جرائد بعلبك الرائدة.. عن انطلاقة الصّحافة في مدينة الشّمس
في شهر تشرين الثاني من عام 1929 أصدر الصحافي والشاعر يوسف فضل الله سلامة أوّل مجلّة شهرية في بعلبك تحت اسم “جوبيتر”، كبير آلهة الرومان الذي أصبحت ستةٌ باقيةٌ من أعمدة معبده الأسطوريّ رمزًا أيقونيًا لمدينة بعلبك.
هذه المجلّة لم تكن لتصدر لولا جريدة “بعلبك” الأسبوعيّة التي أصدرها المحامي والشاعر يوسف الغندور المعلوف (1891-1957) في آذار من عام 1927 بعد أن استقدم مطبعة إلى بعلبك خصّيصًا لهذا الغرض، وكان الغندور قد توسّم النباهة في يوسف فضل الله سلامة منذ عرفه كاتبًا مياومًا في دائرة الاستنطاق في بعلبك، فقرّبه إليه وعيّنه كاتبًا في مكتبه، ثم سلّمه إدارة زاوية ثابتة في جريدته وهو لم يبلغ الثامنة عشرة بعد! هذا ما ينقله سلامة في مقال له بعنوان “خمسون عامًا مع الصحافة” نُشر في مجلة العرفان مطلع العام 1993، ويشير في هذا الصدد إلى أنَّ الغندور استحصل على حكمٍ قضائي بتعديل سن سلامة من 17 إلى 21 عامًا ليصبح تعيينه في الوظيفة قانونيًا.
وبين أول جريدة وأول مجلّة أصدر الأديب والمحامي لطفي حيدر في تموز من عام 1927 جريدة “الأضاحي” الأسبوعيّة التي طُبعت في دمشق، وكانت ذات منطلقاتٍ بعلبكيّة وتوجّهاتٍ عروبية سورية، لكنها لم تعش أكثر من عامٍ واحد، لاحقًا أصدر الأديبان وديع حدّاد والياس سكاف جريدة “رأس بعلبك” التي وقع بينها وبين جريدة “بعلبك” صراعٌ وصل إلى أروقة المحاكم.
أصدر الأديب والمحامي لطفي حيدر في تموز من عام 1927 جريدة “الأضاحي” الأسبوعيّة التي طُبعت في دمشق، وكانت ذات منطلقاتٍ بعلبكيّة وتوجّهاتٍ عروبية سورية، لكنها لم تعش أكثر من عامٍ واحد
جرائد ومجلّات وتنوّع ومنافسة، هكذا كان ماضي الصحافة في بعلبك في فترةٍ مفصليّة من تاريخ لبنان قبل الاستقلال، كانت مدينةً يمكن بسهولةٍ مقارنتها بمدن -أو عواصم – عربيّة في ذلك الزمن، من حيث عدد المنشورات وتنوّعها، أمّا اليوم فلا نكاد نجدُ مجلّة او جريدة ورقيّة تصدر من مدينة باخوس وجوبيتر، اللهم إلّا بعض المنشورات المحليّة المتواضعة المتقطّعة الصدور.
ولسنا الآن في صدد تناولِ أسباب أزمة الصحافة في بعلبك، فهي أزمة متجذّرة متشعّبة مرتبطة بتهميش الأطراف المزمن في الكيان اللبنانيّ، ولا يمكن بحالٍ فصلها عن أزمة الصّحافة الورقيّة في العالم، ولكنّنا سنطلُّ من هذه النافذة على انطلاقة الصحافة في مدينة الشّمس من خلال الجريدة الأولى والمجلّة الأولى، لا إطلالة المتحسّرِ على ماضٍ مضى، بل المستلهم من التاريخ لمحاولة ترميم الحاضر المتداعي على الأقل، ما يبعثُ إمكانيّة استشراف المستقبل.
الجريدة الأولى: جريدة “بعلبك”
تحت شعار “جريدة سياسية جامعة تصدر الخميس من كل أسبوع” صدر العدد الأوّل من جريدة “بعلبك” بصفحاتها الثمانية في 26 آذار من العام 1927، كأوّل جريدة تصدر من هذا الإقليم الذي أصبح بعد الحرب العالميّة الأولى جزءاً من كيان “لبنان الكبير”، وضمّت الجريدة إضافةً لمؤسّسها يوسف الغندور المعلوف وصاحبه يوسف سلامة، نخبة من كتّاب بعلبك ولبنان في تلك الفترة كالدكتور ملحم الفريجي ومفتي الشيعة في بعلبك الشيخ علي النقي زغيب (1867-1937) وغيرهم.
تناولت مقالات الجريدة حينها، القضايا السياسية والاجتماعية والأدبيّة الملحّة آنذاك، تارة من المنظور الوطنيّ حيث انتقدت -مثلاً- الإرهاصات المبكرة للطائفيّة وحذّرت من خطرها المستقبليّ على الوطن النهائيّ، وطورًا من المنظور المحلّي إذ خصّصت بعض صفحاتها لنقل الواقع المزري لقرى بعلبك زراعيًا وأمنيًا واجتماعيًا، قدّمت الواقع واقترحت الحلول وحثّت مؤسّسات الدّولة على الالتفات إلى التفاوت بين وضع العاصمة وأوضاع الأطراف، ولم تخلُ صفحاتها من حدّةٍ وجرأةٍ في تقريع المسؤولين وتسمية الأمور بمسمّياتها.
صدر العدد الأوّل من جريدة “بعلبك” بصفحاته الثمانية في 26 آذار/مارس من العام 1927، كأوّل جريدةً تصدر من هذا الإقليم الذي أصبح بعد الحرب العالميّة الأولى جزءاً من كيان “لبنان الكبير”
إضافة إلى ذلك نشرت الجريدة قصائد لشعراء لبنانيين منهم خليل مطران وقيصر وفوزي المعلوف وفارس الخوري ووديع عقل، وترجماتٍ للشعر العالميّ كقصائد الشاعرين الفرنسيين لامارتين (1790-1869) وألفرد دي موسيه (1810-1857) بالإضافة إلى قصائد بالمحكيّة اللبنانيّة وبعض القصص القصيرة، كما خصّصت زاوية للنقد الأدبي.
لا نعرف على وجه التأكيد السبب المباشر لتوقّف جريدة بعلبك عام 1934 ولكنَّ خلافًا نشب بين صاحبها يوسف الغندور وبين يوسف سلامة عام 1929 أدّى لأن يصدر الأخير مجلّته الخاصّة باسم “جوبيتر”، وكان إطلاق جريدة “رأس بعلبك” مطلع الثلاثينيات من قبل الياس سكاف ووديع حدّاد بمثابة إعلان حرب على جريدة بعلبك بالنظر إلى اختلاف وجهات النظر السياسيّة بين الطرفين، فبدأت المقالات والمقالات المضادّة ووقف يوسف سلامة وملحم فريجي في صف الجريدة الجديدة بوجه الجريدة الأم، ووصلت الأمور إلى دعاوى القدح والذم في المحاكم، فلم تنته هذه المعركة إلّا مع توقّف الجريدتين وانتقال يوسف الغندور إلى بيروت ليطلق من العاصمة جريدته الجديدة باسم “السياسة”.
المجلّة الأولى: مجلّة “جوبيتر”
“تشرق اليوم في مدينة الشمس، شمسٌ جديدة في أفق الآداب، صغيرة بمبناها، كبيرة بمعناها، شعارها التجرّد ونشر الأفكار الحرّة. إنّها لسان الشباب الوثّاب المتحرٍّر، ورسول أمين بين الوطن والمهجر، هذه المجلّة تحارب التعصّب الأعمى والطائفيّة البغيضة، وهي لا تُرسَل إلّا لمن تتوسّم فيهم الغيرة الصحيحة والوطنيّة الصادقة. سدد الله خطواتنا وهدانا إلى السواء السّبيل”.
هذا ما جاء في افتتاحيّة العدد الأوّل من مجلّة “جوبيتر” الشهريّة التي أنشأها يوسف سلامة في بعلبك بعد خلافٍ مع عرّابه يوسف الغندور كما يذكر، وطبع عددها الأوّل في زحلة، ثمَّ تنقّلت أعدادها التالية بين مطابع بعلبك وزحلة وصيدا وحتّى دمشق وفق مكان إقامة ناشرها، وكانت تصل عبر وكلاء إلى ما وراء البحار، حيث يقرؤها المغتربون اللبنانيون في أصقاع الأرض وتستقبل أحياناً بالمراسلة كتاباتهم وشعر شعرائهم لنشره على صفحاتها.
كان الأدب المادة الأساسيّة لمنشورات المجلّة التي لم تغفل تحليل الأخبار والقضايا الاجتماعيّة، وقد اتّسعت مصادر مادتها فجمعت بين أخبار أوروبا والغرب وقصائد شعراء الشرق العربيّ البارزين آنذاك كأحمد شوقي وحافظ ابراهيم وخليل مطران.
مجلّة “جوبيتر” الشهريّة أنشأها يوسف سلامة في بعلبك بعد خلافٍ مع عرّابه يوسف الغندور كما يذكر، وطبع عددها الأوّل في زحلة، ثمَّ تنقّلت أعدادها التالية بين مطابع بعلبك وزحلة وصيدا وحتّى دمشق وفق مكان إقامة ناشرها
تعدُّ مجلّة “جوبيتر” المنشور الأطول عمراً بين المنشورات التي ظهرت في تلك الموجة، فجريدة “الأضاحي” توقّفت بعد سنة واحدة، وجريدة “رأس بعلبك” لم تعش أكثر من سنتين، أمّا الجريدة الأم “بعلبك” فعاشت ما يقرب من 6 سنوات، ومع توقّفها بقيت “جوبيتر” وحيدة في الساحة البعلبكيّة، ثمّ تحوّلت أسبوعيّة وقاومت بهمّة مؤسّسها الاندثار –رغم الظروف الخانقة- 11 عاماً، وشاكست السلطة أحيانًا قبل أن تتوقّف في عام 1940 بقرارٍ من الانتداب الفرنسيّ بحجّة تقليل عدد الصحف في لبنان.
هذه كانت إطلالةً موجزة على انطلاقة الصحافة في بعلبك، انطلاقة متحمّسة بعد قرون من الصمت زمنَ العثمانيين، لكنّها لم تمتلك مقوّمات الاستمرار، على أنَّ هذه كانت الموجة الأولى، عرفت بعلبك بعدها موجاتٍ أخرى من الصّحف في فتراتٍ تاريخيّة مختلفة من القرن العشرين، ربّما نتناولها في إطلالات لاحقة، لكنَّ هذه الموجات لم تتحوّل أبدًا إلى تيّارٍ حيٍّ ومستمر، فبقيت بمثابة ومضاتٍ مبهرة في ظلمات الصّمت والتهميش والتّجاهل.