جريمة أنصار.. البلدة التي ستلفظ الجريمة والمجرم
بين منزل المغدورات، الأم باسمة عباس وبناتها ريما وتالا ومنال، وبين المغارة التي تمت فيها الجريمة المروعة على يدي المجرم حسين فياض وشريكه السوري المجرم الآخر حسن الغباش مسافة تقل عن الكيلومترين. وبين الثاني من آذار تاريخ اختفاء الضحايا والرابع والعشرين منه تاريخ اكتشاف الجريمة، مسافة زمنية امتدت لأكثر من اثنين وعشرين يوماً. بقعة جغرافية ومكانية صغيرة نسبياً لجريمة استدعى إماطة اللثام عنها كل هذه المدة الزمنية، وذلك لم يكن ليحصل لولا تدخل مبادرات فردية وجهود شخصية أدت جميعها إلى كشف المجرم وتسليمه للقوى الأمنية ليعترف بجريمته المروعة التي نفذها بمساعدة السوري المجرم الآخر حسن الغباش.
هول الجريمة ووقائعها استدعت الكثير الكثير من التحليلات والسرديات، واستحوذت على مساحة كبيرة من وسائل الإعلام. بدءاً من تصنيف الجريمة مروراً بمجرياتها وصولاً لدوافعها والتي لم تحسم بعد بانتظار الرواية الرسمية ونتائج التحقيق. لكن تبقى الفجوة الكبرى تتمثل في الفضيحة “المجلجلة” التي تمثلت بالمدة الزمنية الطويلة التي استغرقها الكشف عن الجريمة وما رافقها من تقصير قضائي وأمني فاضح يعكس اهتراءً واستهتاراً وخفة غير مسبوقين في التعامل مع حدث بهذا الحجم وهو مصائر الناس وحياتهم.
يتشارك بذلك أيضاً البلدية والأحزاب والمجتمع والإعلام لانهم تخلفوا عن مواكبة قضية اختفاء الفتيات وأمهن ولم يحولوها إلى قضية رأي عام يومية منذ حدوثها لكي تضغط على الأمن والقضاء ليعملا ليل نهار من أجل الكشف عن مصير الضحايا، إذ اقتصرت المتابعة بالركون إلى فرضيات تافهة لا ترقى إلى مستوى الحدث الذي يستدعي دون تردد ولو للحظة واحدة البحث الدائم عن مصير الأم وبناتها حتى الكشف عن ذلك، أياً كان هذا المصير.
الاستخفاف بمصير أم وبناتها بحجة أنها تزوجت واصطحبتهن معها هو جريمة أخرى ارتكبت بحق الفتيات وأمهن، وهو يحمل من استكان لتلك الفرضية مسؤولية كبرى في عدم الكشف عن مصير المغدورات سريعاً، خصوصاً أن الجريمة وقعت في بقعة مكانية صغيرة نسبياً وكشفها بالسرعة اللازمة كان ممكناً لو أن عنوان العمل لكشف الجريمة تمّ بخلفية كشف مصير بشر وليس التسليم بثقافة ذكورية تقف عند حدود بأن المرأة أصبحت في كنف رجل، بغض النظر عن فكرة كونها إنسان يستدعي ذلك الكشف عن مصيره.
لا يقلل تصنيف الجريمة من جرميتها ولا يرفع منسوبها إذا ما كانت ذكورية أم خلاف ذلك. الجريمة تبقى جريمة بشعة بغض النظر عن تصنيفاتها ودوافعها ولا ينتقص من بشاعتها أي دافع أو أي تصنيف. وحدها الخفة في التعاطي مع مصائر الناس هو الذي يرقى إلى جريمة أخرى لا تقل فداحة عن الجريمة الأساس، وهذا ما حصل في جريمة أنصار التي ذهب ضحيتها أم وبناتها ذنبهن الوحيد أنهن يعشن في مجتمع لا يقيم وزناً للنساء وقضاياهن ومصائرهن.
بالرغم من وحشيتها، إلا أن الجريمة تبقى بإطارها الفردي الضيق ولا ترقى إلى سلوك جرمي مجتمعي، أو انعكاس للانهيار الاقتصادي الذي نعيش تداعياته القاسية يومياً. لكن مستوى الخفة في التعاطي مع الجريمة يمثل الوجه الكارثي للانهيار الذي عصف بالمؤسسات وصدّعها، ومعها يفقد المواطن كل يوم مظلة من مظلات الأمان التي تتلاشى الواحدة تلو الأخرى.
البارحة ودّعت أنصار ضحاياها الأربعة بمأتم مهيب، في جريمة لم تعرف البلدة ولا الجنوب نظيراً لها من قبل. مشهد الوالد المفجوع المختار زكريا صفاوي يحتضن فلذات كبده أدمى القلوب. غداً سيذهب الناس كل إلى عمله، ورويداً رويداً ستصبح الجريمة حدثاً يرتبط باسم البلدة بعدما ارتبط اسمها طويلاً باسم معتقل أنصار. من الغد وحتى وقت طويل سيرتبط إسم البلدة بحدث الجريمة معطوفاً عليه إسم السفاح حسين فياض. لكن البلدة التي لفظت المعتقل وقاومت الاحتلال ستلفظ حتماً الجريمة وستحتفظ بطيب الذكرى لضحاياها، وستبقى وفية لمختارها الطيب الذي ينضح محبة وحيوية وعافية.
كل الحب لأنصار التي تجاوزت ماضياً محناً ومآسي وتواجه اليوم جريمة مروعة دمّرت عائلات وألحقت أضراراً نفسية جسيمة بالمجتمع الأنصاري، فذوو المجرم الذي ارتكب الجريمة طيبون مسالمون لا يقل مصابهم عن مصاب عائلة المختار زكريا صفاوي. وهم يحاولون جاهدين مداواة جراح البلدة من خلال الدعوة إلى إنزال أشد العقوبات بالمجرم.
غداً سيعلق المختار زكريا صفاوي في الإستديو الذي يملكه في البلدة صور بناته. وربما سيتابع رسم لوحاته الريفية عن بلدته التي أحب وستصبح باسمة وريما وتالا ومنال هنّ لوحاته.. هنّ أنصار.