“تلفزيون لبنان” ذاكرتنا الجمعيّة المخبّأة في مصرف لبنان
لم تكن الصورة المتحركة والناطقة في خمسينيّات القرن الماضي، حدثًا مدهشًا بشكل كلّيّ، إذ كانت غالبيّة الشعب اللبنانيّ قد سمعت بالسينما، أو دخلت إلى صالاتها لمشاهدة أفلام تلك المرحلة، بالأسود والأبيض. بينما كان الراديو قد احتلّ زاويةً في منازل الميسورين، ومتوسّطي الحال. كان نافذتهم على الأحلام السياسيّة، والوطنيّة الكبرى، من خلال نقلها لخطابات الرئيس جمال عبد الناصر، والأحلام العاطفيّة المثاليّة، بصوت السيّدة أم كلثوم.
وقتذاك كان الناس قد سمعوا باختراع مرئيّ، ناقل للصورة والصوت يدعى تلفزيون (التلفاز)، إذ كانت عدّة بلدان أوروّبيّة قد قطعت شوطًا في هذا العالم، وقد اطّلع عليه عدد لا بأس به من اللبنانيّين المغتربين. مع ذلك كانت خطوة تأسيس شركة تلفزيونيّة خاصّة في لبنان أمرًا يستحقّ المحاولة، ولم تكن تلك الخطوة صادرة عن الدولة اللبنانيّة، بل بطلب من رجليّ أعمال لبنانيّيَن هما وسام عزّ الدين وألكس مفرّج بالتعاون مع شركة طومسون الفرنسيّة المنتجة للمحطّات التلفزيونيّة، (وكان هناك دور في تسهيل المهمّة لدوري شمعون، نجل الرئيس كميل شمعون) وذلك في شهر تشرين الأول (أكتوبر)العام 1954.
شركة التلفزيون اللبنانيّة
في شهر آب (أغسطس) 1956 كانت الاتفاقيّة قد تبلورت بين الرجلين والحكومة اللبنانيّة تألّفَت من 21 بندًا، نالت على أثرها الشركة الموافقة، لتنطلق تحت اسم “شركة التلفزيون اللبنانيّة”، ويَسمَح لها هذا الترخيص بالارسال مدّة 15 عامًا.
بعد بضعة أشهر، في ربيع العام 1957 وُضِع حجر الأساس على تلّة رمليّة، يطلق عليها أهالي بيروت اسم تلّة الخيّاط. كان الحفل برعاية رئيس الجمهورية آنذاك كميل شمعون، ورئيس الوزراء سامي الصلح. في الـ 28 من أيار (مايو) 1959 بدأ البثّ عبر المحطة التي اشتهرت باسم “القنال7″، بستّ ساعات من البثّ، تنطلق يوميًّا من السادسة مساءً، حتّى الثانية عشرة ليلًا. الشركة الجديدة بثّت كذلك باللغة الفرنسيّة عبر “القنال 9″، بالتعاون مع شركة “أو إر تي في” الفرنسيّة.
تسويق الفكرة وتحريمها
بطبيعة الحال، احتاج المؤسّسون إلى حملة ترويج ودعاية وتحفيز فيها كثير من الاغراءات، حتّى يقدم الناس على شراء ذلك الصندوق الذي لم يشهدوا مثيلًا له من قبل، وفي وقت قصير، أصبح الجهاز بذاته وسيلة دعاية لفكرة اقتناء الجهاز، إذ صار الاقارب والجيران يزورون صاحب التلفاز، ليشاهدوا المسلسلات والبرامج ونجوم الغناء، ممّا حفّزهم لاحقًا على السعي لاقتناء جهاز مماثل، خصوصًا أنّ البيت الذي يحوي تلفازًا يُشار له بالبنان، وكان للوضع بعد طبقيّ كذلك.
مع ذلك اندلعت نقاشات كثيرة حول هذا الوافد الذي يقدّم ثقافات لا تتفّق جميعها مع عادات الناس وأعرافهم، فهذه المذيعة بفستان مكشوف الكتفين، وذاك المذيع يتودّد إلى ضيفته بلطف، مع مسلسلات مبنيّة على قصص الحبّ، فكانت هناك فتاوى دينيّة بكراهيّة الشاشة الفضيّة أو تحريمها عند البعض، لا سيّما أولئك الذين أطلقوا عليه لقب “الأعور الدجّال”، أيّ الشرّير الذي سوف يظهر في آخر الزمان ليغوي الناس، بحسب التراث الدينيّ الإسلاميّ.
اندلعت نقاشات كثيرة حول هذا الوافد الذي يقدّم ثقافات لا تتفّق جميعها مع عادات الناس وأعرافهم، فهذه المذيعة بفستان مكشوف الكتفين، وذاك المذيع يتودّد إلى ضيفته بلطف
محطّة منافِسَة قبل الدمج
نجح رهان المستثمرين وفرض التلفزيون حضوره على الشعب اللبنانيّ، حتّى أصبحت غالبيّة أحاديث الناس مستمدَّة ممّا شاهدوه على الشاشة الصغيرة في الليلة السابقة. حال دفَعت مجموعة من رجال الأعمال إلى تقديم طلب بغية إنشاء محطّة تلفزيونيّة أخرى، نالت الترخيص بالفعل في تمّوز (يوليو) 1961، لينطلق البثّ في أيار 1962، تحت اسم “تلفزيون لبنان والمشرق”، ومقرّه منطقة الحازميّة شرقي بيروت، وقد عُرِف هذا التلفزيون بالقنالين 5 و11.
تنافست المحطّتان على استقطاب الجمهور لتكون منافسة شديدة في تقديم أبرز النجوم، خصوصًا العرب منهم، كذلك صناعة البرامج وشراؤها بما يقتطع شرائح أوسع من المشاهدين.
لكن، وبسبب مساحة لبنان وعدد سكّانه لم تتّسع السوق الاعلانيّة لمحطّتين، فقرّرا إنتاج نشرة أخبار مشتركة سنة 1974، ويكون الدمج الكلّيّ بين المحطّتين سنة 1977، إذ كانت الحرب اللبنانيّة قد غيّرت حسابات المستثمرين فكان “تلفزيون لبنان”، الاسم الرسميّ الناتج عن عمليّة الدمج، بعدما دخلت الدولة اللبنانية كشريك ثالث، وتحصل على 50 في المئة من أسهم الشركة، بينما ينصّ العقد على استغلال الأقنية مدة 35 سنة انتهت في العام 2012، إذ اشترت الدولة اللبنانيّة بقيّة الأسهم، وصار التلفزيون مملوكًا من الدولة بشكل كامل.
شاشات ومبارزات
مع انطلاق شرارة الحرب الأهليّة اللبنانية في العام 1975، ظهرت علامات التمايز بين المحطّتين، فكانت تلّة الخياط قريبة من توجّهات الحركة الوطنيّة اللبنانية (اليساريّة)، بينما الحازميّة أقرب إلى الجبهة اللبنانيّة (اليمينيّة) وكانت هذه الأخيرة في ما بعد ناطقة باسم حكومة العماد ميشال عون، في العام 1988، بخطاب حادّ ضدّ منافسه في الغربيّة، الرئيس سليم الحصّ. كذلك كانت المحطّة رأس حربة في مقابل “القوّات اللبنانيّة”، التي تهاجم الجنرال ومشروعه عبر “المؤسّسة اللبنانيّة للإرسال”، وهي مرحلة ظهرت فيها تلفزيونات عدّة، مثل “المشرق”، و”آي سي إن”، و”سي في أن”، و”كيليكيا”…
في أثناء الحرب، انتقل أبرز وجوه الشاشة ومخرجوها إلى العمل في الأردن، وشاركوا في برامج ومسلسلات وأعمال مدبلجة. بينما استمر “أبو ملحم” في تقديم خطابه الجامع في مسلسله الأسبوعيّ “يسعد مساكم”، كدعوة مبطّنة إلى أفرقاء الصراع للعفو والمسامحة، فكانت حلقاته مصدر طمأنينة للمواطنين العاديّين، بينما كان المسؤولون منشغلين بتسجيل النقاط بالدم والحديد والنار.
المدراء وأبرز البرامج
منذ العام 1978، تعاقب على إدارة تلفزيون لبنان السادة: شارل رزق، موسى كنعان، ريمون جبارة، جورج سكاف، فؤاد نعيم، جان كلود بولس، إبراهيم الخوري، طلال المقدسي، توفيق طرابلسي وفيفيان لبّس صفير.
كان الصحافيّ الرياضيّ ناصيف مجدلاني أوّل من أطلّ على الناس عبر شاشة التلفزيون، ليتبعه فريد جبر ببرنامج “السينما في اسبوع”، ثم برزت أسماء عدّة في التقديم، مثل: نجيب حنكش ورياض شرارة وجان كلود بولس وصونيا بيروتي، من دون أن ننسى المذيعة المصريّة ليلى رستم ابنة أخ الفنّان زكي رستم، والحاصلة على ماجستير صحافة في جامعة نورث وسترن بالولايات المتحدة الاميركية. ثمّ برزت أسماء جديدة مثل نهى الخطيب (سعادة)، وسعاد قاروط (العشّي)، ووفاء العود. بينما كان عرفات حجازي أشهر مقدّمي نشرة الأخبار مع فؤاد الخرسا.
نقلة ملوّنة
في الـ21 من تشرين الأوّل من العام 1967، انطوت صفحة شاشة الأبيض والأسود، وانتقلت إلى شاشة التلفزيون الملوّنة، لكن، كان معظم الناس لم يقدموا بعد على شراء أجهزة مهيّأة لاستقبال الألوان، فظلّوا يشاهدون البرامج بالأسود والأبيض، وبنت خلالها ذاكرة كثيرين على مشاهد بلا ألوان، على افتراض أنّه الواقع الحقيقيّ للشاشة، بينما كانت قد تلوَّنَت منذ سنوات.
صاغت تلك القنوات العقل الجمعيّ للشعب اللبنانيّ، من خلال تلك الأعمال التي قدّمتها، من “يا مدير”، و”شارع العزّ”، و”الدنيا هيك”، و”عيلة الشوبكلي”، إلى “استديو الفنّ”، و”اليانصيب الوطنيّ اللبنانيّ”، و”مسرح شوشو”، و”المعلّمة والاستاذ”، وجميع حلقات فرقة “أبو سليم الطبل”، وأبو ملحم، بينما كانت مهى سلمى المقدّمة الدائمة لبرامج الأطفال، وهي من الفقرات الأولى ضمن البرمجة، كما كانت تُعرَض حلقات الفرنسيّ جاك مارتان مع الصغار الموهوبين، في برنامجه “Ecole des fans” في مطلع الثمانينيّات، وتنوعّت مسلسلات الأطفال، فيحتلّ “غرندايزر” (رسوم متحركة يابانيّة) رأس القائمة، ومعه “سندباد”، و”ريمي”، و”ساندي بل”، و”جزيرة الكنز”…
انطوت صفحة شاشة الأبيض والأسود، وانتقلت إلى شاشة التلفزيون الملوّنة، لكن، كان معظم الناس لم يقدموا بعد على شراء أجهزة مهيّأة لاستقبال الألوان
أرشيف لإرث إنسانيّ
تُعتَبر ساعات التسجيل والبثّ التي يمتلكها تلفزيون لبنان إرثًا انسانيًّا، إذ يتضمّن الأرشيف أكثر من 50 ألف ساعة من الأشرطة المسجّلة بين مسلسلات وبرامج ولقاءات حواريّة ونشرات أخبار، وتغطيات الأنشطة والمعارض وزيارات الرؤساء والشخصيّات.
منذ العام 2010، ثمّة عمل دؤوب من قبل الموظفين لتحويل هذه المادّة الأرشيفيّة كي تصبح في نطاق العالم الرقميّ. وسيحمل إدراج أرشيف تلفزيون لبنان على لائحة اليونسكو (إن حصل) “أهمّيّة رمزية ومعنوية كبرى. وسيعطي قيمة ثقافية أكبر للبنان، ويضع إرثنا الإعلاميّ على الخريطة العالميّة”، بحسب ما كان صرّح به وزير الإعلام زياد مكاري لوكالة “فرانس برسّ”.
يشار إلى أنّ تلفزيون لبنان يمتلك نسخًا إحتياطيّة عن هذه الموجودات، موزّعة في أماكن مختلفة، خوفًا من أيّ أحداث أو ظروف مفاجئة في بلد مثل لبنان، يعيش الحروب والخضّات والتوترات بشكل دائم. علمًا أن جزءًا من هذا الأرشيف موضوع في خزنة داخل مصرف لبنان.