“ثمرة النار” لحنين الصايغ عوالم البوح والألم والحريّة

“ظلّت الرواية في رأسي سنوات، كان ضروريًّا أن أبوح بها”.

هذا ما قالته حنين الصايغ للقرّاء، أكثر من مرّة، بعد إصدار روايتها الأولى. وفي اللقاءات التي سبقت نشر روايتها الثانية، أردفت: “هناك مزيد سأبوح به. ظلّوا بالقرب في انتظار صدور عملي الجديد”.

في أيلول (سبتمبر) الماضي، صدرت الرواية الثانية للكاتبة اللبنانيّة حنين الصايغ، عن دار الآداب بعنوان “ثمرة النار”. تتابع الصايغ عبرها خطّها الروائيّ الذي بدأت ترسمه منذ إنتاجها الأوّل.

حنين الصايغ، الكاتبة التي حجزت لنفسها مقعدًا متقدّمًا بين صنّاع الأدب العربيّ منذ صدور روايتها الأولى “ميثاق النساء”، الرواية التي وصلت إلى القائمة القصيرة للجائزة العالميّة للرواية العربيّة، ولا تزال تُحدث صدمات إيجابيّة لدى القرّاء والنقّاد على حدّ سواء، لناحية حرفيّة البناء والاهتمام الذي نالته على رغم كونها التجربة الأولى لكاتبتها.

كاتبة تروي قصّتنا نحن

تصحبنا حنين الصايغ مجدّدًا إلى عالمها، الذي نكتشف فيه، شيئًا فشيئًا، أنّها لا تروي قصّتها وحدها بل قصّتنا نحن. تبدو كمن يتجوّل بثبات في دهاليز علم النفس، فتغوص في العقد والهواجس التي تحرّكنا: عقدة القبول، سعي الطفل الكامن فينا لإرضاء أهلنا، بحثنا العنيد عن المعنى، والتيه الذي يرافق محاولاتنا للموازنة بين الرضى وإيجاد السعادة، وبين توقنا الفطريّ إلى الحرّيّة والسجون التي نتقن بناءها حول أنفسنا. تدخل أيضًا إلى علاقتنا بالمنظومة الدينيّة، وإلى الطريقة التي تفرض بها حضورها على تفاصيل الحياة في مجتمعاتنا.

تصحبنا حنين الصايغ مجدّدًا إلى عالمها، الذي نكتشف فيه، شيئًا فشيئًا، أنّها لا تروي قصّتها وحدها بل قصّتنا نحن.

حنين الصايغ ليست حكّاءة بالمعنى التقليديّ المألوف. هي كاتبة تستخدم الحكاية كأداة لطرح الأسئلة، وتدعوننا كي نبحث معها عن الإجابات.

تكاد تتحوّل في روايتها “ثمرة النار” إلى محلّلة نفسيّة وأنثروبّولوجيّة تُفكّك ما وراء التجربة الفرديّة والجماعيّة، فيما تقدّم نسخة أكثر تطوّرًا ونضجًا من نفسها أيضًا. حنين التي أثارت استياء كثيرين بعد صدور “ميثاق النساء” لما اعتُبر تحاملًا على المجتمع الدرزيّ، تظهر اليوم، على رغم نقدها الصريح والمباشر لمجتمعها، أكثر رهافة وتعاطفًا مع هذا المجتمع نفسه.

هويّة الكتاب وبنيته السرديّة

يرمز عنوان الرواية “ثمرة النار” إلى بطلتها نبيلة، صانعة الخبز التي تقول أمّها إنّها أنجبتها قرب الموقد، وليست ثمرة النار إلّا الجمرة التي تختزن في جوفها حرارة يطول أمد عطائها قبل انطفائها، كأنّ نبيلة أيضًا والأمّهات المتديّنات الزاهدات- الحاضرات بقوةّ في كتابات حنين الصايغ- هنّ ثمار النار بما تحمله من ألم وتعثّرات ومخاضات عسيرة.

أمّا غلاف الرواية فهو إعادة تجسيد للوحات مكرم الفنّان الشاب الذي يظهر في الرواية، والذي تحتّل النساء الدرزيّات بمناديلهنّ البيضاء الطويلة وأثوابهنّ السوداء، معظم لوحاته.

تظهر على الغلاف شيخة درزيّة تشيح بوجهها عنّا وتعطينا ظهرها، إلى جانبها زهور الوزّال، والوزّال زهرة نبيلة المفضّلة بلونها الأصفر المشبّع بالحياة وجنونها الذي يدفعها إلى الازدهار المفاجئ والرحيل السريع.

بنية السرد في الرواية شبه دائريّة، بدأتها الكاتبة من الفصل ما قبل الأخير من حياة نبيلة، وأنهتها في الفصل الذي تلا رحيلها عن الحياة، يبدو أنّ الكاتبة قرّرت الاحتفاظ ببطلتها حيّة ليعيش القارئ في تجربة سرد حيّة ورحلة أكثر تشويقًا وسلاسة. ثمّ راحت تمشي في سياق متعرّج بين مراحل حياتها، فجالت بنا في أروقة طفولة نبيلة وصباها وكهولتها.

بين الحزن والألم

الرواية مشبّعة بالحزن، فالموت والفقد والحبّ غير المكتمل أحداث تأسيسيّة فيها، ما يجعل علاقة القارئ مع شخوص الرواية عاطفيّة إلى حدّ بعيد، وما يجعل العمل مادّة تحثّ على استحضار الدمع من الصفحات الأولى. على رغم ذلك تبدو الحوارات بين الشخصيّات مليئة بالطرافة، ونلاحظ أنّ الكاتبة لجأت في كثير من الفقرات إلى استخدام اللغة المحكيّة والدارجة في قرى جبل لبنان، وقد ساعدها ذلك في إزالة التكلّف والتصنّع عن أبطال قصتّها وأعطاها بعدًا أكثر واقعيّة.

يتكرّر في الرواية نمط من العجز القدريّ، حيث يفشل الأبطال في المواءمة بين الأحلام الكبيرة وحياة أهل القرى الشحيحة بالفرص، إذ تتضافر العوامل التي تجعل حظّ الأبطال تعيسًا.

المختلفون تحت مجهر المجتمع

تحاول الصايغ من خلال حكايتها الإضاءة على الفرص التي يهدرها الإنسان عمدًا والقيود التي يفتعلها أو يذعن لها فتكبّله، فالدرزيّ الملتزم بتعاليم دينه قد يُحرم مثلًا من امتلاك تلفاز أو كابل انترنت أو هاتف، لأسباب استنسابيّة واجتهادات شخصيّة لرجال دين محلّيّين، وقد يُستبعَد من الخلوة الدينيّة بسبب ذلك.

تغوص الكاتبة في عقل النساء وعلاقاتهنّ بالرجال، فتبدو حوارات نبيلة وزوجها امتدادًا لخبرة أيّ امرأة تقليديّة تحمل البيت على كتفيها، مادّيًّا وعاطفيًّا

يُسجَّل للصايغ أنّها حين مرّت على تجربة مكرم، ميوله الجنسيّة، ورفض المجتمع له لاختلافه، لم تسقط في فخّ استغلال الحدث كقضيّة جاهزة أو كمادّة تُساير الأجندات الرائجة. تعاملت مع حكايته بوصفها مدخلًا أعمق لمسألة القبول، وكيف يسعى المجتمع، بلا كلل، إلى كسر المختلف أو ترويضه ليصبح نسخة أخرى من نسخ الطاعة.

“نبيلة”، وجوهها المتعدّدة وجرحها الأول

تسهب الكاتبة في نحت شخصيّة نبيلة: حبّها لإعادة تدوير الأشياء كترميز لعلاقتها بالوجود، وللشعر المعاصر، وذكاؤها الوقّاد وقدرتها على حلّ المشكلات وتحديد الأولويّات، وعنادها يدفعها للتشبّث بالقديم وخوفها من الجديد.

تنتحل نبيلة هويّتين: الأولى هي “السّتّ ندى”، لأسباب اجتماعيّة تمنع الشيخة من الظهور الإذاعيّ، والثانية فتاة عشرينيّة عبر حساب زائف على “فيسبوك” لتتقرّب من زوجها. هنا تبرع الكاتبة في بناء شخصيّات معقّدة: نبيلة التي وصفتها راغدة بأنّها “مشبّعة بالرضى” ترتدي ثوب ندى لتكسر قرويّتها وتشارك الجمهور مواهب يتجاهلها مجتمعها الضيّق.

تُظهر نبيلة رفضًا لهيمنة الذكور واستنسابيّتهم في الأحكام، لكنّها في الوقت نفسه تتبنّى بعض جوانب النظام الدينيّ، من خلال نظرتها الفوقيّة لراغدة، تقديرها العميق للشيخ أبو طاهر، وكونها شيخة حتّى حين تنتحل شخصيّة جامعيّة.

تثبت الصايغ براعتها في التفاصيل، فكلمة سرّ حساب نبيلة الزائف ليست سوى اسم حبيبها القديم وتاريخ تعارفهما، كأنّها تقول إنّ الإنسان، مهما كبر، يبقى أسير رغباته الأولى وذكرياته التي لا يبهت منها سوى الألم.

جراح النساء ومشاعر الرجال المكبوتة

تغوص الكاتبة في عقل النساء وعلاقاتهنّ بالرجال، فتبدو حوارات نبيلة وزوجها امتدادًا لخبرة أيّ امرأة تقليديّة تحمل البيت على كتفيها، مادّيًّا وعاطفيًّا، بلا امتنان كافٍ. الرجل بدوره ضحيّة تربية تُخمد المشاعر وتمنع التواصل.

وفي تفكيكها لتصرّفات الأمّهات التقليديّات، تفسّر خوفهنّ العميق من الحبّ على أنّه محاولة لاواعية للانتقام من مجتمع حرّم الحبّ، فيسقطن هذا الحرمان على بناتهنّ.

يحمل الكتاب دعوة صريحة لكلّ إنسان، أيًّا تكن بيئته أو خلفيّته الفكريّة- منفتحًا كان أو محافظًا، علمانيًّا أو متديّنًا- للفهم قبل الأحكام، وللتواصل قبل القطيعة

كذلك تلامس الكاتبة العلاقات غير السويّة التي يولّدها الفقر المادّيّ والعاطفيّ والخوف من الناس؛ إذ يصبح الشعور بالذنب ترفًا، واحتضان الأبناء أمنية مستحيلة، فيما تُقدَّم الأولويّة لإرضاء الغرباء: “اللحم للناس والقاورما للأبناء”.

دعوة أخيرة للغفران

يحمل الكتاب دعوة صريحة لكلّ إنسان، أيًّا تكن بيئته أو خلفيّته الفكريّة- منفتحًا كان أو محافظًا، علمانيًّا أو متديّنًا- للفهم قبل الأحكام، وللتواصل قبل القطيعة، وللقراءة الهادئة لدوافع الآخر قبل اتّخاذ أيّ موقف منه.

في ختام الرواية، تستلقي نبيلة على فراش المرض وتطلب من أمل أن تتفهّم أباها وتغفر له. تدعوها لأن تمنحه الأعذار التي كانت تمنحها للجميع، وتقول لها: “ستستطيعين مسامحته إذا تجاهلتِ كونه والدك”. عبر هذه الجملة، تعود الكاتبة لتؤكّد واحدة من أهمّ خطوات التشافي النفسيّ وهي القدرة على التعاطف، وعلى النظر إلى الآخر من خارج حصار جراحنا، كطريق للتصالح مع الذات قبل أيّ شيء.

رواية لفهم مجتمعنا

تمتلئ رواية “ثمرة النار” بكثير من الأحداث والشخصيّات التي تستحقّ المعالجة، مثل علي زوج نبيلة الذي خسر كثيرًا في حياته بسبب عدم قدرته على فهم زوجته وبناته، سمر وابنها الذي صار ضحيّة ضعفها بعد أن كانت هي الضحيّة، نجاة ومهنّد اللذين يجسّدان غياب العدالة عن الوجود والمحبّة غير المشروطة حتّى النهاية، ونرمين بتعاليها الذي تخفيه تحت ستار الإيمان، وراغدة المندفعة خلف الحبّ..

“ثمرة النار” رواية طليعيّة، وعمل متقن ومكتوب بجهد واضح وحرفيّة عالية، عمل يفتح آفاقًا للنقاش وأبعادًا يبنى عليها، ويضيف إلى المكتبة العربيّة صوتًا نسويًّا وإنسانيًّا خلّاقًا، قراءته ضرورة لفهم مجتمعاتنا الغارقة في هواجسها وأرواحنا المثقلة بالأسئلة وعقولنا الباحثة عن الإجابات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

زر الذهاب إلى الأعلى