جريمة حرق الإطارات في طرابلس بغطاء سياسي.. من يكافحها؟
كيف لنا أن نحمي الأرض التي نعيش عليها ونأكل من خيراتها، لا سيّما في يوم الأرض المصادف في 22 نيسان/ إبريل من كلّ عام، وثمّة من يشوّه سطحها وصورتها إذ يساهم في خرق الشروط البيئية التي تحميها وتحمي من عليها؟ كأنّ “حُفنة من الدولارات أهمّ من حياة مئات الآلاف من البشر”، إنّه الانطباع السائد في مدينة طرابلس شمال لبنان التي تعاني منذ سنوات عديدة من ظاهرة إشعال الإطارات داخل الأبوار (جمع بُور) من أجل استخراج المعادن.
هذا الأمر بات يظهر بين الفينة والأخرى، إذ استفاقت عاصمة الشمال عشيّة عيد الفطر الماضي على سحابة سوداء عملاقة، ملأت سماء المدينة، وأزكمت أنوف المواطنين. كلّ ذلك في مقابل عجز شبه تامّ لجميع الأجهزة والفاعلين في المشهد الطرابلسيّ، إذ لم تشهد المدينة أيّ مبادرة حقيقيّة، تعكس جدّيّة المؤسّسة الأمنيّة والسلطات السياسيّة في المدينة، للجم هذه الأعمال المخلّة، التي ترقى إلى رتبة الجريمة المنظّمة و”القتل الجماعيّ”.
تحت أعين الأجهزة
تزداد القناعة لدى المواطن الطرابلسيّ والناشطين بوجود غطاء لأفعال خطرة كهذه، أو أقله نحن أمام فعل إهمال أو تقصير، لأنّها تحصل في أماكن معروفة، وتستغرق مددًا زمنيّة طويلة، ولا يمكن إخفاء معالمها بسهولة، إذ تحصل بطرائق بدائيّة، ولها رائحة ولون واضحان.
تحدث حرائق الإطارات في بعض الأحيان في أماكن مشرفة على مؤسّسات تربويّة هامّة يملكها رئيس الحكومة نجيب ميقاتي عند “دوّار أبو علي”، يتنشق طلّابها رائحة الانبعاثات الخطيرة، وكذلك على مقربة من منزل وزير الداخلية القاضي بسّام مولويّ في” شارع المئتين”، أو حتّى في مواقع حيوية في المدينة تحت أعين الأجهزة، يقول المواطنون.
“في البداية، كنّا أمام مجرّد فرضيّة وشبهة، ولكن من دون دليل، بيد أنّ تكرارها على مدى سنوات وسنوات، يؤشّر إلى أنّها تتمتّع بتغطية ما، خصوصًا أنّه لم تبذل الدولة أيّ مجهود لقمعها، على رغم حصولها في وضح النهار وعلى مقربة من مؤسّسات حيويّة”، يقول شاهد عيّان لـ “مناطق نت”.
تحرّك وزارة البيئة
كما أسلفنا، أنه في يوم الثلاثاء في التاسع من نيسان/ أبريل، عشيّة عيد الفطر شهدت مدينة طرابلس على سحابة قاتمة غطّت سماء المدينة. هذه الحادثة شكّلت امتدادًا لعشرات حوادث إشعال الإطارات داخل الأبوار العشوائيّة بغية استخراج المعادن، مخلّفةً حالة من الاستياء في الأوساط الشعبيّة كافّة.
بعد مرور أسبوع على الواقعة، زار وزير البيئة ناصر ياسين المدينة، لحث قياداتها على التحرّك من أجل إيجاد حلّ لهذا الملف الضاغط بيئيًّا وصحيًّا. والتقى مفتي طرابلس الشيخ محمد إمام، كما زار بلديّة طرابلس وعرض خطّته بشأن إدارة النفايات الصلبة، وتأهيل مكبّ النفايات ومعمل الفرز ومعالجة أزمة الأبوار.
في يوم الثلاثاء في التاسع من نيسان، عشيّة عيد الفطر شهدت مدينة طرابلس على سحابة قاتمة غطّت سماء المدينة. هذه الحادثة شكّلت امتدادًا لعشرات حوادث إشعال الإطارات داخل الأبوار العشوائيّة بغية استخراج النحاس
يؤكّد الوزير ناصر ياسين في حديث خاص لـ”مناطق نت” متابعته الحثيثة للملف منذ استلامه حقيبة البيئة، وأنّه لم يقصّر بواجباته، و”كنت أرسل وباستمرار إخبارات وكتبًا رسميّة إلى محافظة الشمال، والنيابة العامّة من أجل التحرك”. جازمًا خبر إغلاق القوى الأمنيّة إحدى الأبوار في سقي طرابلس، وختمها بالشمع الأحمر بعد يوم من زيارته المدينة.
وفي أعقاب الاجتماع الذي عقد في مكتب رئيس بلديّة طرابلس رياض يمق، تطرّق ياسين إلى “الحرق العشوائيّ للنفايات السامّة داخل أبوار الخردة”، لافتًا إلى إرساله كتابًا إلى المحافظ صاحب الاختصاص في هذا الملف للمطالبة بإقفال “كلّ الأبوار والمكبّات العشوائيّة”. وقد أرسل المحافظ رمزي نهرا نهار الإثنين الماضي -15 نيسان- كتابًا إلى القوى الأمنيّة والقضاء والبلديات لإغلاق الأبوار المخالفة.
لمشاهدة ڤيديو إحراق الإطارات في طرابلس إضغط هنا
يكشف ياسين لـ”مناطق نت” أنّ “الحرق يطال الإطارات والبطّاريّات والمخلّفات”، مطالبًا القوى الأمنيّة والقضاء التحرّك من أجل قمعه، لأنّه “من غير الجائز إلحاق الأذى بمئات الآلاف من الناس من أجل فائدة عشرة إلى 30 شخصًا يعملون في الأبوار”، متحدّثًا عن السعي إلى بلورة آلية وجهد جماعيّ ضاغط لوضع حدّ لهذه الظاهرة.
جريمة “مغطّاية”
من أجل الحصول على الأسلاك المعدنيّة الموجودة في داخل الإطارات المطّاطيّة، يقوم أصحاب الأبوار بإضرام النار فيها. وباءت جميع المحاولات بالفشل في وقف هذه الأفعال.
يؤكّد الخبير البيئيّ جلال حلواني الذي كان يرأس لجنة البيئة في بلدية طرابلس لـ”مناطق نت” أنّه “منذ سنوات، ونحن نناشد الأجهزة الأمنيّة والمسؤولين والمحافظ ورؤساء البلديات لمكافحة الظاهرة، ولكن لم يقم أحد بأيّ خطوة توقف هذه المخالفات الواضحة للعيّان، ومعروفة المكان والزمان”.
ويتابع: “هي تحدث في أبوار أصحابها مدعومون سياسيًّا”، محملًّا المسؤوليّة “لكلّ من يحمي ويتستّر على هذه الجريمة، ولسوف يحاسب أمام الله سبحانه وتعالى، وسيحاسبه التاريخ لأنّه فرّط في صحّة أبناء المدينة وبيئتهم، وساهم في تشويه المواقع الطبيعيّة”.
ويضيف حلواني: “نتساءل مع المواطنين كافة العاجزين في هذه المدينة، أين نحن؟ إذا كان رئيس الحكومة ووزير الداخليّة من أبناء المدينة، ورؤوساء البلديّات والشرطة البلديّة وقوى الأمن يقفون عاجزين أمام استباحة صحّة وأمن طرابلس في مواجهة قلّة من المخالفين مّمن يرشون المسؤولين؟”.
كارثة بيئية
يصنّف حلواني حرق الإطارات في خانة “الكوارث البيئيّة والمصائب التي تصيب صحّة المواطنين، تمارسها مجموعة من المتخلّفين بيئيًّا من أجل حفنة من الدولار”. ويشير إلى أنّ “الإطارات تتألّف من مواد كيميائيّة، كالمطّاط والمواد المصاحبة، والأسلاك، يؤدّي حرقها إلى انبعاث السموم”.
ويجزم الدكتور حلواني أنّ “جميع الدراسات العلميّة تتّفق على صدور غازات سامّة عند إحراق الإطارات، التي تبثّ الدخان الأسود والغازات المختلفة، وتكون قاتلة للمصابين بالربو وأمراض الجهاز التنفّسي”.
من جهته، يتحدّث الخبير الكيميائيّ عبّاس اسماعيل عن “غياب الرقابة عن بعض الأعمال الخطيرة بيئيًّا بحجة أنّ من يقوم بها يبحث عن مصدر عيشه”، مؤكّدًا “فداحة إحراق الإطارات والكابلات الكهربائيّة المغلّفة والمصنوعة من مادّة مطّاطيّة Rubber، وهي موادّ بيتروكيميائيّة”.
يشير اسماعيل إلى “أنّ احتراق تلك المواد، يؤدّي إلى انتشار المواد المسرطنة في الهواء وتنشقها من البشر، وازدياد المشاكل التنفّسية وإصابة شرايين القلب”، محذّرًا من “مشاكل فادحة عند الأطفال حديثي الولادة، لأنّه عندما تتنشّق المرأة الحامل هذه المواد، فإنّها تسبّب تشوّهات خلقيّة في الجنين”.
ويضيف: “كما يؤدّي انتشار الجزيئات الكيميائيّة الصغيرة في الهواء إلى مشاكل في الجهاز التنفسي وسرطان الرئة”. ويحذّر إسماعيل كذلك من يقوم بإشعال الإطارات، “لأنّ أضرارها فادحة على صحتّهم، وهم أوّل من يتنشّق المواد السامّة، قبل أن يؤذون البيئة والناس الآخرين”.
يتطرّق إسماعيل إلى الآثار البعيدة الأجل لهذه الظاهرة السيّئة والانبعاثات الناجمة عنها، متحدّثًا عن “نتائج آنيّة مباشرة على غرار الشعور بالاختناق، وضيق التنفّس، وفي المقابل، هناك آثار طويلة الأجل، حيث يؤدّي استنشاق هذه المواد بصورة متكرّرة إلى أمراض مستعصية، وقد لا تظهر على الشخص مباشرة، وتنتقل إلى أبنائه والمواليد الجدد”.
المسؤوليّات في غيبوبة
انعكست زيارة وزير البيئة ناصر ياسين ارتياحًا في الأوساط البيئيّة والعلميّة الطرابلسيّة، فيما رأى فيها البعض “زيارة تحميل المسؤوليّات إلى أصحاب القرار في المدينة”. يثني الناشط البيئي والخبير في التلوّث الجرثوميّ منذر حمزة على حرفيّة وزير البيئة في مقاربته للملفّات البيئيّة في لبنان، ومن ضمنها الزيارات الميدانيّة لطرابلس.
في زيارته الأخيرة، التقى ياسين مفتي الشمال الشيخ محمد إمام الذي “أشاد بجهود الوزير لإنقاذ البيئة اللبنانية، وأكّد دعمه الكامل لتحرّك وزير البيئة الهادف إلى إنقاذ مدينة طرابلس” بحسب حمزة.
انعكست زيارة وزير البيئة ناصر ياسين ارتياحًا في الأوساط البيئيّة والعلميّة الطرابلسيّة، فيما رأى فيها البعض زيارة تحميل المسؤوليّات إلى أصحاب القرار في المدينة
في المقابل، يشير حمزة إلى أنّ “المسؤولين الطرابلسيّين وكأنّهم في حالة غيبوبة، والمطلوب منهم التدخّل الإيجابيّ لا السلبيّ، في ملف الاعتداءات على بيئة المدينة، وصحّة وحياة المواطنين”، مضيفًا “إنّ الوزير لا يمتلك عصا سيدنا موسى، لا بّد من أن يتعاون معه المسؤولون والمواطنون، ومن غير المقبول استمرار حالة اللامبالاة من نخب المدينة وقواها المدنيّة الحيّة”.
مشاكل بالجملة
يأسف حمزة أنّه “عندما تلقّت الإطفائيّة نداءً لإخماد الحرائق، اتّضح أن السيّارة لا تعمل بسبب بطّاريتها المعطّلة، ولا وجود للوقود في خزّنها”. ويسلط حمزة الضوء على الثغرات القانونيّة، قائلًا “في أثناء زيارة المدّعي العام القاضي زياد شعراني، اتّضح أنّ المواد القانونيّة بحاجة إلى تعديل من أجل تشديد العقوبة بحقّ مرتكب الجرائم البيئية، الذي يتفرعّ عنه تحصين القضاء”.
ويشير إلى “أن الجميع يرى أن الأزمة تتطلّب تدخّلًا وحسمًا من قبل السلطات الأمنيّة، وعدم جواز استمرار هذا الوضع المتواصل منذ سنوات من دون حل، ووجوب الحسم النهائيّ، لأنّ هيبة الدولة باتت على المحكّ”.
ويكشف حمزة عن “وجود رؤية شاملة وخطّة متكاملة للحلّ لدى وزارة البيئة، لناحية إدارة النفايات وتنظيم العمل بملفّ الإفادة من موضوع الإطارات وفق معايير علميّة، ومنع ما يجري بالصيغة الراهنة، والانتقال إلى الطرق الحديثة لمعالجة الإطارات واستخراج المعادن منها، وإعادة تدويرها في مصانع مجهّزة بعيدًا من المناطق السكنيّة”.