جفاف مستنقعات عمّيق يدق ناقوس التغيّر المناخيّ

في عام يُعدّ الأسوأ من حيث كمّيّة المتساقطات في لبنان منذ ثمانين عامًا، بحسب سجلّات مصلحة الأرصاد الجوّيّة في مطار رفيق الحريري الدوليّ، تواجه مستنقعات عمّيق في البقاع الغربيّ والمعروفة بتميّزها البيئيّ والطبيعيّ، واقعًا مأسويًّا مع جفاف مياهها حتّى قبل بداية فصل الصيف.
مشهد الأرض المتشققة، فقدان أنواع من المزروعات وغياب الطيور المهاجرة، يطرح تساؤلات ملحّة حول ما إذا كان هذا الجفاف المبكّر مجرّد حادثة موسميّة عابرة، أمّ مؤشّر خطير على بداية نمط مناخيّ جديد يغيّر وجه لبنان البيئيّ ويهدّد ما تبقّى من أنظمته البيئيّة الهشّة.
عمّيق بمواجهة الجفاف..
مستنقعات عمّيق، رئة البقاع الغربيّ وأكبر الأراضي الرطبة في لبنان بمساحة تُقدّر بنحو 280 هكتارًا (الهكتار 10 آلاف متر مربّع)، تواجه اليوم وضعًا “حسّاسًا، دقيقًا وخطيرًا جدًّا”، بحسب المهندس ميشال سكاف، أحد مالكي الأراضي في المنطقة، الذي أشار في حديث لـ “مناطق نت” إلى أنّ “مياه المستنقعات جفّت بالكامل في شهر حزيران (يونيو)، في سابقة غير مألوفة، إذ كانت تبقى عادة حتّى أواخر أيلول (سبتمبر) أو تشرين الأول (أكتوبر). ترافق ذلك بحسب سكاف مع درجات حرارة مرتفعة نهارًا ومنخفضة ليلًا، تضغط على المياه وتشكّل دليلًا واضحًا على التصحّر”.

وعلى رغم المشروع المتوازن الذي أسّسه آل سكاف في عمّيق للحفاظ على التنوّع البيولوجيّ في المنطقة، إلّا أنّ جفاف المستنقعات أثّر بشكل كبير في الغطاء النباتيّ والتنوّع الحيوانيّ الموجود، حيث شهدت عمّيق، بحسب سكاف، “اختفاءً لبعض النباتات التي تحتاج زراعتها كمّيّات كبيرة من المياه، بينما ظهرت أنواع أخرى لم تكن موجودة من قبل”. وفي حال استمرّ الوضع على ما هو عليه، فسيلجأ سكاف والقائمون على المستنقعات العام المقبل، “إلى حصر المساحات المزروعة تماشيًا مع كمّيّة المياه المتوافرة”.
أمّا بالنسبة إلى الحيوانات التي اتّخذت من عمّيق سابقًا موطنًا لها، أكّد سكاف أنّ “بعضها يحظى بقليل من الرعاية، كالطيور التي هاجر قسم كبير منها. في وقت اختفت الأسماك، وتتّجه الضفادع نحو الانقراض”. وأمام هذا الواقع، كشف سكاف عن تواصل القائمين على المستنقعات مع الهيئات الدوليّة، لمعرفة كيفيّة استقدام بيوض، لإبقاء بعض أنواع الضفادع على قيد الحياة.
محاولات المعنيّين إنقاذ أشجار عمّيق وحيواناتها بالموارد المتاحة، تسبب في ضغط كبير على المياه الجوفيّة التي سجّلت نسبًا قليلة هذا العام، والآبار التي تدنّت معدّلات المياه فيها بشكل كبير، بحسب سكاف الذي تخوّف من خلال “مناطق نت” من “تلوّث المياه وانتشار البكتيريا فيها، ممّا يجعل نوعيّة المياه خطرة، في وقت نشهد وضعًا حسّاسًا، وسيّئًا جدًّا”.
كنج: ما نشهده اليوم، إذا استمرّ، يُعتبر ترجمة حقيقيّة لتداعيات التغيّر المناخيّ والجفاف الذي يضرب المنطقة، والذي ستكون له انعكاسات مباشرة على المزروعات
شحّ يهدّد الكائنات الحيّة
هذا التدهور البيئيّ الذي أثّرت قلّة المتساقطات فيه على مياه عمّيق من جهة وعلى منسوب مياه بحيرة القرعون التي تشهد اليوم 25 في المئة من معدّلاتها من جهة أخرى، تتقاطع مع تخوّف رئيس مصلحة الأرصاد الجوّيّة في مطار بيروت الدوليّ محمّد كنج، من تحوّل الشحّ في المتساقطات إلى نمط دائم، بعدما كان يظهر في لبنان كلّ 10 أعوام إلى 15 عامًا.
ويرى كنج في حديث لـ “مناطق نت”، أنّ “ما نشهده اليوم، إذا استمرّ، يُعتبر ترجمة حقيقيّة لتداعيات التغيّر المناخيّ والجفاف الذي يضرب المنطقة، والذي ستكون له انعكاسات مباشرة على المزروعات التي تحتاج إلى المياه خلال فصل الصيف، وسيرفع من درجات الحرارة تدريجًا، وصولًا إلى الاحترار المناخيّ. بالإضافة إلى فقدان القدرة على زراعة أنواع معيّنة من المحاصيل التي لا تنمو إلّا في درجات حرارة مرتفعة”.
وفي وقت لفت كنج إلى تبدّل حاصل بطريقة هطول الأمطار، حيث تتساقط أمطار غزيرة خلال فترات قصيرة مسبّبة انجرافات بالتربة وفيضانات فجائيّة، يشير الصحافيّ المتخصّص في القضايا البيئيّة مصطفى رعد في حديث لـ “مناطق نت”، إلى “تراجع أيّام الهطول في لبنان. فبعد أن كان يتمتّع بـ 80 يومًا من الهطلان المطريّ سنويًّا، بات يشهد اليوم بين 40 إلى 45 يومًا ماطرًا. كذلك، تراجع عدد الأيّام التي تبقى فيها الثلوج على الجبال من 110 أيّام سنويًّا، إلى ما يقارب الـ 45 يومًا”.
هل تنجح جهود الإنقاذ؟
ليست مستنقعات عمّيق وحدها من تدفع ثمن تغيّر المناخ. فالأراضي الرطبة، باعتبارها بيئات تعتمد بشكل أساسيّ على انتظام تدفّق المياه من الأمطار والينابيع والمياه الجوفيّة، تُعدّ من أولى ضحايا التغيّر المناخيّ. من هنا، يوضح الخبير البيئيّ بّول أبي راشد في حديث لـ “مناطق نت” أنّ “التراجع الحادّ في المتساقطات وزيادة درجات الحرارة، تؤدّي إلى انخفاض منسوب المياه السطحيّة والجوفيّة، وتسارع تبخّر المياه من التربة والبرك، وتغيّر دورة المياه الطبيعيّة، وبالتالي تقلّص المساحات الرطبة بشكل تدريجيّ. بالإضافة إلى اختلال توازن النظام البيئيّ، ما يهدّد وظيفته كمصدر للتنوّع البيولوجيّ وكمخزن طبيعيّ للكربون”.
وعمّا إذا كان ثمّة تأثير لجفاف المستنقعات على مخزون المنطقة من المياه الجوفيّة، يؤكّد أبي راشد أنّ “مستنقعات عمّيق تُعتبر بيئة تغذيّة للمياه الجوفيّة، وجفافها يؤثّر بشكل مباشر في قدرة التربة الرطبة على امتصاص وتخزين مياه الشتاء. إضافة إلى انخفاض معدّل الترشيح الطبيعيّ نحو الطبقات الجوفيّة”. ذلك يؤدّي بحسب الخبير إلى تراجع تدريجيّ في منسوب المياه الجوفيّة وزيادة خطر التصحّر.
لا تبدو السيناريوهات البيئيّة المطروحة متفائلة، بل تشير إلى تحوّلات جذريّة ربّما تطال طبيعة المنطقة ومناخها المحلّيّ، وصولًا إلى تأثيرات أوسع على الأمن المائيّ في لبنان. من هنا، يرجّح أبي راشد أن “يؤدّي استمرار انخفاض هطول الأمطار، إلى جفاف شبه تامّ للمستنقعات خلال أشهر الصيف، وتقلّص مساحتها السنويّة، في وقت ربّما تتحوّل الأراضي الرطبة إلى أراضٍ قاحلة، ممّا يغيّر خصائص التربة ويزيد من خطر الحرائق”.
أضف إلى ذلك، “التأثير في المناخ المحلّيّ للبقاع، حيث سيتمّ فقدان تأثير التبريد الطبيعيّ للمستنقعات، وزيادة الجفاف ودرجات الحرارة. أمّا على المستوى الوطنيّ، فربّما يساهم جفاف هذه المساحات في تسريع فقدان الموارد المائيّة وتدهور الأمن المائيّ”.
المطلوب تدخّل عاجل
كلّ ذلك يمكن تداركه، بحسب الخبير البيئيّ بّول أبي راشد، “من خلال تدخّل عاجل لإعادة إحياء وحماية المستنقعات، عبر تقنيّات الحصاد المائيّ (طرق جمع وتخزين واستخدام مياه الأمطار أو المياه الجارية على سطح الأرض بدل أن تذهب هدرًا)، وإدارة مياه الريّ والصرف المجاور، وضبط الأنشطة البشريّة المؤثّرة”. كذلك يؤكّد أبي راشد “ضرورة وضع نظام مراقبة بيئيّ دقيق، لمراقبة منسوب المياه والتنوّع البيولوجيّ، وإعلان عمّيق محميّة طبيعيّة لحمايتها قانونًا من التعدّيات وضمان إدارتها المستدامة”.
بموازاة ذلك، يشدّد أبي راشد على “ضرورة إشراك المجتمع المحلّيّ في حملات التوعية وحماية الموارد الطبيعيّة، بالإضافة إلى الضغط نحو سياسة مناخيّة وطنيّة تأخذ بالاعتبار المناطق الرطبة كأولويّة في التكيّف مع التغيّر المناخيّ. وزراعة النباتات المحلّيّة المقاومة للجفاف، لتثبيت التربة وتحسين المناخ الميكرويّ”.