ثلاثون ألف متخرّج سنويًّا لثمانية آلاف فرصة عمل.. فقط!

“لست من الذين يحظون بالدعم من النافذين القادرين على تأمين الوظائف”. هذا ما قالته ابنة بلدة كفرحبو في قضاء الضنّيّة الشماليّة، ماري ديب البالغة 24 عامًا لـ “مناطق نت” وهي تتحدّث عن معاناتها في البحث عن عمل. لم تشفع لماري دراستها الجامعيّة ونيلها إجازتين، واحدة في الإعلام وثانية في الحقوق كي تحظى بفرصة عمل، فها هي اليوم تمكث منتظرة في منزلها بلا وظيفة.
يحيلنا وضع ماري إلى صور الفرح التي تترافق مع تطاير القبّعات في الهواء وأثواب التخرّج التي تحضر بقوّة نهاية كلّ عام دراسيّ، وتغصّ بها وسائل التواصل، والتي لا تلبث أن تتحوّل إلى معاناة عند جزء كبير من الطلّاب المتخرّجين، الذين ينطلقون في البحث عن فرص عمل، حيث أعداد المتخرّجين كبيرة لا تتّسع لها سوق العمل الضيّقة، إذ إنّ ثمّة هوّة كبيرة بين الاثنين، زادت تلك الهوّة اتساعًا الأزمة الاقتصاديّة والنقديّة التي تعصف بلبنان منذ العام 2019، ولا تزال تبعاتها مستمرة حتّى اليوم.
وما يزيد من تفاقم الأمر هو غياب أيّ سياسة توجيهيّة تقوم بها الدولة تجاه الطلّاب المتخرّجين، والتي ينبغي أن تبدأ قبل توجّه هؤلاء إلى دراساتهم العليا واختيارهم لاختصاصاتهم، كي توائم تلك السياسة بين احتياجات سوق العمل والاختصاصات التي تتطلّبها تلك السوق.
متخرّجون لفرص محدودة
من الأمور التي فاقمت الخلل بين عدد المتخرّجين وسوق العمل، هو وقف التوظيف في القطاع العام، والذي ترافق مع الأزمة الاقتصاديّة، وأدّى إلى الضغط على القطاع الخاصّ الذي لا يستطيع وحده استيعاب جميع أعداد المتخرّجين، ممّا أدّى إلى ارتفاع نسبة البطالة لتتجاوز الـ 35 في المئة.
ووفق الباحث في “الدوليّة للمعلومات” محمّد شمس الدين أنّه منذ العام 1990 والحكومات المتعاقبة “تؤكّد توفير فرص العمل، إلّا أنّ معظم المشاريع التي نفّذتها الدولة اللبنانيّة، كانت عبارة عن فرص عمل موقّتة وغير دائمة”، مشيرًا في حديثه لـ “مناطق نت” إلى أنّ “الاستثمارات التي كان يستقطبها لبنان لا تزيد عن مليار أو ملياريّ دولار، وفي السنوات الأخيرة انخفضت إلى 500 مليون دولار، حيث لم تعد هناك استثمارات توفّر فرص عمل.
عاطلون عن العمل
وعن أعداد المتخرّجين سنويًّا، يوضح شمس الدين أنّه “في كلّ سنة يدخل إلى سوق العمل في لبنان حوالي 25 إلى 30 ألف شخص، بينما الفرص المتوافرة تتراوح ما بين سبعة إلى ثمانية آلاف فرصة في أفضل الحالات بما فيها القطاع العام، والنتيجة هي أنّ هناك ما بين 20 و22 ألف عاطل عن العمل سنويًّا، عدا عمّا تنتجه الحروب، معطوفة على النزوح السوريّ، إذ أصبح لدينا مليون و200 ألف عامل سوريّ في لبنان”.
يُقدّر شمس الدين أعداد العاطلين عن العمل بـ 450 ألف لبنانيّ. ويشير إلى أنّ “الهجرة شكّلت عاملًا إيجابيًّا في خفض أعدادهم”، لافتًا إلى أنّه “في سنة 2024 هناك نحو 180 ألف لبناني سافروا إلى الخارج من بينهم نحو 70 و80 ألف ممّن لا عمل لهم، ولو أن هذه الأعداد بقيت في لبنان لارتفعت نسبة العاطلين عن العمل أكثر بكثير”.
من العوامل التي فاقمت مشكلة البطالة إضافة إلى الأزمة الاقتصاديّة، كانت أزمة الكورونا وما رافقها من إقفال، يضاف إليها انفجار المرفأ في الرابع من آب (أغسطس) 2020 والحرب الإسرائيليّة الأخيرة على لبنان والتي سدّدت ضربة قاصمة للاقتصاد المتداعي أصلًا. كلّ ذلك كان كفيلًا في تراجع فرص العمل للشباب، وارتفاع خيارات الهجرة من لبنان، خصوصًا فئة الشباب، ممّن غادروا بحثًا عن فرص عمل وحياة تؤمّن لهم حقوقًا أساسيّة مفقودة في وطنهم.
واقع عكس المرتجى
تستذكر ماري فترة الدراسة حيث كانت تحلم بلحظة تخرّجها، آملة في أن تكون إعلاميّة تظهر على شاشة التلفاز، لكنّ الواقع بات مختلفًا، إذ تقضي جلّ وقتها في المنزل أو مع أصدقائها. تقول ماري لـ “مناطق نت”: “الشخص الذي لا يعمل يجد نفسه ثقيلًا على نفسه”. في المقابل تحاول ماري الاستفادة من وقتها بالقراءة وإجراء الدورات التدريبيّة، وتتقدّم إلى الوظائف عبر الإنترنت من دون أدنى تجاوب.
“باستثناء بعض الوظائف التي يعاملون بها الموظّف على أنّه مستعبد مقابل راتب لا يتعدّى الـ 200 دولار والخصومات قصّة أخرى، فقد درست اختصاصين، وأجريت عديدًا من الدورات، ليس لأن يكون مستقبلي في وظيفة محبطة” توضح ماري.
يطلب أصحاب العمل موظّفين يمتلكون خبرة خمس أو ستّ سنوات، فيما المتخرّجون الجدد يبحثون عن فرصة تدريب لتكوين الخبرة. تعلّق ماري “معظم الوظائف التي أتقدّم إليها تطلب موظّفين لديهم خبرة خمس سنوات على الأقلّ، من أين أجد الخبرة وأنا متخرّجة جديدة؟”.
من قاعات الإعلام إلى المطعم
من جانبه يروي ابن بيروت الشاب محمّد شربجي (25 سنة) قصّته في التنقّل بين عديد من الوظائف بعد تخرّجه من الجامعة “عملت في صالون نسائيّ، في مطعم، والآن أعمل في محلّ لبيع العصير، بعدما أمضيت أربع سنوات في دراسة الإعلام، حيث كانت الأحلام كبيرة إبّان فترة الدراسة”.
يستعيد محمّد في حديثه لـ “مناطق نت” مأساته بعد التخرّج فيقول: “سنة ونصف من الوقت الضائع قضيتها في البحث عن وظيفة، ونتيجة الظروف الاقتصاديّة والنفسيّة الصعبة اضطررت للعمل في وظيفة لا علاقة لها باختصاصي بعدما كنت من المتميّزين في الدراسة”، مضيفًا “من المؤسف أنّ الوقت الذي أمضيته في دراستي الجامعيّة قادنى في النهاية إلى وظيفة في أحد المطاعم”.
إنّ إتاحة الفرصة أمام غير المتخصّصين إلى عالم الصحافة يثير غضب محمّد بعد أن كان من الأوائل في دراسته على حدّ قوله ” اليوم، أيّ شخص يحمل هاتفًا يصوّر ڤيديو يلقى رواجًا فيطلق على نفسه لقب ‘صحافيّ‘، بينما أنا قصدت عديدًا من وسائل الإعلام ولم أقبل ولو على الأقل لفترة تدريب”.
شهادات لا تُثمر وظائف
يتواصل محمّد مع زملائه المتخرّجين بانتظام، قلّة منهم ممّن حصلوا على وظيفة في اختصاصهم، في حين أنّ معظمهم عاطلون عن العمل. يشاركنا محمّد مأساة زملائه فيقول “اإنّ عديدًا من زملائي يشعرون بالندم لدراستهم الإعلام، فغالبيّتهم من دون عمل”.
يؤكد محمّد أنّ “هناك مسؤوليّة تجاه الدولة في تأمين الوظائف للمتخرّجين الجدد، أو على الأقل إتاحة فرص التدريب، لتزويد المتخرّجين بالخبرات اللازمة”.