مجزرة الضاحية.. حين يحكي الركام قصص الضحايا!
عندما يموت الفقراء تولد الحكايات، هذا ما نتذكّره أو نعيشه ونعايشه، إذ نادرًا ما يسترجع الناس حكايات جيرانهم وأبناء أحيائهم وحاراتهم، لا سيّما تلك المتعلّقة بسلوكهم الحميد، الرائق، الهادئ، وانغماسهم في حيواتهم الخاصّة وانصرافهم إلى مشاغلهم بعيدًا من الضجيج، إلّا عندما يموتون، أو يُقتلون، وهنا تنسج الحكايات ذاتها وتتعاظم مع جملة من الأسئلة المشروعة وغير المشروعة: كيف قتلوا، ولمَ قتلوا، وعلامَ قتلوا؟
لكن ماذا يمكن أن يدور من أسئلة عندما يُقتل الناس عنوة، أعدادًا وجماعات، بنيران عدوّ جعلهم وقود ناره كي يحصّل مكاسب سياسيّة وعسكريّة وأمنيّة؟ عندما يرمي جيش غاشم لا يبالي بالمواثيق الإنسانيّة والدوليّة، بقنابل ضخمة مدمِّرة قاتلة من الجوّ، مبنى من ثماني طبقات وشقق، تسكنها طبقة من الفقراء والراضين بما كتب لهم من أقدار ومعايش وعلاقات مع وبمن يشبههم، فتحيلها كومة من ركام وتشتتهم أشلاء؟ هذا ما حصل في المبنى القريب من مسجد “القائم” في محلّة “الجاموس” في ضاحية بيروت الجنوبيّة، مساء الجمعة الماضي الـ20 من أيلول (سبتمبر) الجاري.
51 شهيدًا و10 مفقودين
لم يخجل العدو الإسرائيلي من نفسه حينما فنّد في بياناته العسكريّة كيف اغتال المسؤول العسكري الأكبر في “حزب الله” إبراهيم عقيل مع ثلّة من أعضاء قيادة “قوّة الرضوان” فيشير إلى إنّه استخدم صواريخ مخترقة للأرض “في ضربة بيروت، حيث وصلت الصواريخ أسفل موقف السيارات، وهو يعتبر ملجأ بمسافة حوالي 20 مترًا أسفل البناية. ثم ضرب البناية بأربعة قنابل GBU الموجّهة أدت إلى انهيار المبنى بالكامل”. وكشف كذلك أن “طائرات F35 وF15 نفذت الهجوم هذا”.
بعد الغارة مباشرة انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعيّ كثير من نداءات حول مفقودين من سكّان المبنى أو زوّاره أو ممّن كانوا في جواره لحظة وقوع الغارة، لكن بعدها اختلطت الأمور بعضها ببعض، خصوصًا مع بدء العثور على جثث وأشلاء تحت الردم. المؤسف أنّه بعدها صار التعامل مع الضحايا على شكل أرقام أكثر منه أسماء الشهداء، ولذا لم تتوافر حتّى اليوم لائحة مفصّلة تحمل أسماء الشهداء إن لم نقل أسماء الجرحى ممّن سقطوا في هذا المبنى، خصوصًا بعدما بلغ عدد الشهداء تحت أنقاض المبنى 51 شهيدًا و10 مفقودين، إلى 16 شهيدًا قائدًا ومساعدًا في “قوّة الرضوان”.
الشهيدة المهندسة رولا دقدوقي
في المبنى استشهد تمّام إبراهيم دقدوقي (أو الدقدوقي) ابن بلدة برجا الشوفيّة وزوجته فاطمة توبة وابنتهما المهندسة رولا وصهر العائلة لشقيقة رولا ربيع موسوي، ونجا الابن الوحيد إبراهيم الموجود في افريقيا. وقد نعاها عدد كبير من زملائها المهندسين، بأسمائهم واسم كلّيّة الفنون الجميلة والعمارة في الجامعة اللبنانيّة ومجلس طلّاب الفرع الأوّل، ونشروا صورتها بابتسامتها التلقائيّة ووجهها العذب وعينيها الخضراوين.
نعاها كذلك المستشار في العمارة التراثيّة والترميم في وزارة الثقافة اللبنانية المهندس حبيب صادق “الشهيدة الزميلة المهندسة المعماريّة رولا دقدوقي، متخرّجة دفعة 2015- 2016” وقال ردًّا على سؤال “مناطق نت”: “رولا كانت طالبة عندي، علّمتها ثلاث سنوات في القسم النظريّ والدبلوم، هي تبلغ من العمر نحو 28 عامًا، أنا مقهور لموتها هي ووالديها وصهرها، زوجها كان مدعوًّا إلى الغداء عندهم لكنّه اعتذر لارتباطه بعمل، لكنّ صهرها زوج شقيقتها أتى واستشهد معهم”.
ويصف المهندس صادق الشهيدة رولا بأنّها “كانت مهذّبة جدًّا ولطيفة وموهوبة. وكنا نلتقي كلّ مدّة في النقابة وفي أكثر من مكان، هي إنسانة عاديّة طبيعيّة ونشيطة، كانت شغوفة جدًّا خلال دراستها، وكذلك تجاه الحياة، ومحيّاها لا يبعث إلّا على الأمل، وضحكتها لا تفارق وجهها”.
ويتابع: “السؤال لماذا مثل هؤلاء الناس يموتون بهذه الطريقة العبثيّة؟ لماذا يموتون أصلًا وبأيّ ذنب؟ فقط لأنّهم يقطنون في دائرة محسوبة على جهة ما؟ ولأجل استهداف 10 أو أكثر ليسوا على جبهة القتال يقتل 60 مواطنًا أو ربّما أكثر بلا رحمة أو رادع؟ لقد سقطت كلّ مبادئ الحضارة وخطاباتها ومقولاتها، وهذا العدوّ تفلّت من عقاله”.
وكتبت رنا نجّار على صفحتها: “رولا دقدوقي وأمّها وأبوها وزوجها كانوا جيراننا ومن خيرة الناس وأطيبهم، لا ينتمون إلى أيّ حزب ولا أيّ جهة سياسيّة. عائلة عصاميّة محبّة وعاملة وتعبت بحياتها حتّى تحصّل لقمة العيش، قُتلوا بأسلحة إسرائيليّة، السلام لأرواحكم”.
لم تتوافر حتّى اليوم لائحة مفصّلة تحمل أسماء الشهداء إن لم نقل أسماء الجرحى ممّن سقطوا في هذا المبنى، خصوصًا بعدما بلغ عدد الشهداء تحت أنقاض المبنى 51 شهيدًا و10 مفقودين
في المبنى المستهدف فُقدت عائلة موسى غازي وزوجته فريـال شقير وأولادهما: علي _غازي وابنته_ نايا _غازي (أربع سنوات)_، موسى _غازي،_ _وجنى غازي (13_ سنة) وفاطمة _غازي.
_ونعى أبناء ميس الجبل (بنت جبيل)_ الشهيدة آية حسين أحمد حمدان، وطفلتها الشهيدة فاطمة أحمد حمدان، الشهيدة الطفلة مرام قاسم حمدان، الشهيدة الحاجة جميلة الأخرس. “مع الإشارة إلى أنّ الحاج محمّد حسن شقير (أبو حسن) وأيضًا الحاجّة فريـال عبد الحسين شقير وزوجها وأولادها من آل غازي هم في عداد المفقودين”.
نايا عصفورة أبكت القلوب
لم يمضِ وقت كثير على الغارة، حتّى انتشر على وسائل التواصل الاجتماعي شريطًا مصورًا للطفلة “الأعجوبة” نايا غازي البالغة أربعة أعوام، وقصصها الطفوليّة الرائعة وضحكاتها المجلجلة التي لا يمكن إلّا أن يرفّ القلب لها قبل أن ينزف، من طريقة مداعبتها للحلّاق وهو يهّم بترتيب شعرها وقصّه، إلى اختبائها في طاقة تحت “الكونتوار” ومناوشاتها البريئة مع والدها، إلى ما يدلّ على حياتها العامرة بالطفولة والذكاء والحياة. أمس تكشّف النقاب والردم عن جثة الطفلة الموهبة، الأمر الذي انعكس حزنًا على جميع اللبنانيّين.
تصدّرت نايا وصورها المواقع الإخباريّة ومواقع التواصل الاجتماعيّ بضحكتها وحركاتها التي تفوق عمرها، وبقي خبر فقدانها تحت ركام المبنى في منطقة الجاموس بعد العثور على جثّة والدها علي غازي الأكثر تداولًا مع ما رافقه من أمنيات ودعاء في أن تكون سالمة حيّة.
ولاقى الفيديو المنتشر للطفلة نايا غازي مع أحد مصفّفي الشعر المشهورين على منصّة “تيك توك” تفاعلًا واسعًا خلال الساعات الأولى للمجزرة في الضاحية، إذ ارتفعت المناشدات للمساعدة في البحث عنها في المستشفيات لعلّها تكون من بين الناجين.
جنى غازي
أمّا الإعلاميّ فؤاد بزّي فكتب على صفحته على “فايسبوك”: “جنى غازي، تلميذة تعرّفت عليها هيدي السنة. جنى بصف السوكوند (الثانوي الأوّل)، الشعبة (إف) F، إجت على الثانويّة بشهر كانون. نزحت هي وعيلتها من بليدا، هربوا من الحرب ولحقت بهم الحرب لهون. ورغم هيك جنى نابغة، عبقريّة، بتفهم من أوّل جملة وبتزهق لمّا عيد. جنى مفقودة مع أهلها وأخوتها كلّهم، بيتها بالبنايات التي ضربت، جنى وعيلتها ويمكن عشرات من الناس تحت الأنقاض”.
وأضاف: “مش عم إدعي إلا تكون كلّ الأخبار لـ جايي من مكان القصف غلط. ما بدّي شي غير العالم كلّها تلاقي بعضها، ما يفتّش أب عن أولاده بالمستشفيات، ولا تضيع بنت صغيرة من دون أهل… شي كتير صعب اللي صار. ادعوا لجنى ولكلّ الناس المفقودة. بتمنّى إرجع شوفك بصفّك، بين رفقاتك، وتزهقي من كتر الشرح والإعادة!”.
أطفال عائلة فارس والشهداء
من بلدة مارون الراس جارة بنت جبيل، قضت عائلة “فارس” تحت أنقاض المبنى، الجدّ والجدّة والوالد والعمّة وأربعة أطفال، فبلغت ثمانية شهداء، هم: الحاج محمّد ياسين فارس والحاجة فاطمة فارس، جواد محمّد فارس، ربى محمّد فارس والأطفال جلال وعلي وفرح وفاطمة فارس.
ونشر الإعلامي فراس خليفة الصورة المتداولة لأربعة أطفال من عائلة فارس على صفحته على “فايسبوك” تحت عنوان “أين تذهب كلّ هذه الضحكات الآن؟”، فقال: “قبل يومين، أرادت “إسرائيل” الوصول إلى “صيد ثمين” في الطابق الثاني تحت الأرض، فأسقطت لأجل ذلك ثمانية طوابق على رؤوس ساكنيها. مرَّ الحديث عن الضحايا والشهداء من السكان المدنيّين سريعًا وكأنّهم مجرّد عوارض جانبيّة للحدث الأمني. هذا ما فعلته “إسرائيل” في غزّة مرارًا، وما كانت تفعله دائمًا، عندما كانت تبرّر قتل المئات بحجّة وجود مقاومين”.
وأضاف: “لا بأس إذًا من موت كلّ هؤلاء الناس طالما أنّ الوصول إلى الهدف المطلوب يمنح القاتل “مشروعيّة” القتل الجماعيّ. وهكذا، بوعي (غالبًا) أو من دون وعي (أحيانًا)، “يمشي الجميع في الخبرية”. وختم: “الأطفال الشهداء من آل فارس: فرح وفاطمة وجلال وعلي قتلتهم إسرائيل مع عائلتهم و50 مواطنًا لبنانيًّا في مجزرة الضاحية قبل يومين”.
حوالي 60 شهيدًا أو أكثر، إذ إنّ الحصيلة لم تكتمل فثمّة مفقودون أو أشلاء تحتاج إلى إجراء فحوص “دي إن إي”، لكن هناك 60 حكاية وحكاية من أصغر طفلة كانت تقطن في هذا المبنى “نايا غازي” إلى أكبر جدّ وجدةّ أغمضا عيونهم على حتميّة الموت الجماعيّ عندما يقرّر العدوّ أو الجاني ارتكاب مجزرته من دون هوادة أو ضمير، من سيتذكّر هذه الحكايات؟