبًا؟
وعن الخطوات اللاحقة، أكّدت المربّية شكر “أنّنا في صدد متابعة الوضع، وبحال لن يتمّ الاتفاق على حلّ أو هدنة قريبة، سوف نتّجه إلى متابعة العام الدراسيّ عن بعد، “أونلاين” ونحن على أهبّة الاستعداد لذلك، فلا يمكن الاستمرار بهذا الوضع الذي يجعل التلامذة في حال ضياع تام”. ولفتت إلى “أن بعض التلامذة باتوا يتأخّرون عن الحضور صباحًا، حتى يتأكّدوا أنّ كلّ شيء على ما يرام، وبعضهم ربّما يغيب كليًّا عن المدرسة”.
وتضيف: ” بالرغم من أنّ جائحة كورونا كانت عدوًّا مجهولًا، إلّا أنّها ترافقت مع إجراءات لتفاديها. بينما اليوم عدونا معروف ومكشوف، ولكن بسبب غدره لا يمكننا اتّخاذ الاجراءات الحمائيّة اللازمة”.
آمال شكر: إننا في صدد متابعة الوضع، وبحال لن يتمّ الاتفاق على حلّ أو هدنة قريبة، سوف نتّجه إلى متابعة العام الدراسيّ عن بعد، “أونلاين” ونحن على أهبّة الاستعداد لذلك.
وعن تأثير ما يحصل على المستوى الأكاديميّ للتلامذة، تشير إلى “أنّ هناك تأثيرًا واضحًا وكبيرًا على معدّلات الطلّاب، وهذا ظهر جليًّا من خلال نتائج امتحانات نصف السنة. إلّا أنّنا نحاول استيعاب الوضع، والقيام بخطوات تخفّف الضغط على التلامذة ونتفهّم المرحلة الحسّاسة التي يمرّون بها”.
أمل الدرّ في وجوه رفاقها
يشير مدير الثانويّة الجعفريّة في صور الصحافيّ حسن الدرّ إلى “أنّ الوضع دقيق جدًا، لذا علينا كمعنيّين أن نحسب خطواتنا جيّدًا، وخصوصًا أنّ مستقبل جيل بكامله بين أيدينا”.
خسرت الثانويّة الجعفريّة “أملها” قبل أيّام بغارة إسرائيليّة قرب منزل ذويها في بلدة المنصوري، لا تزال تلملم جراحها حتّى اليوم، بعدما تركت الشهيدة الصغيرة أمل الدرّ مقعدها فارغًا في الصفّ، وتركت في قلوب أصدقائها ومعلّميها فراغًا لن تملأه الأيام. وبحسب الدرّ، في حديث لـ”مناطق نت”، “لقد خسرها جميع من في الثانوية. ولمّا يزل الحزن يلفّ الجميع، وملامحه تطغى على التلامذة كافّة”.
وعن الخطوات المقبلة، يقول الدرّ لـ مناطق نت”: “نحن إلى هذه الساعة في منأى عن القصف المباشر في مدينة صور، لذلك فإنّ أيّ خطوة إقفال ليست محسوبة ستثير بلبلة بين التلامذة والطلّاب والأهالي. وبالرغم من أنّ الطلّاب يبذلون قصارى جهدهم للبقاء في أجواء الدراسة، إلّا أنّ الضياع سيّد الموقف”. ويؤكّد وضوح ذلك في النتائج التي يسجلها التلاميذ.
إرشادات للتلامذة بمواجهة العدوان
يعيش الأهالي والتلامذة معاناة مزدوجة، فهناك قلق على السنة الدراسيّة التي لم يعرف حتّى اليوم مصيرها، بالإضافة إلى الوضع الأمنيّ القائم ولا أحد يعرف إلى أين سيتجّه وكيف ستتطوّر الأمور.
إنّ المشهد الثابت في الأسبوعين الأخيرين، هو مشهد الأهالي الذين ينقلون أبناءهم إلى المدرسة صباحاً، ثمّ يهرعون لإعادتهم منها عند دويّ اختراق جدار الصوت من الطائرات الحربيّة أو القصف الموزّع هنا أو هناك. أمّا التلاميذ فضائعون علام يجب تركيزهم، أعلى الحصّة الدراسيّة أم على تحديد مواقع القصف وساعة النجاة؟!
تقول حسناء حمّود ابنة الـ 16 عامًا في حديث لـ”مناطق نت”، وهي تلميذة في “ثانوية السراج” في يانوح قضاء صور، إنّه أثناء خرق جدار الصوت الأسبوع الماضي “سادت حالة من الذعر بين الأطفال، وسارع الأهالي إلى الحضور والاتّصال للإطمئنان. لقد دفع الأمر عديدًا من المدارس إلى القيام بحملات إرشاديّة وتوعويّة حول هذه الأحداث التي حصلت، أو يمكن أن تحصل لاحقًا، والتأكيد للأطفال أنّ جدار الصوت لا يشكّل خطرًا، إلى إرشاد حول الإخلاء في حال أيّ مكروه”.
في الاتجّاه نفسه، تحكي التلميذة في الصفّ الخامس أساسيّ قمر عجمي، في “مدرسة قدموس” في العبّاسيّة (صور)، لـ”مناطق نت”، عن الحالة التي سادت المدرسة إبّان خرق جدار الصوت فتقول: “كنّا نتابع دراستنا بشكل طبيعيّ، وفجأة دوى جدار الصوت ما شكّل حالة من الهلع لدى كثيرين، وسرعان ما قمنا بإبعاد المقاعد من أمام النوافذ خوفًا من تحطّم الزجاج”. ولفتت إلى “أنّ الأساتذة حاولوا ضبط الوضع، إلّا أنّ هناك من سيطر عليه عامل الخوف، وهذا ما جعل اليوم الدراسيّ يضيع سدى”.
أمّا والدة أحد التلامذة في النبطية، فتؤكّد لـ”مناطق نت”، أنّهم اعتادوا على الوضع القائم “ولم يعد بالإمكان سوى العيش بطريقة طبيعيّة. لقد تأقلم التلامذة مع الأحداث الجارية في الجنوب، حتّى بات بعضهم يبادر إلى تطمين ذويه بأنّه لا داع للقلق، وهذا ما فعله إبني حينما حصل اختراق جدار الصوت من يومين، فبادر إلى الاتّصال بي ليطمئنني بأنّه: بس جدار صوت، وما في شي”.
التلامذة في الحرب النفسيّة
لا شكّ أنّ كلّ ما حصل في السنوات القليلة الماضية ترك أثره الواضح على سلوكيّات الأطفال والمراهقين، وكذلك على ذويهم، فلم يكن سهلًا كلّ ما عايشوه، من إغلاق عامّ وانتفاضة السابع عشر من “تشرين” وانفجار بيروت الذي أثلم جرحًا في كلّ لبناني، ثمّ الانهيار الاقتصاديّ. لقد حصل كلّ ذلك في فترة زمنيّة وجيزة، واليوم يعيش اللبنانيّون وأبناء الجنوب تحديدًا تبعات الحرب الهمجيّة.
في هذا الإطار، تشير الاختصاصيّة التربويّة زينب محمود الزيّون في اتصال مع “مناطق نت”، إلى “أنّ ما يحصل أخيرًا سيؤثر بشكل كبير على الجميع، خصوصًا أنّ كلّ الأحاديث تدور اليوم في فلك الأخبار اليوميّة وما يحصل من اعتداءات على المناطق الجنوبيّة، وفي كلّ مكان”. وتؤكد أنّه “يجب تعميم فكرة الحديث والتعبير عن المشاعر التي تتركها الأحداث، خصوصًا في المدارس، وهذا ما يحصل فعلًا في عديد من المدارس اليوم، حيث تخصّص أوقات كي يتحدّث كلّ طفل عن مشاعره وعن الأحداث التي تحصل حوله على نحو مجزرة النبطية الأخيرة”.
وتحثّ الزيون على “أنّه من المهمّ جدًّا تهيئة الأطفال تجاه ما يمكن أن يحصل، وخصوصًا لجهة دويّ الغارات وأصوات الطائرات، وطمأنتهم إلى أنّ ذلك لن يلحق بهم الأذى المباشر، وأنّهم سيكونون بمأمن، وأن يحاول الأهل قدر الإمكان أن يحافظوا على الروتين الطبيعيّ للطفل وممارسة هواياته وإبعاده عن مصادر الأخبار”.
أمام كلّ ما يجري، تسود أمنية يرغب الجميع حصولها، وهي أن تنتهي الحرب عند هذا الحدّ، ويعود التلامذة والطلّاب إلى مدارسهم وجامعاتهم فيكدّون من أجل مستقبل أفضل. أمّا الحلّ المؤقّت، فيتمثّل في أن تتذكّر وزارة التربية أنّ آلاف التلامذة في المناطق الجنوبية من لبنان يحلمون بأن يتابعوا دراستهم بأيّ وسيلة ممكنة، وعليها وحدها مسؤوليّة وضع خطّة طوارئ تنقذ ما تبقّى لهم من عامهم الدراسيّ.