تهميش سنوات طويلة يتكشّف بليلةٍ واحدة.. بعلبك خارج الصورة
“بعلبك خارج الصورة”… أقتبس هذا القول من صديقتي الجنوبيّة التي كتبت أنّنا اليوم، وفي زمن الصورة، تغرّد بعلبك وحيدةً خارج الصورة، في وقتٍ تتهافت فيه المنصّات والمحطّات الإعلاميّة على توثيق كل ما يجري خارج حدود هذا القطاع البقاعي المهمّش على أصعدة عدّة، وفي وقتٍ اعتاد البقاع أن يكون دائمًا الخبر الكبير، عندما يتعلق الأمر بجريمة أو حادثة تسترعي انتباه المتفرجين.
هذا التهميش الذي اعتاد عليه أبناء المنطقة، بات اليوم يثير فزعهم أكثر، يدفعهم إلى أن يستنجدوا، أن تعالوا فقط وأظهروا للعالم كيف مرّت علينا تلك الليلة، كيف قتل الأطفال في منازلهم، كيف قضت عائلات بأكملها، ووثقوا ملامح الحيرة في أوجه من هبّوا كي يرفعوا عن أهلهم ما حلّ بهم، وهم لا يعلمون، أين نبدأ، أين ننتهي، ولماذا نبدو كأننا متروكون إلى المجهولٍ، قد ينتهي اليوم، قد ينتهي بعد أشهر طويلة.
تخيفهم، كما تخيفنا جميعنا، هذه الخاطرة الأولى: “أن نموت، وأن يكون موتنا خبرًا عابرًا لا يأخذه الآخرون على محمل الجدّ، ألّا يرى دمنا وجراحنا وخوفنا إلا قلةٌ في سياقٍ متسارع للأحداث، أن تغرق ملامح من مات منا في ذلك الدفق الهائل من الصور التي لا تشملنا، أن نحفر بأيدينا في المجهول كي نعثر على الأحياء منّا، لأنّ عدسات الكاميرات لم تلتقط عجزنا الواضح الجليّ، وأن يتكرّر هذا المشهد مرات عدّة، حتّى تضيع الصورة وما يفترض أن تحمله من معنى”.
تخيفهم، كما تخيفنا جميعنا، هذه الخاطرة الأولى: أن نموت، وأن يكون موتنا خبرًا عابرًا لا يأخذه الآخرون على محمل الجدّ، ألّا يرى دمنا وجراحنا وخوفنا إلا قلةٌ في سياقٍ متسارع للأحداث
البقاع، أو “بعلبك” كما يحلو للبعيدين عنه أن يمنحوه اسمًا، تيمّنًا بالآلهة التي حرسته لعقود طويلة، وبالشمس التي أشرقت منه وإليه، يعيش اليوم، بقراه الصغيرة المتباعدة المتناثرة، ومدنه الكبيرة المزدحمة بناسها، كسائر ما تعيشه المناطق الأخرى، حربًا مفتوحة على كل الاحتمالات، إنما خجولة عن الذكر، وبعيدًا من الأعين، وربما لا ينتظر أبناؤه أكثر من أن يرى، من يفترض به أن يرى، أيّ واقعٍ عاشته، وما زالت تعيشه هذه المنطقة، أن يرى مرغمًا هذه المرّة، ما أغمض عنه عينيه سنوات طويلة، وترك للناس أن يتحمّلوا تبعاته، في أيّام السلم قبل أيّام الحرب الحاليّة.
تهميش سنوات يتكشّف في ليلة
أكثر من 150 غارة، أربعون منها سقطت في بعلبك، حوّلت ليل المنطقة إلى كرة نار وجحيم قلّ نظيره، في ظلّ غياب شبه تام للتغطية الإعلاميّة الرسميّة، إذ تحوّل البقاعيّون أنفسهم، عبر منصّاتهم على مواقع التواصل الإجتماعي، إلى مراسلين محلّيّين، يعلن كلّ واحد منهم من مكان تواجده، حصول غارة في المنطقة الفلانيّة، وأضرارٍ في مبنى، وسقوط شهداء وجرحى في أماكن محدّدة، مع مناشدات للمعنيّين بالتوجّه إليه لإغاثة العالقين تحت الأنقاض، وإنقاذ من يمكن إنقاذه، في ظلّ نقص حادٍّ في المعدّات الموجودة، ولجوء المدنيّين من غير ذوي الخبرة للتعامل مع الأضرار الناجمة عن الاستهدافات من خلال قدراتهم المحدودة.
صباحًا، تمّ إحصاء عدد الغارات، مع تأكيد على وجود شهداء وجرحى وعائلات بأكملها تحت الركام، بينهم أطفال، وأطلق البقاعيون ليلًا مناشدات عديدة عن حاجتهم الماسّة إلى وحدات دم من جميع الفئات، في جميع مستشفيات المنطقة، التي تعاني بالأصل من عجزٍ في الإمكانيّات، لا يقتصر على بنك الدم فحسب، بل يذهب إلى ما هو أبعد من ذلك، حيث يواجه القطاع الطبّي في البقاع صعوبة قديمة في التعامل مع الحالات الحرجة والمستعصية، والتي كان يتمّ نقلها إلى مستشفيات أكثر جهوزيّة وإمكانات في بيروت، وهو ما يعقده اليوم، الحال التي تعيشها البلاد بأكملها، والخطر الداهم الذي تشكّله الإعتداءات الإسرائيليّة المتواصلة على القرى والطرقات في مختلف المناطق.
تأخّر عمليّات الإغاثة في إخراج الجرحى من تحت الركام، مع ما تعانيه المستشفيات المجاورة للتعامل مع هذه الحالات، بالإضافة إلى النقص في وحدات الدم الضرورية للعمليات الجراحيّة، سيؤدي غالبًا إلى خسارات بشرية أكبر، وستتضاءل أمام هذا الواقع فرص النجاة الممكنة أمام المصابين، ممّن يدخلون في عداد المفقودين إلى حين إنتهاء رفع الأنقاض، ممّا ينذر بكارثة قد يعاني منها قطاع بعلبك الهرمل في حال استمرت الأمور على ما هي عليه في الفترة المقبلة.
نزوحٌ نحو العدم
مع اشتداد وتيرة القصف العشوائيّ، وضبابية المشهد، خرج بعضهم من منازلهم في ساعات الليل المتأخّرة، خرجوا وحلّوا في الشوارع، إلى حين تنتهاء كابوس هذه الليلة، وغدًا ربما يبحث كلّ واحدٍ منهم عن مكان آخر، ليفترشه، لينام فيه باطمئنان، وربما إذا قضى شهيدًا، فعلى الأقلّ، أن يكون ثمة شاهدًا على تلك اللحظات الأخيرة.
تلك اللحظات، لعل صار فيها اللامكان آمنًا أكثر، من شبح الأمكنة التي يمكن أن تصير برفّة عين واحدةٍ ركامًا، يأّن تحته أطفال وينتظرون طويلًا قبل أن تمتدّ إليهم أيادي غوث كثيرة، وقبل أن يتنامى إلى أذانهم، صوتٌ يخبرهم بأن ينتظروا قليلًا ريثما يخرجونهم من حيث ما زالوا أحياء يتنفّسون، وأنّ ثمّة من ينتظرهم ليضمّد جراحهم على قدر ما يستطيع، مهما كان عمقها وأثرها البالغ عليهم.
في العراء، تجمّد الوقت لدى كثيرين، ناشد أحبتهم عبر مواقع التواصل الاجتماعيّ أن ينقلهم أحدٌ إلى أيّ مكان آخر، دون وجهة واضحة، دون رؤية واضحة لما ينتظرهم غدًا، وفي الصبيحة، ركب هؤلاء، مثل غيرهم وهم آلاف ممّن جردتهم الحرب من سقوفهم الآمنة، إلى حيث يمكنهم النجاة من الموت، معروفين ربّما، أو مجهولين.