تين قرى بنت جبيل المميّز.. ذاكرة الكروم والشعراء والمغتربين
لطالما أعادنا موسم التين إلى ربوع القرى الجنوبيّة، فراح يملأ ذاكرتنا بحليب الحكايا والقصص التي تشاركناها ورسمناها يوماً في الكروم. لا يقتصر هذا الموسم على كونه موسماً صيفيّاً عابراً يعطينا نوعاً من الفاكهة المحبّبة ويرحل، بل شكّل بالنسبة إلى معظم الجنوبيّين، من فلّاحين ومغتربين وشعراء، محطات لا بدّ من الوقوف عندها.
لا يعتبر نتاج الموسم مربحاً كغيره من المواسم كالزيتون والعنب والبندورة وغيرها، لكنّه ليس سيّئاً في حال تمكّن المزارع من متابعته بشكل سريع، كون فاكهة التين حسّاسة ويجب تصريفها بوقت قصير. وعدا عن ذلك، فإنّ العديد من المواطنين يتوجّهون جنوباً، قاصدين “البسطات” التي تنتشر على جوانب الطرقات، والتي تكون ركيزتها الأساسيّة في هذه الأوقات من السنة، أكواز التين على أنواعها.
تشتهر قرى بنت جبيل والجوار بمختلف أنواع التين، بدءاً من “العسلانيّ”، مروراً بـ”البقراتيّ” وصولاً إلى “الشمّوطيّ”، ولا ننسى “الغزلانيّ” و”الصيدانيّ”. فبمجرّد وصولك إلى ياطر، كفرا، حاريص، حدّاثا وصعوداً نحو الطّيري وبنت جبيل وغيرها من القرى المجاورة سترى “بسطات” التين تتغاوى عند الأرصفة منتظرة أصحاب النصيب. يبدأ الموسم من أواخر تمّوز تقريباً وينتهي بتشرين الثاني، إذا كان الموسم ناجحاً. بالإضافة إلى التجمّعات الصغيرة بجانب كروم التين التي تنتشر في معظم القرى.
زراعة التين تزدهر في قرى بنت جبيل
لطالما شكّلت شجرة التين بالنسبة للجنوبيّين رمزاً مباركاً، يحرس ذكرياتهم وأيّام صيفهم الطويل. يجتمعون عصراً تحت الشجرة، يتبادلون الأحاديث ويأكلون ما استطاعوا. يملأون السلال لتقديمها كهديّة ثمينة في أوّل الموسم للأصحاب والأقارب الأحبّ على قلوبهم. وكلّ من يمرّ، يطلب المسامحة لأنّه “استحلى” كوزاً ولم يستطع مقاومة إغرائه.
يظنّ كثر أنّ عزّ تلك الشجرة مضى، إلّا أنّ سعر كيلوغرام التين الذي وصل إلى حدود المليون ليرة لبنانيّة في أوّل الموسم يثبت عكس الظنّ. يشكّل موسم التين وخصوصاً اليوم في ظلّ الأزمة، مدخولاً جيّداً تعتمد عليه العائلات في القرى الصغيرة التي لا تحتاج أكثر من قوت يومها، وأن تدّخر قليلاً لمواسم المدارس وفصل الشتاء.
يلفت عبدالله قاسم كوراني، ابن بلدة ياطر، والذي عرف الزراعة والكروم منذ نعومة أظفاره، إلى أنّ أهالي ياطر والقرى المجاورة “عادوا وبقوّة إلى زراعة التين، وذلك بعدما أثبتت أنّ مردودها جيّد، وفي المقابل لا تحتاج لتكاليف ولا حتّى للري”. ويؤكّد “أنّ شجرتيّ التين والخرّوب تعتبران من أهمّ الأشجار التي يجب التوعية حول فوائدهما على مختلف الصعد، كونهما تؤمّنان مردوداً جيّداً ولا تحتاجان إلى عناية كثيرة، بالإضافة إلى الفوائد الجمّة التي تحتويها ثمارهما”. ويؤكّد أنّ “بعض العائلات تؤمّن مؤونتها السنويّة من مدخول التين، وخصوصاً للذي يملك كرْماً أو عدة أشجار”.
أهالي ياطر والقرى المجاورة “عادوا وبقوّة إلى زراعة التين، وذلك بعدما أثبتت أنّ مردودها جيّد، وفي المقابل لا تحتاج لتكاليف ولا حتّى للري
وعن المساحات المزروعة، يشير كوراني في حديثه لـ “مناطق نت” إلى “ضآلة المساحات المزروعة بالتين، والتي لم تعد كالسابق كروماً على مساحات واسعة، بل هناك أشجاراً متفرّقة في مختلف نواحي القرية. ولكنّها تشكّل نسبة مقبولة من الأراضي”. ويضيف: “إنّ الموسم لا ينتهي بانتهاء القطاف، بل هناك إنتاج آخر من التين، كالدّبس والمعقود والشريحة، التي يباع الكيلوغرام الواحد منها اليوم، بنحو مليون ونصف المليون ليرة لبنانية”. ويحذّر من إهمال الشجرة وعدم قطاف أكوازها، “ما يؤدّي إلى تكاثر النمل والنحل والزلاقط (زنبور، جمعها زنابير) عليها، فيتلفها ويصيبها بأمراض عديدة”.
يشير المزارع أحمد فارس شعيتو، وهو صاحب أحد المشاتل في بلدة الطيري، إلى أنّ “الطلب على التين كثيف جداً، حيث أنّني أستقبل يوميّاً عشرات الطلبيّات ولا أستطيع تلبيتها جميعها”. ويلفت إلى أنّ أهالي البلدات والقرى ليسوا من فئة الشارين المستهدفة، بل إنّ أهالي بيروت والمغتربين هم من يطلبون هذه الفاكهة”.
وعن زراعة شجرة التين، يقول شعيتو لـ”مناطق نت”: “كنت أبيع في السنوات الأخيرة بحدود ألف شتلة، ما يدحض نظرية انقراض هذه الزراعة. لكنّ شجرة التين تحتاج إلى حدود ثماني إلى عشر سنوات لتنتج ثمراً جيّداً، وربّما أقل، في ما لو تمّ ريّها والاعتناء بها بشكل مستدام”. ويؤكّد أنّه لو “استثمر أيّ شخص في زراعة التين، بحيث يزرع بحدود 100 شتلة (شجرة)، يمكنه أن يؤمّن مصروفه مع عائلته منها، إذا أحسن كيفيّة تصريفها بشكل صحيح”.
بالعودة إلى بلدة كفرا التي تشتهر بتينها وتتميّز به عن سائر البلدات. وبحسب أبنائها فإنّ تين بلدتهم يختلف بمذاقه عن التين الساحليّ وأيضاً عن الجبلي. يعود ذلك إلى أنّ البلدة مرتفعة ارتفاعاً وسطيّاً عن سطح البحر، بالإضافة إلى طبيعة أرضها الصخريّة – الحرجيّة وترابها القليل.
تنتشر أشجار التين بأنواعها المختلفة في معظم أراضي كفرا وحول بيوتها، منها العسلانيّ والبقراتيّ، وهناك القليل من التين الصيدانيّ الذي يبدأ موسمه في أوائل أيلول. يقول أحد أبناء كفرا لـ “مناطق نت”: “إنّ هذا النوع من التين كان يُزرع عادة بجانب المنازل، وسبب ذلك يعود إلى أنّ العائلات كانت في بداية موسم التين العسلانيّ تنزح نحو الكروم وتبقى هناك مدّة شهر لمواكبة الموسم الذي كان يعرف بموسم “التتيين”، حيث كانوا ينصبون العرازيل ويبيتون فيها لقطاف الثمر، وتشريحه ونشره ثمّ لصناعة الدبس، وبعد الانتهاء يعودون إلى منازلهم إذ يبدأ موسم التين البيتيّ، فيستمتعون به ويبقى الموسم حتى بدايات الخريف”.
كانت العائلات في بداية موسم التين العسلانيّ تنزح نحو الكروم وتبقى هناك مدّة شهر لمواكبة الموسم الذي كان يعرف بموسم “التتيين”، حيث كانوا ينصبون العرازيل ويبيتون فيها لقطاف الثمر، وتشريحه ونشره ثمّ لصناعة الدبس
يشير يوسف عزّ الدين، أحد موظّفي بلديّة كفرا، إلى أنّ “أكثر ما يعاني منه أهالي البلدة هو موضوع التصريف. فالتين فاكهة تحتاج إلى تصريف يوميّ وإلّا فتتلف فوراً بسبب رقّتها ونضوجها”. ويلفت إلى أنّ “القرى تفتقر بشدّة إلى مصانع وبرّادات يمكنها أن تساعد المزارعين وتزيد من تمسكهم بأراضيهم، فالتاجر يستغلّ المزارع الذي لا حلّ أمامه سوى البيع بأيّ ثمن كان. وليست لجميع أصحاب الشجر والكروم الخبرة بصناعة الدبس والمعقود، عدا عن التعب والوقت والمجهود الذي تحتاجه هذه الصناعات في المنازل”. ويعتبر عزّ الدين أنّ “من واجب الوزارات المعنيّة أن تلتفت إلى هذا الأمر، وإلّا سنفقد عاجلاً أم آجلاً الكثير من المزارعين والكروم”.
لا يقتصر الاهتمام بالتين على المزارعين القدامى، بل إنّ لفئة الشباب حصّة من الحفاظ عليه والاستمرار بهذا الإرث الزراعي. وهذا ما يثبته الشاب علي حمدان، صاحب إحدى البسطات الشهيرة في كفرا، الذي لجأ إلى التكنولوجيا الإلكترونيّة وصار يرسل تين كفرا “ديليفري” إلى كلّ لبنان. ولم يقتصر عمله على البيع، بل قام بزراعة عدّة أشجار تين في السنة الماضية، ليزوّد بسطته من إنتاجه.
ويشير إلى كثرة الطلب على التين في آخر أيّام الأسبوع، حيث يتوجّه أهالي بيروت إلى بلداتهم الجنوبيّة لتمضية عطلتهم، فيكونون بأمسّ الحاجة إلى كلّ ما هو طبيعي.
تين جبل عامل.. مقصد الشعراء والمغتربين!
لا يشكّل موسم التين محطّة للفلّاحين وأهالي البلدات فحسب، بل كان ولا يزال مقصداً للشعراء في قصائدهم، وللمغتربين في عطلتهم السنويّة.
وفي تشبيه لطيف، يقول أحد أهالي القرى الجنوبيّة أنّهم يشعرون و”كأنّ الجراد غازيهم” في موسم التين، ويقصد المغتربين الذين يتوجّهون إلى كلّ زاوية من زوايا القرى للحصول على التين الأشهى.
ما زالت عبير، ابنة بنت جبيل، تتذكر كيف كانت تينة “بيت جديّ ملتقى لكلّ من هاجروا إلى بلاد الغربة منذ زمن. فبمجرّد عودتهم في زيارة الصيف ومرورهم بجانب التينة، التي صمدت برغم الحروب، يقفون لإلقاء التحيّة والمحبّة على الشجرة وأهل تلك الشجرة. لتصبح ملتقى العائدين، وساحة لتذكّر ما مضى من السنين، بشهادة شجرة”.
من بنت جبيل إلى ميشيغان
يحاول أكثر المغتربين “تهريب” التين معهم في إيابهم، فيخترعون حيلاً وطرقاً لكي تصل سلّة التين آمنة إلى بلاد الغربة. وهذا ما يفعله عادة أهالي بنت جبيل المقيمون في “ميشيغان” في الولايات المتّحدة الأميركيّة. أحياناً تنجح عمليّتهم فيتّصلون ليُطمئِنوا من ساعدهم، ويخبروهم بأسماء من أكل التين “كوز كوز”. وأحياناً أخرى، يتمّ ضبطهم في المطار، فتتبدّد آخر آمالهم بإيصال ثمرة من رائحة الوطن إلى مغتربهم.
ومن لا يحبّ المخاطرة، يؤمّن قُوْته من “تين الشريحة”، وهو عبارة عن تين أبيض يشرّح ثم ينشر عدّة أيّام على سجّاد مصنوع من القشّ على سطوح المنازل، إلى أن يجفّ بالكامل. وبعدها يتم اختيار “الأشقر” لبيعه كشريحة و”الأسمر” لإعداده دبساً. ويعدّ الشريحة من المؤونة الأساسيّة لأهالي القرى في الشتاء، حيث يكون من “الضيافة” المحبّبة لديهم إلى جانب الجوز والزبيب.
يقوم المغتربون بشراء معظم إنتاج تين الشريحة، بحسب ما يؤكّد السيّد أحمد السيّد خليل السيّد حسن، أحد تجّار بنت جبيل، وأحد الذين كانوا يقومون بإعداد انتاجهم من الشريحة بأنفسهم. ويشير إلى أنّه “عادة ما تتمّ التوصية عليه قبل إعداده حتّى، ليضمن المغترب حصّته من الموسم”.
للشعراء مواعيد غراميّة مع التين
ليس المغتربون وحدهم من يكتبون مع التين قصّة حبّ من نوع آخر، بل للشعراء، وشعراء جبل عامل تحديداً، مواعيد غراميّة مع التين في كلّ كتاب وأحياناً في كلّ قصيدة.
اتّخذ ابن بنت جبيل الراحل الشاعر بلال شرارة من “برج التين” عنواناً لأحد دواوينه، وصار يلتقي بالتين في كلّ قصيدة كتبها في بيته في الوادي، يبدأ به في أوّل السطر، وأحياناً يناغمه على مهل في منتصف القصيدة، ولا ينفكّ أن يكون نهاية كلّ شيء في مرّات عدة. فهو الذي كتب: “… هنا خطّ القلب، هنالك خطّ الحظّ وهنا خطّ العمر.. لم يبق من العمر إذن إلّا هذا الموسم، فاحفر اسمك فوق الماء لعلّك تبقى في ذاكرة التين”.
كثر من أدباء وشعراء بنت جبيل جلسوا تحت شجرة التين يوماً ما وكتبوا لها، وكأنّها حبيبتهم التي هجرتهم يوماً إلى بلاد بعيدة.
أمّا “إله الشعر” عند سعيد عقل، الراحل عصام العبدالله، فكتب يوماً: “إسْمُو جَبَلْ عامِلْ! صُدْرو خِزانِه بِـ قَلْبْها جْهازِ الْعَرُوسْ فِيها عِنَبْ فِي تينْ فِي زَيتْ عَمْ يِرْشَحْ من عْرُوقِ السّْنينْ”. ربّما لو حكى التين لقال هذا أحلى ما وصفت به.
أمّا الرحابنة الذين لم يفوتهم شيئاً من تفاصيل القرى، جوهروا بصوت السيدة فيروز ذكرى التين، فما إن “طلعت العروسة تنقّي تين، ضحكلا الناطور وقلبه حزين”.
وليس لشعراء جبل عامل فقط حصّة من تينه، فابن بعلبك الشاعر والصحافي عبد الغني طليس، كتب في كتابه الأخير “سماواتُ الحبّ العَشْرُ” قصيدة تحت عنوان “تينة أم وضّاح”، وهي حكاية عن تينة جنوبيّة بقيت صامدة في إحدى حارات بنت جبيل خلال حرب تمّوز التي قتلت البشر ودمّرت الحجر.
هو تين جبل عامل، ومن دون أدنى تخطيط منه، رسّخ في ذاكرة أجيال وأجيال قصصاً تشبه حكايا الجدّات الدافئة أحياناً، والمتعْبة في كثير من الأحيان. كان ولا يزال مصدر رزق لكثيرين، “وفيّة” للهاربين من فراغ القرى، وحبيبة للباحثين عن بطلة لإحدى قصائدهم في ظهيرة يوم من أيام تمّوز. ربّما هي من الأشجار القليلة التي لم تبخل على أحد، تعطي وتعطي، ولا يهمّها إن سألها أحدٌ إن كانت بحاجة لشيء. هي كالأمّ التي لا يهمّها سوى رضى أولادها، إن كانوا بقربها أو عادوا إليها بعد طول غياب.