تهميش مضاعف لذوي الإعاقة في مراكز الإيواء في لبنان
كان يُحتّم علينا، في كلّ مركز إيواء زرناه، وهي أكثر من خمسة مراكز، صعود أدراج طويلة للوصول إلى غرف المدرسة، حيث يقيم نازحون قسرًا جرّاء العدوان الاسرائيليّ المستمرّ على عديد من المناطق اللبنانيّة. ليكون السؤال الأوّل والأبسط الذي يتبادر إلى أذهاننا، وإن كان غير اعتياديّ على الدولة اللبنانيّة والقائمين على هذه المراكز طوال سنوات من طرحه، هو كيف لمقعدٍ أن يجتاز هذه المصاعد؟ وهل من العدل أن يمكث ذوو الإعاقة سجناء غرفهم، فقط لأنّنا في بلد لا يراعي في خططه أبسط حقوق الانسان؟
تأتي الحروب والأزمات في لبنان، فاضحة الخلل في البنى التحتيّة والتقصير المتعمّد في حقّ عديد من الفئات التي يتمّ تهميشها. وعليه وفي ظلّ هذه الحرب برزت فئة ذوي الإعاقة كأحد أكثر الفئات تهميشًا، إذ تواجه هذه الفئة من الأفراد تحدّيات خاصّة تتعلّق بالحقوق والرعاية، خصوصًا في مراكز الإيواء التي أنشئت لاستقبال النازحين. بحيث أنّ هذه المراكز وإن كانت تشكّل وتوفّر مأوى موقّتًا، إلّا أنّها عادةً ما تفتقر إلى البنية التحتيّة الملائمة لضمان كرامة ذوي الإعاقة وتقديم الدعم النفسيّ والاجتماعيّ اللازمين لهم.
تحديات مستمرة للأفراد المعوّقين
يواجه ذوو الإعاقة تحدّيات أكبر أثناء النزاعات والحروب، خصوصًا خلال فترات النزوح، إذ يتعلّق الأمر بالهجر والإهمال وعدم المساواة في الحصول على الغذاء والرعاية الصحّيّة والخدمات الأساسيّة. وتزيد الحروب والكوارث الطبيعيّة من الحواجز الجسديّة وصعوبات التواصل، والذي بدوره يستدعي ضرورة التركيز على موضوع الوصول إلى الخدمات وتأمين الدعم والارشاد المستمرّ.
يؤكّد رئيس جمعيّة أصدقاء المعوّقين، الدكتور موسى شرف الدين لـ “مناطق نت”: “أنّ الأشخاص ذوي الإعاقة في مراكز الإيواء يواجهون تحدّيات كبيرة تتعلّق بالتنقّل والمعيشة والوصول إلى الخدمات”. ويشدّد على “ضرورة وجود برامج إرشاديّة متخصّصة لمساعدتهم على التكيّف مع الظروف الجديدة”. يوضح شرف الدين “أنّ التكيّف يعتمد على مثلّث الزمان والمكان والبيئة الإنسانيّة، وربّما يؤدّي أيّ تغيير مفاجئ في أحد هذه الأبعاد إلى “فقدان التوازن” والذي بدوره يستلزم إعادة التكيّف”.
يعود د. شرف الدين ويشدّد على أهمّيّة توفير الدعم المستمرّ للأشخاص ذوي الإعاقة الحركيّة، الذين يحتاجون إلى مساعدة في التنقّل ضمن مبانٍ غير مجهّزة لتسهيل التنقّل باستخدام الكرسيّ المتحرّك. ويلفت أيضًا “إلى الصعوبات التي تواجه مستخدمي لغة الإشارة في عدم توافر تواصل فعّال نظرًا إلى أنّ من يعرفون لغة الإشارة من مقدّمي الخدمات الإنسانيّة هم نادرون جدًا، ممّا يزيد من تعقيد وضعهم. مشيرًا في هذا الصدد إلى أنّ “كثيرًا من المؤسّسات تفتقر إلى الكوادر المؤهّلة لتلبية احتياجات ذوي الإعاقة العقلية، والذين بدورهم يحتاجون إلى وقت أطول للتكيّف مع التغيّرات الاجتماعيّة والبيئيّة، بالمقارنة مع الأشخاص الآخرين”.
تهميش مضاعف للنساء من ذوات الإعاقة
تواجه النساء والفتيات ذوات الإعاقة خطرًا متزايدًا للتمييز والعنف القائم على النوع الاجتماعيّ في فترات الحرب والنزوح، فبالإضافة إلى الصعوبات والتحدّيات المتعلّقة بالتنقّل والمعيشة، فإنهنّ يعانين من مشاكل تتعلّق بصعوبة الوصول إلى الخدمات المتعلّقة بالصحّة الإنجابيّة والجنسيّة.
في هذا الإطار يشير شرف الدين، إلى عدم وجود اختصاصيّين في الصحّة الإنجابيّة والمشاكل النسائيّة في مراكز الإيواء، مضيفًا “يوجد نقص في الخصوصيّة في المرافق الصحّيّة، ممّا يشكّل تحدّيًا كبيرًا أمام النساء والفتيات من ذوات الإعاقة، بالإضافة إلى عدم توافر المستلزمات الأساسيّة مثل الفوط الصحّيّة والحفاضات وهذه مشكلة كبيرة”. هذا ويلفت شرف الدين إلى أنّ هناك ضرورة إلى متابعة موضوع النساء من ذوات الإعاقة في مراكز الإيواء، لا سيما مع غياب التواصل الكافي لمتابعة احتياجاتهنّ من قبل جهات متخصّصة، مردفًا “يوجد حساسيّات تجاه التحرّش الجنسيّ، وعليه من الصعب أيضًا أن يتمّ التبليغ عن هذه الاعتداءات إذا حدثت في مراكز الإيواء، ممّا يزيد من مخاوف النساء ذوات الإعاقة”.
تواجه النساء والفتيات ذوات الإعاقة خطرًا متزايدًا للتمييز والعنف القائم على النوع الاجتماعيّ في فترات الحرب والنزوح، فبالإضافة إلى الصعوبات والتحدّيات المتعلّقة بالتنقّل والمعيشة، يعانين من صعوبة الوصول إلى الخدمات
ويسلّط الدكتور شرف الدين، الضوء على ضرورة وجود خطّ ساخن مخصّص لذوي الإعاقة للإبلاغ عن أيّ إساءة يتعرّضون لها وعن احتياجاتهم، مشدّدًا على أنّ مراكز الإيواء يجب أن تكون مؤهّلة مع مراعاة معايير السلامة العامّة، إذ إنّ اكثيرًا من الغرف والحمّامات غير مجهّزة بشكل مناسب، وضرورة نشر قائمة بالإرشادات الخاصّة بذوي الإعاقة في الأماكن العامّة من أجل ضمان حقوقهم واحتياجاتهم الأساسيّة.
معاناة وضغوط يوميّة
“يعني فوق المجازر وأخبار الموت، عايشين بوضع سيّء بمراكز الإيواء، منتعرّض لتنمّر ومشاكل بشكل يوميّ”. هكذا تستهلّ أماني (اسم مستعار) حديثها لـ “مناطق نت” حول تجربتها في مركز الإيواء بعد اضطرارها إلى النزوح قسرًا من منزلها مع عائلتها الصغيرة إلى إحدى المدارس في منطقة بيروت. تتابع: “ككفيفة لا يوجد معي أحد غير زوجي ليساعدني، وهو شبه كفيف أيضًا”.
تواجه أماني وزوجها ضغوطًا ومضايقات من نازحين آخرين ومسؤولين في مركز الإيواء، حيث حاول بعضهم إخراجهم من الغرفة التي يقيمون فيها، على رغم أنّ زوج أماني اعترض لأنّهم بحاجة إلى مساحة أكبر للتنقّل والطهي دون تعريض الآخرين للخطر، أو حتّى إيذاء أنفسهم. يقول الزوج لـ “مناطق نت”: “إن كان هناك مركز إيواء أفضل وأردنا الانتقال فهذا سيكون صعبًا، نظرًا إلى أنّ زوجتي استغرقت وقتًا لتتأقلم هنا إن من حيث قدرتها على التحرّك والتنقّل، أو الاعتناء بطفلتنا”. ويعبّر الزوج عن استيائه من الإساءة التي يتعرّضون لها، خصوصًا عندما يضطرّ إلى مساعدة زوجته في الحمّام، مما يعرّضه إلى كثير من الكلام السيّء”.
“نواجه أيضًا مشاكل في الوصول إلى الخدمات أو الحصول على المساعدات، حيث نضطرّ أحيانًا إلى شراء احتياجاتنا بأنفسنا، لأنّه أحيانًا لا نعلم بوصول المساعدات مثل غيرنا” يقول الزوج. ويؤكّد أنّه هو وزوجته طلبا المساعدة من وزارة الشؤون الاجتماعيّة، التي وعدت برفع الوعي في المدرسة لتجنّب هذه الإساءات المتكرّرة. وفي هذا الإطار تقول أماني: “تحسّن الوضع قليلًا بعد إبلاغ الوزارة، وقد يردعهم معرفة الصحافة بالأمر”. ومع ذلك، يشعر الزوجان أنّ الانتقال إلى مركز إيواء آخر لن يحلّ مشكلتهم، إذ إنّ قلّة الوعي حول ذوي الإعاقة تبقى مشكلة رئيسة”. وتتمنّى أماني لو كانت عائلتها قادرة على استئجار غرفة صغيرة للهروب من هذا الجو المهين.
أماني: يعني فوق المجازر وأخبار الموت، عايشين بوضع سيّء بمراكز الإيواء، منتعرّض لتنمّر ومشاكل بشكل يوميّ. ككفيفة لا يوجد معي أحد غير زوجي ليساعدني، وهو شبه كفيف أيضًا
ماذا عن خطط وزارة الشؤون؟
يعاني عبّاس من متلازمة داون، فيحاول أهله تقديم الرعاية الصحّيّة له بمختلف الطرق اللازمة. تهتمّ والدته في تعقيم المرحاض المشترك بين عدد من النازحين بشكل مستمرّ كي لا يلتقط ابنها أيّ أمراض أو أوبئة بسبب ضعف مناعته. يؤكّد والده أنّه لا توجد أيّ مساعدات تقدّمها وزارة الشؤون الاجتماعيّة لدعم ابنه، إن من حيث الدعم المادّيّ أو تقديم الدواء، يضيف لـ “مناطق نت”: “حتّى إنّ الحفاضات التي نضطرّ إلى استعمالها له في الليل، عرضت إحدى النساء بمبادرة فرديّة تقديمها بشكل مستمرّ”.
في ما يتعلّق بالمساعدات التي تقدّمها وزارة الشؤون الاجتماعيّة إلى مراكز الإيواء ولذوي الإعاقة، يوضح شرف الدين، أنّ الوزارة أرسلت لهم استبيانًا لمعرفة عدد النازحين من ذوي الإعاقة الذين نقوم باستقبالهم في مراكزنا، كما في مراكز الإيواء. مؤكّدًا، “أنّنا قمنا بتعبئة الطلب، لكن حتّى الآن لم تصلنا أيّ مساعدات أو دعم مخصّص لذوي الإعاقة.” أمّا بشأن المنح الماليّة المخصّصة للأفراد من ذوي الإعاقة الذين يمتلكون بطاقة معوّقين، يشير شرف الدين إلى وجود منحة بقيمة 105 دولارات أميركيّة لكلّ حامل بطاقة معوّقين. “لكن هذه المنحة لا يستفيد منها ذوو الإعاقة الذين لم يتمّ تحديث بطاقاتهم”. موضّحًا أنّ تحديث البطاقات في مثل هذه الظروف يمثّل تحدّيًا كبيرًا لذوي الإعاقة، إذ يواجهون صعوبات في الوصول إلى مكاتب الوزارة.
وتشير وزارة الشؤون الاجتماعيّة، إلى أنّ مجموع الأموال المحوّلة ضمن برنامج البدل النقديّ للأشخاص ذوي الإعاقة في شهر تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، وصل إلى 1,031,760 دولارًا. وتؤكّد مصادر مطّلعة في وزارة الشؤون الاجتماعيّة عبر اتّصال، بأنّه لا توجد خطط طوارئ أو حتّى برنامج مخصّص لدعم ذوي الإعاقة النازحين في مراكز الإيواء، “إلّا أنّ الوزارة تعمل على محاولة تأمين كلّ المستلزمات لذوي الإعاقة من خلال التشبيك مع منظّمات محلّيّة ودوليّة”.
وتشير الاحصاءات المتوفرة أن نسبة 15% من ذوي الإعاقة الذين هجّروا قسرًا جرّاء العدوان الاسرائيلي توزعوا في 173 مركز إيواء في محافظة بيروت، ونحو 1,4 % توزعوا في 23 مركز للإيواء في منطقة صيدا.
بين إيواء واقتراع
لم تخفت الأصوات، طوال السنوات الماضية، المطالبة بتجهيز مراكز الاقتراع وعديد من مباني مؤسّسات الدولة بشكل يضمن دمج ذوي الإعاقة ضمن هذه المؤسّسات، وتكفل حقّهم في المشاركة في الانتخابات. علمًا أنّ مراكز الاقتراع هي اليوم نفسها مراكز الإيواء، والتي في أصلها هي مدارس رسميّة تابعة للدولة اللبنانيّة. والإشارة إلى هذا في الجملة السابقة، ليس إلّا من باب تأكيد أنّه في لبنان، ولو في أوقات السلم، لا يوجد مبانٍ وفق معايير دمج ذوي الإعاقة، ولا أماكن متاحة لهم على أساس قاعدة المساواة والمشاركة في الحياة السياسيّة والاجتماعيّة وغيره. فما بالنا بخطط الطوارئ التي تثبت عجزها وتكشف عن ثغرات عديدة في تركيبتها يوما بعد يوم؟
يؤكد خبير ومستشار المنظّمات الدوليّة لشؤون الإعاقة، الدكتور إبراهيم عبدالله، لـ “مناطق نت”: “أنّ القانون الدولي يعالج حقوق ذوي الإعاقة بدقّة، خصوصًا خلال الأزمات والحروب”. مشيرًا إلى أنّ اتّفاقيّة حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة 2006، تعترف بأهمّيّة المبادئ التوجيهيّة في برنامج العمل العالميّ المتعلّق بالمعوّقين، وتدعو إلى تحقيق تكافؤ الفرص للأشخاص ذوي الإعاقة عبر صياغة وتقييم السياسات على المستويات الوطنيّة والإقليميّة والدوليّة”. لافتًا “إلى تشديد الاتّفاقيّة على ضرورة دمج قضايا ذوي الإعاقة ضمن استراتيجيّات التنمية المستدامة، وأنّ التمييز ضدّهم يعدّ انتهاكًا لكرامتهم، وتنصّ المادة 11 على التزام الدول باتّخاذ جميع التدابير لحماية الأشخاص ذوي الإعاقة في حالات الخطر، بما في ذلك النزاعات المسلّحة والطوارئ الإنسانيّة”.
يتابع الدكتور عبدالله أنّ الاتفاقية، في العام 2016، أوصت بدمج ذوي الإعاقة في العمل الإغاثيّ والإنسانيّ، ووضع خطط تتعامل مع الحروب والكوارث بشكل شامل وبمشاركة المعنيّين.
ويطرح الدكتور عبدالله في هذا الصدد أنّ “هناك صعوبات وتحدّيات يواجهها ذوو الإعاقة في مراكز الإيواء على الصعيد المتعلّق بشكل المباني وعدم تجهيزها بشكل يسهّل تنقّل وتحرّك ذوي الإعاقة ممّا يصعب عليهم الوصول إلى المساعدات والخدمات”. وعليه يؤكّد أنّ “هناك ضرورة للعمل على خطط تضمن دمج ذوي الإعاقة في الخطط الإغاثيّة، بما يهدف إلى تسهيل الوصول إلى جميع الخدمات بشكل يضمن حقوقهم وكرامتهم”.
في ظلّ تباين الأولويّات التي تواجه الحكومات والجهات المانحة والعاملة في الإغاثة خلال الأزمات، غالبًا ما تُغفل احتياجات ومشكلات ذوي الإعاقة في الجهود الإنسانيّة. لذلك، يبقى المطلب الأساس، إلى جانب ضرورة رفع الوعي حول كيفيّة التعامل مع ذوي الإعاقة في مراكز الإيواء، إلى تجهيز هذه المراكز ببنية تحتيّة ملائمة ومرافق تسهم في تسهيل حياتهم وتقديم الخدمات بشكل فعّال، على ألّا يُترك هؤلاء الأفراد عرضة لمخاطر الحرب أو للظروف القاسية والقاهرة التي تؤثّر في مصائرهم.
“يُنشر هذا التقرير/التحقيق/ التحقيق المصوّر بالتعاون مع المنظمة الدولية للتقرير عن الديمقراطية DRI، ضمن مشروع الأصوات المستقلّة: دعم صناعة المحتوى المبتكر والمتمحور حول المواطنين والمواطنات في الإعلام اللبناني“.