تَوْمات نيحا أسطورة الأرض والشجر والسماء

إنّ الغابة، وجدانيًّا، هي أشبه بأسطورة تحرص على عدم الانتهاء.

هذا ما بثّتني به تلك الغابة المعروفة بـ “تَوْمات نيحا” في أعالي الشوف. لم يكن مجرّد “هايكنغ” Hiking فوق التلال والسهوب. لم يكن مجرّد سير بصمت وترك العيون رهن فلتات النظرات. إنّ السير في الغابة كما أنبأتني “تَوْمات نيحا” هو في بعض تجلّياته انصياع المرء لأرقى ما في روحه. في بعض نواحيها أنّ الغابة هي طقس أبديّ يمهّد لقداسة على شفير الانقراض، قداسة الأرض والشجر، قداسة العشب والتراب وقداسة تلك الدوائر التي يرسمها في السماء هذا السرب من الطيور أو ذاك.

إن ذلك الـ Hiking داخل تجاويف الشجر وشقوق الأرض بيّن لي أنّ ثمّة فرصًا أخرى للروح. فالروح في “تَوْمات نيحا” تكفّ عن أن تكون حبيسة الجموع البشريّة أو حبيسة الإسمنت أو حبيسة تلك النعال التي تستعجل أرصفة مدن اليباب.

سكينة من نمط آخر

لدى الإنطلاق مع أوّل الصباح من قلعة نيحا صعودًا نحو التلال المعروفة بـ “التَوْمات” لم يخطر ببالي البتّة أنّ ثمّة في العالم استدراجًا للسكينة إلى هذا الحد. سكينة من نمط آخر لطالما حسبتها في طور الاحتضار. حتّى لفحة البرد في تلك النواحي تنمّ عن دفء الجنين. نعم، تمثّلتُ نفسي للحظات جنينًا في بطن الأرض في ذلك الجوف الأموميّ البالغ الرفعة والهناء.

لعلّها سمة من سمات النزاهة أن يعرف الإنسان حدّه إنّما روعة السير في ذلك الجبل البديع يدفع بالروح لأن تتنزّه عن كلّ حدّ. ثمّة ألفة من نمط آخر في “تَوْمات نيحا الشوف”: ليس لحاء الشجر بغريب عنّي على الإطلاق ولا تلك الأغصان المتشابكة، أمّا ذلك الأزيز السرّيّ الذي تبثّه حشرات الغابة فهو فسحة الآذان… وحبّذا لو كان بالإمكان رؤية ذلك الأزيز.

“شي بيت أبعد بيت”.. تومات نيحا

أروع ما في غابة نيحا ذلك التواضع النبيل. فالشجر هنا لا يبالي برفعته الشاهقة والصخر الذي يعكس الوجه الأصيل للربّ تراه محدودبًا وقد اكتفى بنفسه إلى حدّ الذهول. “حبّذا لو كنت صخرة”، قلت لنفسي وأنا أمسّد فوق الوجه الأصليّ للإله. لست أدري من كتب مرّة أنّ الله هو الإبداع الأقصى للأدب. كلّا، إنّ الغابة هي الإبداع الأقصى للإله… هي بعينها الإله وفعل الإبداع في آن. لا تبالي الغابة عبر تلك الأشجار الثابتة بـ “ما وراء” يجرّ البشر إلى الدياجير والظلمات والهباب، فالغابة كما عايشتها بعمق في جبل نيحا هي الإنبثاق الكلّيّ الحضور وهي أيضًا الـ “ما وراء”.

تحرّر من ضجيج العالم

إنّ الإنقياد إلى صمت الغابة ورهبتها هو انقياد للتحرّر بإطلاق، إنقياد للسكينة وتحرّر من ضجيج العالم ولهاثه المخزي والدبق والمشين .

لا أحداث طارئة في “تَوْمات نيحا”، مجرّد أزل يافع على الدوم. إنّ كرج السنين هنا مجرّد مزحة أو وهم يقع في غياهب النسيان. قناعة راسخة أمدّتني هذه الغابة بها: الـ “قبل” والـ “بعد” مجرّد أوهام، ولعّل تلك الرغبة الملحّة التي تملّكتني بأن يكون لي حصّة في روح تلك الغابة هي انعكاس لرغبة التخلّص من الماضي ومن المستقبل وبشكل خاص التخلّص من ميوعة وقرف “الآن”.

حبّذا لو كان لي حصّة من روح ذلك الجندب أو ذاك الثعلب الذي يبادلني النظرات عن بعد وبذعر. حبّذا لو كان لي نعمة أن أكون جزءًا دائمًا من عالم ذلك القنفذ الذي لم يكفّ عن التواري والظهور أو أن أكون سنجابًا مثل ذلك السنجاب الذي يتأمّلني بجحوظ واستغراب وتهيّؤ رائع للفرار.

همستْ لي “تَوْمات نيحا” أنّنا كبشر محلّ تيه خارج حدود الشجر والعشب وأصوات وحركات الحيوانات.

لعّل تلك الرغبة الملحّة التي تملّكتني بأن يكون لي حصّة في روح تلك الغابة هي انعكاس لرغبة التخلّص من الماضي ومن المستقبل وبشكل خاص التخلّص من ميوعة وقرف “الآن”

أيّوب آخر هنا

تبادلتُ النظرات أثناء ذلك السير المقدّس مع الأرض ومع التلال المجاورة لـ “تَوْمات نيحا”. تبادلتها أيضًا مع السماء وأكثر ما تبادلت النظرات مع مقام النبي أيّوب الذي يعتلي تلّة مواجهة للتَوْمات. بواقع الأمر، مَنْ كنت أبادله النظرات ليس أيّوب العهد القديم وليس أيّوب الصبر وحرب الربّ مع الشيطان، إنّما أيّوب آخر، أيوب أكثر حميميّة بكثير. إنّه أيوبي أنا حيث كنت أرعى جديان الماعز عند أسفل تلّته إبّان المراهقة أو ما دون. يحفر ثغاء جدياني ذلك النفق المظلم للتاريخ فأنصتُ إلى ثغائها وأنصت إلى وقع حوافرها فوق ذكريات بعض مراهقتي عند تلك التلال مع صديقي النبي أيّوب.

أكّد لي ذلك المسير الذي امتدّ لساعات وساعات أنّ شائعة الشجر والعشب أكثر ديمومة من كلّ شائعات البشر، وأنّ تحديق الثعالب والسناجب والقنافذ إلى أعمق أعماق الروح هي من أنبل التحديقات، أمّا انطواء الغابة على انفلاشها اللامحدود فهو درس في روعة الانطواء على محض الذات حتّى لو كنت بين آلاف الجموع.

ذاكرة الشجر عين تحدّق في الخفّة واللامبالاة، عين واسعة أعتقتْ نفسها من كلّ ضروب الريبة والحذر البشريّين.

انتهى المسير مع اللحظات الأولى للغياب، لكنّ الرغبة بأن أكون شجرة، محض شجرة أو صخرة أو حتّى صوت ثغاء ما انفكّت تراودني أنا حبيس المدن والمطارات وتشعّبات الطرقات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى